أقلام فكرية

كيف تجلت تجارب الفكر في تاريخ وفلسفة العلم (1): المفاهيم

محمود محمد عليتجربة الفكر Thought Experiment بصفة عامة هي طريقة يمارسها العلماء والفلاسفة وغيرهم لاختبار فرض معين عن طريق تخيل موقف ما وما يقال فيه، ويرجع مفهوم تلك التجربة إلي العالم الفيزيائي الدنماركي هانز كرستيان أورستيد Hans Christian Ørsted،  الذي استخدم لأول مرة كلمة " تجربة فكرية " سنة 1812، تحت المسمي الألماني mit Gedanken experimentieren ، والذي يقابل المسمي الإنجليزي experiment with thoughts ؛ أي التجربة من خلال الفكر .

بيد أن تجربة الفكر ارتبطت بشكل رائج بالفيزيائي والفيلسوف النمسوي "إرنست ماخ" في نهاية القرن التاسع عشر، وذلك في مقالته الشهيرة التي نشرها بالألمانية سنة 1897، تحت عنوان  Gedankenexperiment، أي تجربة فكر ؛ حيث أن الـ Gedanken بالألمانية تعني الفكر أو الذهن أو المتخيل، والـ experiment أي تجربة ؛ وهنا دمج ماخ الكلمتين في كلمة واحدة لتفيد تجربة الفكر .

ولذلك فإن الـ " Gedankenexperiment " هو مصطلح مركب من اللغة اللاتينية واللغة الألمانية، والذي تعني في اللغة الانجليزية Thought Experiment ، فقد نظر إليها علي أنها تمثل جزء مهم من مراجعته وتنقيحه للميكانيكا، وهو المجال الأكثر تَأسيساً للمعرفةِ الفيزيائية في ذلك الوقت. إن تجربة الفكر قد أعانت ماخ علي تَزويد الميكانيكا بأساس تجريب (بدلاً من الأساس الغيبي) .

إذن مصطلح " تجربة الفكر" يمثل تكنيك مميز للبحث العلمي، وهذا التكنيك يمثل نظير عقـلي   a mental analogue للتجربة الفيزيائية التي أطلق عليها لقب  Gedankenexperiment . وهذا التكنيك قد لعب دور رئيسي في تاريخ العلم - وبالأخص علم الفيزياء؛ فقد مارسه بشكل عظيم كل من أرسطو وجاليليو وأينشتين وغيره من العلماء.

وبعد ظهور مقالة " ماخ " عن " تجارب الفكر " سنة 1897م، أخذ مصطلح " تجربة الفكر" Thought Experiment  ينتشر في أدبيات الدوائر العلمية ؛ حيث وجدنا عدد كبير من العلماء والفلاسفة والمفكرين، يقبلون بشغف للكشف عن معناها وأهميتها في مضمار البحث العلمي؛ فنجد مثلاً الباحث " اجيل جاليلي "  Igal Galiliيقول أن :" تجربة الفكر هي أداة علمية مميزة تتوسط بين النظرية والتجربة من خلال المحاكاة العقلية mental simulation . إن توضيح معني لتجربة الفكر يتطلب تعلم العلم .وسنتابع الأحداث التي لها العلائقية خلال تاريخ العلم الذي يولي عناية للقيمة الابستمولوجية للنشاط المنجز .وتعريف تجربة الفكر هي مقترحة واستعمال تحليلي يبرز الاختلاف التصوري الثنائي الأبعاد ؛ ولكن الباحث " إرفين " Irvine  في وصفه لقيمةِ تجاربِ الفكرِ في علومِ الفيزياء قال :"إن تجارب الفكر تفهم علي أنها حجج تتعلق بأحداث افتراضية معيّنة أَو حالات  لشئون .

بينما ذهب الباحث " أثانيسيس فيلينزاس " Athanasios Velentzas وآخرون إلي أن " تجارب الفكر تعد عنصر مكمل للتفكير العلمي، فهي تشكل واحدة من الأدوات التصورية من خلال دراسة العلماء للعالم الفيزيائي . وكذلك في تعلم العلم فهي تعد مهمة لطلاب العلم الذين يحلمون بأن يكون لهم دور في بناء العلم . وبهذه الطريقة فإن الطلاب سيصبحونَ علي ألفة بأحد الأدواتِ الرئيسية للفكرِ العلميِ كما أنهم قَد يفهمونَ جيدا المفاهيمِ المجردة لنظريات الفيزياء" .

أما الباحث " ميرامريبر" و" ليورم بورك" Miriamreeiber and Liorm.Burk فقد رأوا أن تجارب الفكر لعبت دوراً مهما في الفيزياء الحديثة، هذا الدورِ ينطلق في الغالب من الفيزياءِ المعاصرةِ في الأنظمةِ بعيدة المنالِ، والتي يصعب تحقيقها في التجاربِ الحاليةِ، مثل فيزياءِ مِقياسِ بلانك .. على الرغم مِن أنها تمثل الأداة التي لا يمكن أن يستغني عنها الفيزيائيين، ولكن تجارب الفكر تمثل الثمار ليس فقط للظاهرة الفيزيائية، ولكن أيضاً خيالِنا وإجحافنا يعد أكثر خطورة. وهذا الخطر سائد لدرجة أكبر بالنسبة للطلابِ.بينما الفيزيائين يشيدون تجاربهم المتخيلة طبقا للفيزياءِ التقليديةِ المتماسكة، والمتعلمون السذج، فقط بدأ مؤخراً في الفيزياء الاهتمام بإكار الفكر.

بيد أن الباحث "ك.ف فيلكز " Wilkes K.V." يؤكد أن " تجارب الفكر تمثل غزواتَ الخيالِ. . . لبيان أن الإطروحة الفلسفية معقولةُ أَو غير قابلة للتّصديقُ.. الذي يَطِيعُ العديد مِن القيودِ على التجريبِ "

كما ذهب الباحث "ج. براون" Brown G.، بأن تجارب الفكر تنجز في معمل الذهن، حيث يصبح تجريب الفكر هو عملية تستخدم لمواقف متخيلة imaginary situations تعيينا علي فهم طريقة الأشياء فهما حقيقياً، والفهم يأتي من خلال انعكاس علي هذا الموقف المتخيل . تجريب الفكر قبلي ؛ وبالأحري عملية تجريبية تعول علي أن التجارب تجري ضمن الخيال ( وكما يقول براون ) علي أنه يمثل معمل الذهن، وهذا المعمل لا يجري مطلقا في الواقع لأنها تعتمد علي الخيال .

وبالتالي تجري التجربة الفكرية " بالخيال القائم علي استنتاجات بعينها بغض النظر عن الصعوبات العلمية التي تحول دون إجرائها الفعلي" ؛ وذلك لكونها تهدف إلي إعطاءنا معرفة قبلية للعالم الطبيعي ؛ علاوة علي أن "الإنسان والطبيعة طرفان لجسر واحد، وما الأجهزة العلمية إلا وسائط نقل لعبور هذا الجسر، تارة تبدأ من الطبيعة نحو الإنسان، وتارة تبدأ من الفكر نحو الطبيعة مكونة الجزء المهم في التجربة العلمية الحديثة، ولكن هناك تجارب فكرية ليست لها أجهزة كما في التجارب الفكرية التي استخدمها أينشتين" .

وهنا نتساءل ما هي المشكلات الرئيسية التي تثيرها تجارب الفكر داخل منظومة البحث العلمي ؟

ويجيبنا فيلسوف العلم الأمريكي " توماس كون " Thomas Khun، علي ذلك ؛ حيث يحدد لنا صياغة المشكلات الرئيسية التي تثيرها دراسة تجارب الفكر عن طريق سلسلة من الأسئلة، ويبدأها " كون "،  أولاً، بالنظر إلي الموقف المتخيل في تجربة الفكر ؛ حيث أنه في نظره لا يمكن أن يكون الموقف تحكمياً بشكل واضح، فما هي شروط رجحان صدقه ؟ وبأي معني ولأي مدي ينبغي للموقف أن يكون واحداً، بحيث يمكن للطبيعة أن تستحضره أو سبق أن استحضرته في الواقع ؟ إن ذلك التعقيد، إنما يشير بدوره إلي تعقيد ثان . فإن سلمنا جدلاً بأن كل تجربة فكر ناجحة تتضمن في تصميمها معلومة قبلية ما عن العالم، فإن تلك المعلومة ليست في حد ذاتها ثمرة التجربة . بل علي العكس من ذلك، إذا تعاملنا مع تجربة فكر حقيقية،فإن المعطيات التجريبية التي تعتمد عليها لا بد أنها كانت معروفة تماماً، ومقبولة بصفة عامة حتي قبل تصور التجربة . كيف يمكن إذن بالاعتماد الكلي علي معطيات مألوفة أن تؤدي تجربة فكر إلي معرفة جديدة أو إلي فهم جديد للطبيعة ؟

ثم يتساءل كون قائلا:" ما نوع المعرفة الجديدة أو الفهم الجدي الذي يمكن اكتسابه هكذا؟ وما الذي يمكن أن يأمله العلماء إذا كان ثمة ما يأملونه علي الإطلاق، في أن يتعلموا من تجارب الفكر؟

ويجيب كون قائلاً"  بيد أنها، فيما اعتقد، ليست صحيحة تماماً، وإنما توحي بأن الفهم الجديد الناتج عن تجارب الفكر ليس فهما للطبيعة، وإنما بالأحرى أداة تصورية للعالم . وبهذا التحليل فإن وظيفة تجربة الفكر هي المساعدة في استبعاد الاضطراب السابق، وذلك بإجبار العالم علي أن يتعرف علي التناقضات التي كانت ملازمة لطريقة تفكيره منذ البداية . وعلي خلاف الكشف عن معرفة جديدة، فلا يبدو أن استبعاد الاضطراب الموجود يتطلب معطيات امبريقية إضافية . كما أننا لسنا في حاجة إلي موقف متخيل كأحد المواقف التي توجد في الطبيعة بالفعل . بل علي العكس من هذا،  فإن الهدف الوحيد لتجربة الفكر هو استبعاد الاضطراب الخاضع لشرط واحد فقط محتمل أن يكون صحيحاً . إذ ينبغي أن يكون الموقف المتخيل واحداً بحيث يمكن للعالم أن يطبق تصوراته عليه بالطريقة التي سبق أن استخدمها في العادة .

وينتهي كون إلي القول:" إن تجارب الفكر تساعد العلماء علي التوصل إلي قوانين ونظريات تختلف عن تلك التي كانوا يتمسكون بها من قبل، وفي تلك الحالة يمكن أن تكون المعرفة السابقة " مضطربة " و" متناقضة" فقط بمعني خصوصي ولا تاريخي تماماً، سيعزي الاضطراب والتناقض إلي كل القوانين والنظريات التي أجبر التقدم العلمي المهنة علي نبذها . ومع ذلك، فمن المحتم أن يوحي الوصف بأن تأثيرات تجربة الفكر حتي علي الرغم من أنها لا تقدم معطيات جديدة إلا أنها تكون أقرب كثيراً إلي تلك التأثيرات الخاصة بالتجربة الفعلية مما كان مفترضاً  عادة " .

مما سبق فإن تجربة الفكر تعد أداة علمية خاصة تتوسط بين النظرية والتجربة من خلال استيعاب عقلي .ولتوضيح معني تجربة الفكر لكونها مطلوبة في تعليم العلم، فعلينا أن نتابع الحوادث العلائقية خلال تاريخ العلم الذي يدفعنا لمعرفة القيمة الابستمولوجية للنشاط المنجز .وتعريف تجربة الفكر تعريف مقترح ومعناه استخدام يحلل الاختلاف التصوري الثنائي . هذا المنهج يسمح للمرء في أن يضع تجربة الفكر في مقارنة مع التركيبات التصورية المعرفة أيضاً . والنظرة المعروفة المستخدمة لتصنيف استخدامات تجارب الفكر وبشكل رئيسي لأغراض منهج العلم.

وبعد أن عرضنا لمفهوم تجارب الفكر، نود أن نشير أن هناك نوعين من تجارب الفكر : تجارب الفكر العلمية، وتجارب الفكر الفلسفية، ومن تجارب الفكر العلمية  ونذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر :- تجربة سقوط الأجسام عند جاليليو وكذلك تجربته في السفينة Galileo`s ship، وتجربة تفاحة نيوتن Newton Bucket، وتجربة قطار أينشتين Einstein Elevator المنطلق بسرعة الضوء والتي تنعت بتجربة "البرق والقطار"، وتجربة عفريت ماكسويل Maxwell`s Demon ، وتجربة قطة شرودنجر Schrodiner`s cat، والتجربة المتخيلة التي افترضها أينشتين وبودولسكي وروسن والتي تسمي EPR paradox، علاوة علي بعض التجارب الفكرية التي أقامها بعض أصحاب ميكانيكا الكم، مثل تجربة GHZ experiment ، وتجربة Quantum Suicide، وتجربة Wigner`s Friend  .

أما تجارب الفكر الفلسفية فنذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر :- تجربة Plato`s Theory of refraction عند أفلاطون، وتجربة Zeno`s paradoxes، ثم هناك تجارب فكرية أدخلها بعض المتخصصين في فلسفة العقل مثل تجربة Swamp man التي نادي بها دافيدسون، وتجربة كواين عن  " دعوي اللاتحديد في الترجمة "، وتجربة الحجرة الصينية Chinese room التي قال بها جون سيرل، وتجربة حجرة ماري Mary`s room"  "، وتجربة" الأرض التوأئمية Twin Earth thought experiment التي نادي بها هيلاري بوتنام، كذلك تجربة الأخري وهي تجربة العقل في قارورة  Brain-in-a-vat .

وهنا نتساءل ما الفرق بين تجربة الفكر العلمية وتجربة الفكر الفلسفية؟

تجارب الفكر العلمية هي ببساطة تلك التي تتعلق بمادة موضوع علمي في حين تجارب أن الفكر الفلسفية فهي عكس ذلك تتعلق بمادة موضوع غير علمي . وقد حاول George Bealer، أن يميز في تجارب الفكر الفلسفية وتجارب الفكر العلمية بين مادة الموضوع العلمي والغير العلمي ، فقد ميز بين الحالات المتخيلة التي تكون مستعملة لاستدعاء الحدوس الفيزيائية من تلك التي تكون مستعملة لاستدعاء حدوس بشأن تطبيق المفاهيم الغير فيزيائية . الأول يتضمن سؤال القارئ في أن يحدد ما يحدس في السيناريو المتخيل المعطي، والذي يفترض أن القوانين الطبيعية تكون ثابتة، والثاني يتضمن سؤال القارئ في أن يقرر فيما إذا كان السيناريو المحدد هو ممكن منطقياً أو ميتافيزيقياً أو فيما إذا المفهوم المعطي ينطبق علي هذا السيناريو. وقد أثبت Bealer مصطلح تجارب الفكر يجب أن يكون محجوزاً لحالات النوع الأول، وتقريبا الفئة التي تشير إلي تجارب الفكر العلمية.

وقد اقترح Tamar Szabo Gendler (2000، ص 25-27) تصنيف مختلف بين تجارب الفكر العلمية، وتجارب الفكر الفلسفية، فقد ميز بين تجارب الفكر المتصنعة factive والتصورية، والتخمينية valuational ؛ حيث يكون السؤال المثار طبيعياً وموصوف من خلال ما الذي يحدث؟ وتجارب الفكر المتصنعة تتضمن مادة موضوع علمي، في حين تكون تجارب الفكر التصورية والتخمينية تتضمن مادة موضوع فلسفي.

وقد قدم جيمس روبرت براون James Robert Brown (1991) تصنيفا لتجارب الفكر العلمية . فقد ميز بين تجارب الفكر التدميرية destructive وتجارب الفكر البنائية constructive وينقسم الصنفِ الأخيرِ إلى توسطيِ وتخميني ومباشر. وتجارب الفكر التدميرية تتضمن أمثلة متخيلة مصممة للكشف عن الصعوبات عن طريق نظرية معينة،وأما تجارب الفكر البنائية فتهدف إلي إقامة نتائج إيجابية. وداخل صنف تجارب الفكر البنائية فإن تجارب الفكر التوسطية هي التي تسهل رسم خاتمة مِن نظرية معينة موضوع بشكل جيد، وتجارب الفكر التخمينية هي التي تهدف إلي التفكير بشأن سيناريو متخيل للأمور التي تجعلنا ونحن ندرس الظاهرة بأن نتجنب نوعا ما التفسير النظري، وأما تجارب الفكر المباشرة فهي لنظرية مؤسسة جيدا . وتجارب الفكر التدميرية والبنائية أطلق عليها براون بأنها أفلاطونية حيث علق عليها قائلا أنها تمدنا بمعرفة قبلية عن الطبيعة .

حين ظهر العلم الحديث، في حوالي عام 1600م بدأ المذهب التجريبي يتخذ شكل نظرية فلسفية إيجابية قائمة علي أسس متينة، يمكن ان تدخل في منافسة ناجحة مع المذهب العقلي . وكان العصر الحديث هو الذي ظهرت فيه أعظم المذاهب التجريبية، أعني مذاهب "فرنسيس بيكون F.Bacon (1561-1626) وجون لوك J.Locke (1632-1704)، ويفيد هيوم D.Hume (1711-1776)، وجون ستيوارت مل J.S.Mill (1806-1873) ؛ حيث كان الاهتمام الرئيسي لدي هؤلاء جميعاً، ينصب حول الطريق المؤدي إلي الكشف عن القوانين، واعتقدوا أنه من الممكن رسم منهج لتحقيق ذلك، قد حاولوا  تشييد منطق للكشف موازياً لمنطق البرهان، وقاما بصياغة المناهج التي من وجهة نظرهما، تمكن من اكتشاف قوانين الظواهر كنتيجة لتحليل وقائع الملاحظة والتجربة ؛ فالعالم لابد أن يقوم بملاحظة أمثلة عدة للظاهرة موضوع الدراسة، ملاحظة دقيقة، مقصودة، منتقاة، وهادفة، مرتبة ومتواترة، تتصف بالنزاهة والموضوعية والدقة التي توجب استخدام الأجهزة المعملية إلي أقصي حد ممكن للتكميم الدقيق . وما التجربة المعملية إلا اصطناع الظروف المطلوب ملاحظتها، عن طريق مجموعة من العمليات التي يتم بمقتضاها إحداث ظاهرة ما في المختبر، بهدف دراستها والوصول إلى بناء معرفة حولها . فالفيلسوف التجريبي " لا يزعم أنه كشف نوعاً جديداً من المعرفة يعجز العالم عن الوصول إليه، وإنما هو يقتصر علي دراسة المعرفة المستمدة بالملاحظة وتحليلها، سواء أكانت معرفة علمية أم معرفة عادية، ويحاول فهم معناها ومضموناتها ".

بيد أن هذا التصور للتجربة والتجريب، قد تغير تماماً مع التطور الذي عرفه العلم على جميع مستوياته النظرية والعملية في القرن العشرين، بحيث أصبح موضوع العلم، لا يتمثل في التجربة الحسية المباشرة، بل يبنى عقلياً؛ فالكون الماكرو- فيزيائي Macro physique باعتباره واقعاً، هو بدرجة هائلة من الكبر والاتساع، يعجز معه العلم - بأدواته وتقنياته المتطورة، الإحاطة به في شموليته، كما أن عالم الذرة اللامتناهي في الصغرMicro physique، قد برهن هو أيضاً على صعوبة التقيد بالتجربة بمعناها التقليدي . فأي " تجربة تلك التي يمكن أن تجري علي المجرات أو الكواركات وعلي العكس من ذلك نشأ ما يعرف بالتجريب الذهني أو التخيلي Imaginative Experiment والأهم من ذلك، إعادة النظر في كثير من المصطلحات المنهجية والفلسفية التي ولدت واستقرت وتشربت بروح فيزياء نيوتن".

ولذلك وجدنا معظم علماء الفيزياء وفلاسفة العلم في القرن العشرين، قد أدارو ظهورهم لمنطق اليقين التجريبي، واستحدثوا معايير أخري غير المعايير التي اعتادوا عليها في ظل فيزياء نيوتن التي سيطرت علي العقل العلمي، بسبب اكتشاف زيف فرض الاثير، وأنه فرض ميتافيزيقي، ولا يمكن أن يبني منطق التحقق المعاصر علي ردود الأفعال، بل علي الفهم الصحيح لمنطق العلم . إذ كيف أتحقق مما لا أراه. إذن في ظل التطورات العلمية المعاصرة ليس هناك تجارب حسية - ذات واقع تجريبي في تاريخ العلم، فهل عندما نادي ديراك بنظريته عن الوجود السالب ( البوزيترون   Positron) كان يتكلم عن الواقع التجريبي، أو بالأحري عن عالم ما وراء الخبرة .

فلنقارن مثلاً بين كل التجارب المعملية التي كان العلماء يجريها في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وبين تجربة المصعد عند " أينشتين Einstein " ( 1879 م– 1955م) علي سبيل المثال لا الحصر، نجد أن الفرق شاسع، لأنه فرق بين عصرين، عصر كان يعاني من أزمة قديمة، فألقي بكل ثقله علي التجربة الحسية المباشرة، ورأي فيها القول الفصل في صدق أية قضية علمية، وعصراً آخر لا يري بأساً من الاعتماد علي التجربة الفكرية Thought Experiment  بعد أن أفلت الواقع من مصداقية الخبرة .

فكما نعلم أن التجربة كانت فيما سبق تتم عن طريق توفير الشروط اللازمة لحدوث الظاهرة المدروسة، حيث يعاد إحداثها ثانية في المختبر، ولما كانت هناك تجارب يصعب إجرائها في المعمل لجأ العالم إلي التجربة الفكرية الذي أضحي الخيال من خلالها يمنح الواقع غنى لا يمكن الوصول إليه بالتجربة بمعناها الكلاسيكي، وهو الذي لا يشكل المقوم الرئيس لهذا المنهج العلمي المعاصر. خاصة إذا علمنا أن حيثيات التجربة العملية وشروطها ليست دائما ممكنة، فاللجوء إلى التجربة الفكرية- المتخيلة أمراً ممكناً وضرورياً خصوصاً عندما يشتغل العالم علي موضوعات خارج الماكروسكوبية، وهذا ما يمنح للتجربة الفكرية قوة اقتراحيه في بعض الأحيان وإجرائية في بعض المجالات، مما يطرح العديد من الإشكالات على نظرية المعرفة التقليدية التي ترى التجربة بمعناها الضيق مصدراً لجميع المعارف.

لذلك فالتجربة الفكرية تعد عنصر مكمل للتفكير العلمي، فهي تشكل واحدة من الأدوات التصورية من خلال دراسة العلماء للعالم الفيزيائي . وكذلك في تعلم العلم فهي تعد مهمة لطلاب العلم الذين يحلمون بأن يكون لهم دور في بناء العلم . وبهذه الطريقة فإن الطلاب سيصبحون علي ألفة بأحد الأدواتِ الرئيسية للفكرِ العلميِ كما أنهم قَد يفهمونَ جيدا المفاهيمِ المجردة لنظريات الفيزياء في العشرين.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم