أقلام فكرية

الفروض المساعدة وميثودلوجيا برامج الأبحاث عند إمري لاكاتوش (5)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في هذا المقال الخامس والأخير عن الفروض المساعدة ودورها في ميثودلوجيا برامج الأبحاث عند إمري لاكاتوش، وفي هذا يمكن القول: من الأهمية بمكان أن نلاحظ أنه لا يمكن التنبؤ من النظرية فقط، ولكن من ارتباط النظرية مع الفروض المساعدة، وحقيقة فإنه بالكاد يمكن أن تعد الفروض المساعدة جزءا من النظرية .

فالنظرية هي مجموعة من القوانين، والقوانين هي العبارات التي نأمل أن تكون صادقة، ويفترض أنها صادقة بواسطة طبيعة الأشياء ولا يكون صدقها عرضيا فقط، ولا يكون للفروض المساعدة مثل هذه السمة فمثلا نحن لا نعتقد فعلا أنه لا يوجد أجسام سوي الشمس والأرض مثلا كما ورد في الفرض المساعد السالف الذكر، ولكن فقط كل الأجسام الأخري تمارس قوي ضئيلة بدرجة يمكن إهمالها .

فلا يفترض أن تكون الفروض المساعدة قوانين طبيعية، بل هي مجرد عبارات خاصة " بالشروط الحدية Boundary Conditions والتي تعتبر كحقيقة في نسق معينة . إن أحد الفروق الهامة بين النظرية و الفروض المساعدة هو العناية الفائقة التي يوليها العلماء عد ذكر النظرية، بينما أن الفروض المساعدة هي العرضة للمراجعة والتعديل والتنقيح وليس النظرية .

مثال ذلك لقد قبل قانون الجاذبية العامة لأكثر من مائتي عام باعتباره حقيقة لا تقبل المناقشة واستخدم كمقدمة في مبرهنات علمية لا حصر لها . أما الفروض المساعدة والتي لم تؤدي إلي تنبؤات ناجحة في هذه الأثناء فإنها هي التي عدلت وليس النظرية . فلقد أعتبر أن التنبؤات الخاطئة لم تكن نتيجة خطأ في النظرية ولكن نتيجة خطأ في الفروض المساعدة . ومن ثم فإن المتناقضات المصاحبة لنظرية الجاذبية لم تؤد إلي رفضها لأنه من المحتمل أن الخطأ كان في الفروض المساعدة .

ومثال ذلك عندما لاحظ الفلكيون وجود بعض الظواهر غير المنتظمة في حركة الكوكب أورانوس Uranus ولم يكن من الممكن تفسير هذه الظواهر علي أساس نظرية الجاذبية العامة افترض كل من ليفريه Leveries في فرنسا، وأدامز Adams في إنجلترا وجود كوكب آخر لم يكتشف بعد هو المتسبب في الحركات غير المنتظمة لأورانوس . ولقد ثبت صحة هذا الافتراض عندما اكتشف الكوكب نبتون فيما بعد .

ويمكن أن نوضح الرسم التخطيطي لدور الفروض المساعدة في برنامج البحث النيوتوني، وذلك علي النحو التالي :-

إن نظرية نيوتن الكاملة (ولنرمز لها بالرمز ن) تكونت من ثلاثة قوانين في الحركة (ن1، ن2، ن3) بالإضافة إلي قانون الجاذبية ن4 . ومع ذلك، فإنه لا يمكن أن نستمد من ن في حد ذاتها أية نتائج قابلة للملاحظة فيما يخص نظام المجموعة الشمسية . ولكي يتسني لنا ذلك فنحن في حاجة إلي إضافة عدد من الفروض المساعدة إلي ن : منها علي سبيل المثال أنه لا توجد قوى أخري تؤثر في الكواكب غير قوي الجاذبية، وأن التجاذب فيما بين الكواكب ضئيل جدا إذا ما قورن بالتجاذب بين الشمس والكواكب، وأن كتلة الشمس أكبر بكثير من كتلة الكواكب، وهكذا .

ودعونا نرمز لمجموعة الفروض المساعدة هذه التي تلائم حالة ما، بالرمز أ . ستكون لدينا الآن الصياغة الرمزية الأتية : إذا كانت ن1، ن2، ن3، ن4، أ صادقة فإن ل تكون صادقة، لكن ل كاذبة

يلزم عن ذلك كذب (ن1، ن2، ن3، ن4، أ) يلزم أن يكون عنصر علي الأقل من المجموعة (ن1، ن2، ن3، ن4، أ) كاذبا، لكننا لا نستطيع أن نقول أيا منها كذلك .

وكما يوضح تاريخ العلم، غالبا ما تكمن مشكلة حقيقية في البحث العلمي عند تحديد فرض ينبغي تغييره من بين مجموعة من الفروض . وأن نتأمل علي سبيل المثال كشف كل من آدامز ولوفيرييه لكوكب نبتون عام 1846 فمن خلال نظرية نيوتن "ن" بالإضافة إلي الفروض المساعدة، تمكن الفلكيون من حساب المدار النظري لكوكب أورانوس (أبعد الكواكب التي عرفت وقتها).

لم يتفق هذا المدار النظري مع المدار الذي تم ملاحظته . وهذا كان يعني أنه إما أن تكون ن أو أحد الفروض المساعدة كاذبة . توصل آدامز ولوفيرييه إلي حدس افتراضي مفاده أن الفرض المساعد المتعلق بعدد الكواكب كان خاطئا وافترضا وجود كوكب جديد أبعد من أورانوس، وهو كوكب نبتون وحسبا كتلته والموقع الذي يجب أن يكون موجودا فيه حتي يتسبب في الاضطراب الملحوظ في مدار أورانوس . وفي 23 من سبتمبر عام 1846 تم رصد كوكب نبتون منحرفا 52 درجة فقط بعيدا عن الموقع المتنبأ به .

وهذا الجانب من القصة معروف جيدا لكن ثمة أحداثا تالية ترتبط أيضا بدور الفروض المساعدة في برنامج البحث النيوتوني . إذ واجه علماء الفلك في ذلك الوقت، صعوبة أخري تتعلق بعدم انتظام حركة الحضيض الشمسي لكوكب عطارد التي وجد أنها تتقدم أسرع قليلا مما ينبغي أن تكون عليه وفقا للنظرية القياسية . حاول لوفبرييه أن ينهج النهج نفسه، الذي اتبعه في تفسير عدم الانتظام الذي كان يعتري حركة كوكب أورانوس، والذي تكلل للنجاح .

فافترض وجود كوكب أقرب إلي الشمس من كوكب عطارد، وأطلق عليه اسم فلكان Vulcan وله من الكتلة والمدار وإلي غير ذلك ما قد يفسر الزيادة في حركة الحضيض الشمسي لعطارد . ورغم ذلك لم يستدل علي وجود مثل هذا الكوكب .

إن الفرق هنا يكون ضئيل للغاية . وفي عام 1898 قدر نيوكومب قيمته بما يساوي 41024 درجة أي بما يقل عن جزء من ثمانين من الدرجة في كل قرن . ورغم ذلك فإن الانحراف الضئيل للغاية في حركة كوكب عطارد قد تم تفسيره بنجاح بواسطة النظرية النسبية العامة " ن " التي توصل إليها أينشتين عام 1915 لتحل محل نظرية نيوتن " ن " . فقيمة الزيادة في الحركة غير المنتظمة للحضيض الشمسي لكوكب عطارد قد تم تقديرها من خلال النظرية النسبية العامة كانت 42089 درجة في كل قرض، وهو رقم يقع ضمن النطاقات التي وضعها نيوكومب .

ونري أنه علي الرغم من التشابه الشديد الذي يبدو للوهلة الأولي لعدم الانتظام في حركة كل من أورانوس وعطارد، فإن النجاح تحقق في احدي الحالتين بتعيد أحد الفروض المساعدة أما في الحالة الأخري فكان من خلال تعديل النظرية الرئيسية نفسها .

هذا هو الدور الخاص بالفروض المساعدة في برنامج البحث النيوتوني، ويمكننا هنا أن نقدم شرح للمخطط الذي قدمه فيلسوف العلم الشهير هيلاري بوتنام " لاكتشاف كوكب نبتون في إطار النموذج الاستنباطي الناموس، وهو في هذا يعضد الموقف الذي اتخذه لاكاتوش إزاء الفروض المساعدة في برنامج البحث النيوتوني:-

يبدأ الأستاذ بوتنام لاكتشاف كوكب نبتون من خلال تقديم مخططات للمشكلات العلمية في إطار النموذج الاستنباطي الناموسي، وهذه المخططات هي :-

           (1)                     (2)                          (3)

             نظرية                  نظرية                        نظرية

        عبارات مساعدة              ؟؟؟؟                        ؟؟؟؟؟

                 ـــــــــــــــــــــــــــ    ــــــــــــــــــــــــــــ      ــــــــــــــــــــــــــــ

    التنبؤ – صادق أم كاذب     الواقعة المراد تفسيرها           ؟؟؟؟؟

ويعرض المخطط الأول لمشكلات علمية . وفي نمط المشكلة لدينا نظرية ولدينا نظرية ولدينا بعض العبارات المساعدة AS وتوصلنا إلي تنبؤ . ومشكلتنا هي أن نعرف ما إذا كان التنبؤ صادقا أو كاذبا، والحالة مؤكدة بمعيار فلسفة العلم . أما المخطط الثاني للمشكلة فهو مختلف تماما . ففي هذا المخطط من المشكلة لدينا نظرية ولدينا واقعة مفسرة، بيد أننا نفتقد بعض العبارات المساعدة AS، والمشكلة هي أن نعثر علي AS إن أمكن، وهي صادقة أو صادقة تقريبا (أعني أنها تبسيطات عالية نافعة الصدق)، وقد تلحق بالنظرية لنحصل علي تفسير للواقعة . أما المخطط الثالث فيعرض نظرية وبعض العبارات المساعدة، وتصبح مهمتنا هي أن نعرف ما هي النتائج التي يمكننا أن نتوصل إليها. وهذا المخطط الأخير غير مهم لأن المشكلة رياضية بحتة .

ويوضح بوتنام بعض الأفكار الأساسية التي تظهر في تلك المخططات، فيشير إلي النظرية العامة – مثل نظرية الجاذبية العامة – لا تستلزم أي عبارات أساسية . ويعود ذلك إلي أن لكل حركات الأجسام الطبيعية تتفق معها، ما دامت النظرية لا تقول شيئا عن القوي الموجودة بخلاف قوة الجاذبية التي لا تقبل القياس بصورة مباشرة .

وعلي هذا فإذا أردنا استنباط تنبؤات من النظرية – كي نطبقها علي موقف فلكي – فلا بد من تقديم بعض الافتراضات المساعدة . وعلي سبيل المثال عندما نطبق هذه النظرية علي مدار الأرض سيتعين أن نقدم بعض الافتراضات التقريبية، مثل :

1- لا توجد أجسام باستثناء الشمس والأرض .

2- الشمس والأرض يوجدان في فراغ تام .

3- الشمس والأرض لا يخضعان لقوي جاذبة العامة مع العبارات المساعدة أن نستنبط بعض التنبؤات.

لكن العبارات المساعدة ليست صادقة تماما . ولذا نجد العلماء يقدمونها بصورة غير حذرة وموقنة علي العكس ما يفعلون مع النظرية . وبالتالي تخضع هذه العبارات لمراجعة جذرية دائما. ويضرب بوتنام مثلا علي فكرته السابقة بمدار كوكب أورانوس، فقد أثبتت ملاحظات العلماء خطأ التنبؤات القائمة علي أساس نظرية الجاذبية العامة UG ومع افتراض أن الكواكب المعروفة عندئذ هي كل الكواكب الموجودة . وقد تنبأ العالم ليفريه في فرنسا وأدامس في إنجلترا بأنه لا بد من وجود كوكب آخر . وتم اكتشاف ذلك الكوكب بالفعل، وكان هو كوكب نبتون .

إن بوتنام يري أن تلك الحالة التاريخية تضرب مثلا علي فكرة كون عن حل المعضلات، كما يري أن المخطط الثاني يعتبر النموذج المناسب لعرض هذا النشاط فلو سلمنا بصحة الوقائع المعروفة عندئذ عن مدار أورانوس والوقائع المعروفة قبل عام 1864 المتعلقة بالأجسام التي تؤلف النظام الشمسي، والمعيار AS، حيث أن تلك الأجسام تتحرك في فراغ تام، وتخضع فقط لقوي جاذبية متبادلة، الخ . ومن الواضح أن مشكلة ما كانت تواجههم : إذ لا يمكن حساب محور أورانوس بنجاح إذا أفترضنا وجود جميع الكواكب : عطارد والزهرة وزحل وجوبيتر وأورانوس، وافترضنا أنها مع الشمس تؤلف النظام الشمسي الكلي . فلنجعل s1 متجاورة مع AS المتعددة التي سبق أن أشرنا إليها من قبل، ويشتمل ذلك العبارة التي يحتوي فيها النظام الشمسي علي الأجسام المشار إليها علي الأقل . ولكن من الضروري فقط . وعندئذ تواجهنا المشكلة التالية :

نظرية : UG

S1: AS

عبارات مساعدة إضافية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المفسر : مدار أورانوس

وهذه المشكلة لم تصل إلي قوانين تفسيرية أبعد (برغم أنها قد تصل أحياناً في مشكلة تعبر عنها صورة المخطط 3)، وإنما نصا إلي افتراضات أبعد من الشروط الأولية والحدية المتحكمة في النظام الشمسي، بالإضافة إلي قانون الجاذبية العامة والقوانين الأخري التي تؤلف UG (أعني قوانين الميكانيكا النيوتونية) سيتمكن المرء من أن يفسر مدار أوارانوس . فإذا لم يفرض المرء أن تكون العبارات المحذوفة صادقة أو صادقة بصورة تقريبية، سيكون لدينا عندئذ عددا لانهائياً من الحلول المعبر عنها رياضيا إلي حد بعيد . وحتي إذا ضمن المرء في S1 أنه ليس ثمة قوي جاذبية تؤثر علي الكواكب أو الشمس، فسيظل هناك عددا لا نهائيا من الحلول . بيد أن المرء يختبر أولا الفرض الأبسط، أعني :

نظرية : UG

S1.S2: AS

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نتيجة ؟؟؟ - تثبت في النهاية أنها ذلك الكوكب غير المعروف والذي ينبغي أن يكون له مدار معين صفر

وهذه المشكلة تعد مشكلة رياضية ساهم كل من ليفريه وآدامس في حلها (مثال للمخطط 3). لكن حل تلك المشكلة طرح مشكلة أخري هي :

نظرية : UG

S1.S2: AS

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تنبؤ : هل يوجد كوكب يتحرك في مدار صادق أم كاذب ؟

وتعد هذه المشكلة مثالا للمخطط 1 – وهو مثال يفترض المرء عادة لأن أحد عبارات AS، أعني العبارة S2لانعرف علي الاطلاق أنها صادقة ويشار في الواقع إلي S2 علي انها فرض ذو مستوي – منخفض نروم اختباره . بيد أن الاختبار لا يعد اختبارا استقرائيا بالمعني المعتاد، لأن تحقيق لـ S2 – أو هو بالأحري الصدق التقريبي لـ S2 (والتي تعد جميعها ذات أهمية قصوي في هذا السياق)- فلم يكن الكوكب نبتون هو الكوكب الوحيد غير المعروف في عام 1846، وإنما كان هناك بلوتو الذي اكتشف فيما بعد . والواقع أننا كنا نولي اهتماما بالمشكلة عالية في العام 1846، لأننا نعرف أنه إذا كان التنبؤ سيثبت في النهاية أنه صحيح، إذن فذلك التنبؤ هو علي وجه التحديد العبارة S3 التي نحتاج إليها للاستنباط الأتي :

نظرية : UG

S1.S2: AS

ـــــــــــــــــــــــــ

المفسر : مدار أورانوس

وتشير العبارة S3 إلي أن الكوكب المشار إليه في S2 له علي وجه الدقة المدار " صفر" وتلك العبارة هي حل المشكلة التي بدأنا بها . ويستنتج بوتنام ما يلي " أريد أن أقترح أن المخطط الثاني يعرض الصورة المنطقية لما يطلق عليه كون أسم معضلة " ويبحث المرء في هذا النوع من المشكلات العلمية عن شئ ما يسد ثغرة، لكنه لا يحاول استنباط تنبؤات من النظرية، فمشكلته بالأحري تتمثل في إيجاد بعض العبارات المساعدة المناسبة . وبناء علي هذا، تصبح لنظرية العلمية قابلة للتكذيب أو التأييد، ولذا يقول بوتنام " إن مظاهر الفشل لا تكذب النظرية، نظرا لأن الفشل ليس تنبؤا كاذبا من النظرية عندما نضيف إليها وقائع معروفة موثوقا من صحتها . فالفشل هو إخفاقنا في أن نجد شيئا ما، أي أن نجد العبارات المساعدة . ومن ثم فالنظريات تكون إلي حد ما كبير منيعة من التكذيب إثناء مدة سيطرتها .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم