أقلام فكرية

الخير والشر وعلاقتهما بالعدالة الالهية

حاتم حميد محسنكان ابيقور اول من وضع الصياغة الاولى لمشكلة الشر او المشكلة المنطقية للتعامل مع الايمان بالله حيث كتب:"الله اما يرغب في ازالة الشر وهو غير قادر على ذلك، او هو قادر ولايرغب، او هو لايرغب ولا هو قادر، او هو يرغب وقادر. اذا كان الله يرغب وغير قادر على ازالة الشر فهو ضعيف وهذا ما لا يتفق مع شخصية الاله، واذا كان قادرا ولايرغب فهو حسود وهذا ايضا لاينسجم مع الله، اما اذا كان لايرغب وغير قادر فهو سيكون ضعيفا وحسودا في آن واحد، ولذلك فهو ليس اله. وفي حالة كونه يرغب وقادر فهذا وحده ملائما لله. فمن اي مصدر اذاً يأتي الشر؟ او لماذا لايزيله الله.

في القرون الاخيرة صاغ ليبنز (1646-1716) مصطلح العدالة الالهية (theodicy) (1) ليشير الى المحاولات المنهجية في الدفاع عن الايمان بالله في وجه الشر والمعاناة، كالحجج التي عرضها القس اوغستين. وفي السنوات العشرين الاخيرة، قام الملاحدة الجدد امثال ريتشارد دكنز بإعادة الحديث عن العدالة الالهية لتكون في موقع الصدارة، منتقدين اله الانجيل والآلهة الاخرى.

التعتيم على الشر

كانت هناك ردة فعل ضد ذلك النوع من النقاش الفلسفي الذي يجادل متأرجحاً، منتقدا ومدافعا عن مفاهيم معينة لـ لله في العلاقة مع مشكلة الشر. ردة الفعل هذه تأتي من فلاسفة هم انفسهم متدينون. تيرانس تلي (Terrance Tilley) مثلا، في كتابه (شرور الثيودسي) يكتب: "ان الممارسة العادية للعدالة الالهية الاكاديمية همشت واستبدلت وبالنهاية أسكتت اولئك المعبّرين عن الأسف، والداعين الى الله، المواسين للاحزان، والساعين عمليا الى فهم ومواجهة الأحداث والافعال والممارسات الشريرة. يمكن القول ان الثيودسي كممارسة خطابية انما تخفي الشرور الحقيقية بينما تستمر تلك الشرور في الإضرار بالناس" (تيلي، شرور الثيودسي).

لننظر في مسألتين مترابطتين بقوة في ادّعاء الكاتب أعلاه 1- ان الثيودسي تخفي طبيعة الشر الحاصل حقا في العالم. نضيف هنا ان الافكار المضادة للثيودسي هي ايضا مذنبة في هذا الشأن. 2- وفقا لما تتضمنه النقطة الاولى، فان النقاشات الفلسفية حول مشكلة الشر وعلاقتها بالاله هي شائكة لأنها تتجاهل الطرق الاخرى في التعامل مع الشر، وفهمها و مواجهتها. وبما ان هذه الطرق الاخرى ذات قيمة اخلاقية فهذه ستكون مشكلة اخلاقية.

النقطة الاولى هنا تتعامل مع الشر باعتباره متحولا من شيء ما يمارسه المرء الى ظاهرة الشخص الثالث(ادراك الناس الآخرين له). الحقائق الفيزيقية او السايكولوجية السيئة للناس الواقعيين تبتعد عنا عندما تصبح اشياءً او ملاحظات وتحليلات عقلانية."البُعد الفينوميلوجي" بين غرف التعذيب او معسكر Auschwitz النازي من جهة، وجماعات الفلسفة من جهة اخرى، تحتاج الى اعتراف اكبر اذا اردنا ان نكون صادقين في القضية. الاعتراف بهذا يستلزم القبول بان النقاش الاكاديمي يسهل عليه دائما تشجيع بعض عيوب الفهم الخطيرة. اذا كانت طبيعة النقاش حول مشكلة الشر تخفي طبيعة الشر ذاته، عندئذ فان الموقف يصبح اكثر سوءاً.هذا يعيدنا الى النقطة الثانية لدى تيلي بان النقاش بين الثيدوسيين ومعارضيهم يمكن ان يتجاهل انواع اخرى للخطاب، مثل القبول بالشر و مواجهته . كل من المناصرين والمعارضين للعدالة الالهية يمكن ان يكونوا مذنبين في هذا مع ان تيلي يركز على عيوب الفريق الأول. مثال حول هذا ذكره ريتشارد دكنز Richard Dawkins في "خداع الرب". فيما يتعلق بالمواجهة مع الفيلسوف المسيحي ريتشارد سونبرن Richard Swinburne، يذكر دكنز: "حينما كان في حوار تلفزيوني مع سونبرن وآخر من كلية اكسفورد البروفسور بيتر اتكنس. حاول سونبرن تبرير قضية الهيليكوست على اساس انها منحت اليهود فرصة رائعة ليكونوا شجعانا ومتسامين. أجاب بيتر اتكنس بصوت غاضب "ربما ينتظرك عقابا طويلا".(خداع الرب ص 64).

في ردة الفعل على ملاحظات سونبرن كانت المشكلة ليست في ان الفكرة غير منطقية (وهي كذلك)، بل في المعارضة الاخلاقية لسوء الفهم العميق والصمت والانفصال عن الموقف الانساني، الاندفاع للدفاع عن مفهوم معين لـ الله مع ترك الانسانية تغرق في حالة من الاحباط واليأس. سونبرن ربما يُتّهم من خلال ايمانه الوثني بتحويل المفاهيم الى شيء مقدس، وإقامة اماكن عالية للقرابين مع كل ما يقاسيه الانسان لأجل ذلك الهدف.

ان ما اظهره سونبرن حول هذه المسألة التي تحدّث عنها تيلي هو مدعاة للتساؤل. تفضيل الدفاع عن مفهوم الله على المشاركة العاطفية مع ضحايا الشر هو خيار مشكوك به اخلاقيا عند محاولة الدفاع عن الخير.

هذا الاتجاه من تفكير تيلي يمكن تطبيقه ايضا على معارضي الثيدوسية . معارضو الثيدوسية يرون انه من غير العقلاني الايمان بآله متسامح قدير في ضوء وجود الشر. هم احيانا يعرضون هذا كسبب لعدم احترام القوة التي تقدمها الصلاة والصيام والطقوس الدينية. بالنسبة للعديد من معارضي الثيدوسية، هذه المجموعة من الاوهام، مع انها تعطي الأمل، لكنها سوف لن تغير الجدال . هم يقولون ان اتّباع الحجج بشكل محكم سوف يتطلب منّا الرؤية في ضوء فجر باهت، وعالم بدون اله، عالم بلا قلب، بلا روح يجب علينا ان نكون فيه واثقين ذاتيا وفيه جميعنا نكون افضل. هذه الرؤية تفترض ان غير المؤمن هو صائب في جداله. لكنها ايضا تفترض انه بسبب انه على صواب، فان الحجج المنطقية لها وزن اكبر في المواجهة الشخصية مع الشر قياسا بالتجارب الايجابية التي يمتلكها المتدين من خلال انشغالاته الدينية. هو يجب ان يترك انشغالاته الدينية والتزاماته الحياتية بعيدا لأجل الحجة. بالنسبة للعديد من المؤمنين الدينيين مهمة تخفيف عبء المقاومة ضد اليأس والاحباط هي مكملة لإيمانهم، انها ليست شيء يمكن اشتقاقه من مجموعة من العقائد وانما هو نظام حياة كامل تكمن قوته التحفيزية في استقامته. ان منطق اي حجة معينة حول مشاكل الشر يجب ان يُنظر اليها طبقا لمشاعر ومحتوى الفرد ذاته (وجهة نظر الشخص الاول) كجزء من نطاق كامل من الاعتبارات حول كيفية عيش الحياة. هذه الاعتبارات تتضمن مختلف الطرق من التعامل مع الشر والتي نجدها اكثر فاعلية.

جعل المنطق اخلاقيا

سنشير هنا الى نواقص فلسفة النقاشات الدينية. في أحسن الاحوال، النقاش بين انصار ومعارضي الثيدوسية هو مشروع منطقي واخلاقي في آن واحد. ان الايمان او عدم الايمان في آله خيّر ومتسامح وبالانسجام مع وجود الشر هو سؤال عظيم الأهمية لحياة معظم الناس، وان النقاش هو محاولة لمتابعة ذلك السؤال الحيوي. للقيام بهذا بصدق، فان السعي نحو ايمان عقلاني مهما كانت خلفية المرء او ميوله ومهما اصطدمت استنتاجاته مع العقائد القائمة، هو سعي اخلاقي. لذا لابد من استمرار هذا النقاش . انه يجب ان يبقى جزءا من الاستطلاع المستمر داخل وخارج الاكاديميا. من الواضح ان النقاش يمكن ان يقود بعض الناس للايمان بالله وآخرين ليفقدوا ايمانهم. هذه الحجج هي جزء من نسيج مشاورات ورؤى العديد من الناس، ولكن الكيفية التي تنسجم بها الحجج مجتمعة مع الرؤى الشخصية هو سؤال معقد. انه عادة من المعقول ان يُشتق ليس كثيرا من اوامر مفروضة من فلاسفة والتي قد تكون منطقية ولكن من ضرورات الحياة. في بحثنا عن المعنى او البقاء السايكولوجي او الانجاز الشخصي، نحن عادة نهتم بما نعتقد انه من المعقول الايمان او العمل به .من الصعب تبرير الادّعاء في اي دور يجب ان يلعبه الجدال في حياة اشخاص آخرين، بدون الدخول في حوار معهم، وبدون محاولة حقيقية لتقدير موقفهم في الحياة. المفكرون من اي جانب من النقاش الذين يفشلون للقيام بهذا انما تنقصهم المهارة والموهبة، بهذا المعنى تكون الثيودسي سيئة. النقاشات حول مشاكل الشر تكون في احسن حال عندما يضع المشاركون جانبا الرغبة في تحويل شخص ما لوجهة نظرهم في الجدال، وبدلا من ذلك يكونون منفتحين للتبادل الذي يهدف للتعامل عمليا مع الشر بينما في نفس الوقت يفكرون في طبيعته.

لا يجب تجاهل ارتباط التجربة الانسانية ضمن ووراء السؤال عن الايمان بالله . جدالات العدالة الالهية تجد مكانها ضمن سياق الحياة المعاشة وضمن حياة الاخرين.هذا يعني الاحتجاج على عقلانية ديكارت المنفصلة والسماح بان هناك قضايا حقيقية تهم خيارات واقعية حول كيف نعيش الحياة مع وجود خلافات حول السمة المنطقية للحجج الفلسفية. المؤمنون وغير المؤمنين سيقومون بالافضل لو سلكوا هذا الاتجاه.

الملاحدة الجدد كان موقفهم على الشكل التالي: اذا كان الايمان بالله يشكل مأزقا اخلاقيا (حماية من المخاطرة) عندئذ فان اقناع الناس لعدم القيام بهذا سيبدو خيرا اخلاقيا، والايمان بالله يكون حماية من المخاطرة، لذلك فان الجدال ضد العدالة الالهية هو واجب اخلاقي. نحن يجب ان نكون واضحين ان الثيودوسيين يؤمنون انهم لديهم تبرير مشابه في الدفاع عن الله والجدال لإثبات وجوده. اذا كانوا يستطيعون اقناع الناس في الايمان بالله عندئذ بالنسبة لهم هذا خير اخلاقي وحياة اولئك الذين تحوّلوا ستكون أحسن بكثير. لكن هذا موضوع شائك لأن ما هو "خير" الذي تُقيّم به الحياة اخلاقيا هو موضوع عرضة للخلاف. عناصر التقييم الاخلاقي مثل اهمية الجماعة، تكافؤ الفرص، التسامح، الحرية الفردية، هي ذاتها في قلب الخلاف. في كل الاوقات، المقدس و "المقدس العلماني"يتصادمان ولا حل واضح.

الرعاية المشتركة

ان الرغبة في الفهم والعمل المشترك لاتحتاج لتتحطم بسبب الخلاف، كما لاحظ الفيلسوف بول هيج Paul Hedges في كتابه (الدين والالحاد في حوار، 2016): الناس اكثر قدرة للوصول الى فهم مشترك حول التجارب التي يشتركون بها. الناس من جميع القناعات الدينية ومن غيرهم يتقاسمون تجارب الأسى والمأساة واحتمال الموت. هم ايضا يتقاسمون السؤال العملي والايديولوجي الذي يبرز في العلاقة مع الشر والمعاناة: كيف يمكن ان نعيش حياتنا ونستمر نعيشها في اسوأ الظروف؟ التبادل المشترك بين العقائد حول هذا السؤال يحدث في كل الاوقات. عندما ضرب تسونامي عام 2004 حياة البوذيين والمسلمين والهندوس والمسيحيين في اجزاء من جنوب شرق اسيا، العديد من الناس وجدوا الكثير من الصداقات الحميمة ضمن مختلف التعدديات الثقافية بما خلق اكبر نسبة من المجتمعات الانسانية. هم يقدمون للبشرية فرص ثرية للتغلب على سوء الحياة لأنهم بعملهم هذا يقدمون فرصا متميزة ونادرة لتبادل الرؤى والقيم واساليب الحياة . سواء أكانت في المدن او في التواصل الاجتماعي او في القرية العالمية، ستكون الرؤى الالحادية والدينية اكثر غنى في رؤية ذاتها كاجزاء متكاملة في الوطن المتعدد ثقافيا.

 

حاتم حميد محسن

.....................

الهوامش

(1) في عام 1710 استخدم الفيلسوف والرياضي الالماني ليبنز مصطلح ثيودوسي في محاولة لتبرير وجود الله في ضوء عدم الكمال الظاهر في العالم.ثيدوسي تعني الدفاع عن الله، هي جواب لسؤال لماذا آله خيّر يسمح بظهور الشر، وبهذا تُحل قضية الشر. وفقا للثيدوسيين يكون وجود آله قدير وعارف ومتسامح منسجما مع وجود الشر والمعاناة في العالم.هناك العديد من الاتجاهات والنظريات الثيودوسية المتعلقة بتفسير الشر، منها مثلا تفسير اوغستين وعمانوئيل كانط وتوما الاكويني والثيولوجي اليوناني ايريناوس Irenaeus.وبالنسبة للاخير الذي ولد في القرن الثاني الميلادي عرض افكارا توضح ان وجود الشر ضروري لتطور الانسان. هو يرى ان خلق الانسان مركب من جزئين: الناس خُلقوا اولا في صورة الله (ايميج) ومن ثم في الشبه مع الله. صورة الله تنطوي على امكانية تحقيق الكمال الاخلاقي، بينما الشبه مع الله هو تحقيق ذلك الكمال. لكي نحقق الكمال الاخلاقي يرى ارينوس يجب على الانسان ان يمتلك الرغبة الحرة. ولكي ينجز الرغبة الحرة، لابد ان يمارس المعاناة وان الله يجب ان يكون على مسافة معرفية من الانسانية epistemic distance. ولهذا، فان الشر يوجد لكي يسمح للانسان ليتطور كفرد اخلاقي.

 

في المثقف اليوم