أقلام فكرية

كيف تجلت تجارب الفكر في تاريخ وفلسفة العلم (4): بيير دوهيم - توماس كون

محمود محمد علينعود ونختتم حديثنا عن تجليات تجارب الفكر في فلسفة العلم، حيث نتحدث في هذا المقال عن موقف فلاسفة العلم من تجارب الفكر كان إرنست ماخ يري أن الـ " Gedankenexperimente" تشير بشكل حصرى إلي المنتج المتخيل imaginary conduct  لتجربة واقعية يمكن أن تشكل من خلال تلامذته (حيث يظهر التعارض بين التجريب الفيزيائي والتجريب الذهني) ؛ حيث سأل ماخ تلامذته أن يزودوه بتفسير عما إذا كانت نتائج التجربة العملية اختلفت عما كانوا قد تخيلوه في عقولهم أو متخيلاً عنها من خلال تجربة في الذهن، ولذلك فإن تجارب الفكر تشكل تكنيك مميز للبحث العلمي، كما أنها تمثل منهج رئيسي في تاريخ العلم وتوظيفه الحذر، يقول ماخ " يؤدي إلي تغييرات هائلة في تفكيرنا ويعبد طرق جديدة هامة للبحث

كما أكد ماخ :" أنه لا توجد هناك أفكار تبرهن عما هو فطري لدي الإنسان بقدر ما توجد هناك نزعة نحو التجربة . بينما كل التجارب تكون موجهة بالنظرية وليست كل التجارب تتطلب المعمل . فبعض التجارب تقوم بشكل خاص علي الخيال حتي وإن كان دورها يتحقق بشكل زائد عن الحاجةُ . ماخ أكد علي أن قيمة تجارب الفكر تمثل تقنيات للكشف techniques of discovery (دائرة كورنو Carnot`s Cycle) كأدوات نقدية للبحث (نقد جاليليو لديناميكا أرسطو) من خلال استخدام أفكار الـ Gedankexperiment المختبرة في الفكر قبل اختبارها في المعمل " .

إلا أن التجارب من خلال الخيال كما يقول ماخ :" قد أجيزت في قرون عديدة قبل ماخ، ولذلك قال ماخ أنه رغم كونه تجريبي، إلا أنه أدرك المغزي الخاص للعلم . وتجارب الفكر مع تمثيلاتها وترتيباتها التجريبية الفرضية غالبا ما تتطلب برحيل جذري عن التمسك بالوقائع . فالعقل أو الفكر يتطلب قفزة، ليس فقط بمساعدة النتائج التجريبية ولكن ربما يكون من خلال الخيال فقط ".

وفي كتاب العلم والرياضيات أفرد "ماخ" بعض الصفحات لتحديد معنيGedankenexperimente، حيث كتب يقول :" نحن نلاحظ أن كل شئ يطبع نفسه بشكل غير مفهوم وغير محلل في تصوراتنا وأفكارنا  والتي تقوم بعد ذلك بتقليد عملية الطبيعة وفي أكثر وأعظم ملامحها المميزة . وفي تلك الخبرات المتراكمة فإننا نمتلك منجم الذي يقترب من جهة والذي منه فقط يكون الجزء الأصغر متجسد بوضوح في الفكر الواضح المفصل . الظرف يكون من السهل عليه اللجوء إلي تلك الخبرات من الطبيعة نفسها، وأنه بالرغم من هذا فله الحرية أن ينزع إلي كل ذاتية تَستثمرُهم بالقيمةِ العاليةِ

ومن ناحية اخري أكد ماخ أن :" تجربةَ الفكر تسبق التجربة الطبيعية وتمهد الطريق أمامها. وفي الواقع فإن أبحاث أرسطو الفيزيائية انبثقت معظمها من التجارب الفكرية التي فيها تتجسد مخازن الخبرة الباقية في الذاكرةِ، وخصوصاً في اللغة المستعملة. ومع ذلك فإن تجارب الفكر أيضا ضرورية كشرط سابق للتجربة الفيزيائية . كل مخترع وكل مجرب لا بد وأن يكون في عقله الأمر المفصل قبل أن يتحقق منه .

ثم يؤكد ماخ بأن "تجربة الفكر ليس لها نتيجة محددة، بمعني أنها ليست مرتبطة بتصور ظروف معينة واضحة وتوقع محدد للنتيجة . ثم في اللحظة التي تكون بين التجربة العقلية Intellectual Experiment، والتجربة الفيزيائية فإننا في العادة نعيش لحظة التخمين . ولهذا يقال بأننا نفترض عن طريق التخمين التحديد الأقرب والحاسم للنتائج. وهذا التخمين غير علمي ميثودولوجيا methodologically .ويمكن أن نوضح هذه العملية الطبيعية بأفضل الأمثلة الكلاسيكية. وعن الفحص الأقرب فإنه يصبح من الواضح بالنسبة لنا أن التخمين هو غالبا ما يمثل طريقة متفردة لتجنب الشكل الذي يأتي من خلال التجربة الفيزيائية . (الاستمرار الطبيعي لتجربة الفكر) . لقد إتجه جاليليو للتنظير (يعني هنا تجربة الفكر) قبل أن يبرهن تجريبيا علي حركة سقوط الأجسام . لقد فهم جاليليو ذلك فقط من خلال الاستبصار أو الانعكاس وذلك من خلال زيادات السرعة.وتجربة جاليليو فقط أصبحت ممكنة من خلال اختبار الفرض . وفي مثل حالة قانون Richmann الأخلاط Mixtures كان من خلال التخمين الذي ثبت من بواسطة إختبارِ تجريبيِ، وهناك جداً العديد مِنْ أمثلةِ هذا النوعِ.

ويري ماخ أن:" إن حصيلة هذا المنهج القائم علي التخمين هو ترتيب تجريبي معطى له إذا يمثل أيضاً قيمة تعليمية عالية. كما أن القواعد الذي يتعلمها تلميذ مدرسة كانت بالنسبة لي متمثلة منذ فترة قصيرة المعلم الذي يضع هذا المنهج ويعرف كيف يقيس مستوي الطالب pisko الذي جاء بمناسبة زيارته لمدرسته كان أحد المعلمين الممتازين الآخرين، وقد حذوت نفس هذا المنهج . ليس فقط الطالب ولكن حتي المعلم يكسب صفقة عظيمة من هذا المنهج . ومن خلال هذا المنهج يكون المعلم علي ما يعرفه تلميذه . بينما بعض التلاميذ يخمن الخطوة التالية من نتائج تخمين الآخرين الذي أصبح مألوفا بشكل عام . ومن الواضح بشكل حدسي أن ما يعتمد علي التخمين هو الذي سوف يكون هو المتاح . كما في قصة العبد في محاورة مينون لأفلاطون والذي أعتقد أن تضاعف لجوانب المربع الذي يضاعف أيضا منطقة المربع . وعن الاستماع بسهولة من طالب المرحلة الابتدائية بأن مضاعفة طولِ البندولِ تضاعف فترة التذبذب. الطالب المتقدم سيصل إلي حد ما إلي الابداع ولكن بأخطاء مماثلة. حتى هذه الأخطاء ستققل تدريجيا من حدة التعاطف مع الامتيازات بين ذلك المحدد خلال الارتباط  أَو التخمين . الطالب سيتعلم أن يميز بين القابل للحل من غير قابل للحل عموماً .

كما رأي ماخ بأن تجربة الفكر تمثل التحولات العظمي لتفكيرنا وتكشف الطرق الأهم للبحث ؛ ولذلك لكونها تعد أداة علمية خاصة تتوسط بين النظرية والتجربة من خلال استيعاب عقلي . علاوة علي أنها مطلوبة في تعليم العلم .

وفي الوقت الذي يعلي فيه ماخ من شأن التجارب الفكرية، كان هناك بعض الفلاسفة ينتقدون بشدة التجارب الفكرية، ومن هؤلاء الفلاسفة،:  العالم والفيلسوف الفرنسي "بيير دوهيم" Pierre Duhem  (1861-1916)، حيث نظر إليها بأنها "مزيفة ومضللة bogus and misleading  ؛ وأكد أنه لكي نشهد هذه التجربة لا بد أن تعمل التجربة عملها من خلال الوقائع التي يمكن التنبؤ بها بالفعل وفي هذا يتساءل دوهيم بتهكم :" ما الذي تكونه التجربة الفيزيائية علي وجه الضبط ؟ لاريب أن هذا السؤال سوف يثير دهشة أكثر من قارئ . هل ثمة حاجة لإثارته ؟ أليست الإجابة عنه بينة بذاتها ؟ ما الذي يمكن للتعبير  " القيام بتجربة في علم الفيزياء " أن يعنيه بحيث يتسني ملاحظتها بدقة باستخدام أجهزة مناسبة ؟ اذهب إلي المعمل واقترب من هذه المنضدة المكتظة بالأجهزة : نضيدة كهربائية، سلك نحاسي ملفوف بالحرير، أنابيب مليئة بالزئبق، ملفات، قضيب حديدي يحمل مرآة . يدخل الملاحظ ساق قضيب معدني مغطي بالمطاط في ثقوب صغيرة، فيتذبذب القضيب الحديدي ويرسل عبر المرآة شعاعاً يسلط علي مسطرة سيلولوز، فيتابع الملاحظ حركة الضوء الساقط . لا شك أن لدينا هنا تجربة، فيتذبذب بقعة الضوء يلحظ العالم الفيزيائي تذبذب القضيب الحديدي . اسأله عما يقوم به، فلن يخبرك بأنه يدرس تذبذب قضيب الحديد الذي يحمل المرآة، بل سوف يقول إنه يقيس درجة مقاومة الكهربائية . إذا سألته عن معني ما يقول وعن علاقته بالظاهرة التي ادركتماها معا في نفس الوقت، سوف يخبرك بأن سؤالك يستدعي تفسيرات مطولة وقد ينصحك بدراسة إحدى مواد علم الكهرباء . صحيح أن التجربة التي شاهدتها لتوك، كأي تجربة فيزيائية أخري، تتكون من جزأين . إنها تتكون من ملاحظة حقائق بعينها، وللقيام بهذه الملاحظة يكفي أن تكون يقظً ومنتبهاً إلي حد كاف بإحساسك . لا حاجة لك بالدراية بالفيزياء، وقد يكون مدير المعمل أقل مهارة في هذا الخصوص من مساعده من جهة أخري، فإنها تتكون من تأويل الحقائق الملاحظة . فللاقتدار علي إنجاز هذه المهمة لا يكفي أن تكون منتبها وأن تكون لديك عين مدربة، بل يتوجب أن تكون علي دراية بالنظريات التي تم التسليم بها وبكيفية تطبيقها . " .

ويستطرد دوهيم :" هناك أشياء أسوأ تمثلت في أغلب الأحيان التجربة الخيالية ليس فقط ليست مدرَكة، لكن عاجزة عن أَن تدرَك، يَفترض وجود الأجسامِ ليس مصَادَف في الطبيعةِ ومِنْ الخصائص الفيزيائية الذي ما سَبَق أَن لوحظ"

وعلي هذا الأساس صنف دوهيم تجارب الفكر علي أساس أن التجربة الفعلية المطابقة هي تجارب مستحيلة وغير فعالة وغير مؤدية للغرض والتجربة الفكرية بالتالي هي  التي لا يمكن أن تكون مؤدية بدقة وغير دقيقة فيزئائيا وهي تتميز بالسخف .

وننتقل إلي الحديث عن موقف كارل بوبر من تجارب الفكر ؛ حيث ذكر من قبل أنه قد خصص جزء للحديث عنها في رائعته الفلسفية " منطق الكشف العلمي "بعنوان" حول استعمال وسوء استعمال التجارب المتخيلة ولا سيما في نظرية الكوانتم On the Use and Misuse of Imaginary Experiments " ؛  فبوبر قد أثبت ثلاث استخدامات للتجارب الخيالية imaginary experiments ''  في الفيزياء : - المساعد علي الكشف النقدي critical  heuristic،  ويعطينا بوبر مثال لذلك تجربة سقوط الأجسام لجاليليو، حيث يعتبرها بوبر بأنها " واحدة من أعظم التجارب المتخيلة الهامة في تاريخ الفلسفة الطبيعية وواحدة من أبسط وأعظم الحجج  المتخيلة في تاريخ الفكر العقلاني بشأن عالمنا الكوني الذي تشكل من خلال نقد جاليليو لنظرية الحركة عند أرسطو .

ويشرح بوبر محاوره تلك التجربة فيقول:" إن تفنيد الافتراض الارسطوطاليسي يقوم علي أن السرعة الطبيعية للجسم الأثقل أكبر من السرعة الطبيعية للجسم الأخف . ولو أخذنا حركة جسمين كما برهن علي ذلك جاليليو من خلال فكرة الشخص الناطق فإن ذلك يعني أن السرعات الطبيعية لهذين الجسمين تكون غير متكافئة ولتوضيح ذلك إذا ربطناهم معاً فإن الجسم الأبطأ والأسرع سوف سوف يجعل الأخير وهو الأسرع جزئياً سوف يتجه ناحية الأبطأ، والأبطأ جزئيا سيزداد سرعته بواسطة الأسرع . ولذلك مثلا لو تحرك حجر كبير بسرعة ثماني خطوات وحجر آخر أصغر يتحرك بسرعة أربع خطوات فإن بعد التحاقهما مع بعض فإن النظام المركب سيتحرك بسرعة أقل من ثماني خطوات. ولكن الحجرين الملتحقين مع بعض يصنعان حجر أكبر من الأول والذي يتحرك بسرعة ثماني خطوات. ولذلك الجسم المركب (رغم أن الجسم المركب أكبر من الأول لوحده) ومع ذلك سوف يتحرك بشكل أبطأ من الأول لوحده، والذي علي عكس ما افترضت . ومنذ ذلك أضحي هذا الافتراض الارسطوطاليسي من الحجج التي بدأ تفنيدها وبيان تهافتها " .

ويعلق بوبر علي كل ذلك فيقول :" وأري أن في التجربة المتخيلة عند جاليليو نموذج متقن للاستخدام الأحسن للتجارب المتخيلة . إنها تمثل استخدام نقدي . ومع ذلك فإنني لا أرغب في أن أقترح أنه لا توجد طريقة أخري لاستخدام تلك التجارب .ولاسيما وأنه يوجد هناك استخدام كشفي heuristic use يكون متاحا . ولكن يوجد هناك استخدامات أقل قيمة أيضاً.

ثم يتنقل بوبر للحديث عن التجارب المتخيلة بشكل تبريري ومتعذر، فيؤكد أن تلك التجارب قام بها اصحاب تفسير كوبنهاجن the Copenhagen Interpretation، حيث أساؤا إستعمال التجارب المتخيلة :"   إن الغرض الأساسي من هذه الملحوظة، هو أَن يصدر تحذير ضدّ ما يمكن أن يسمي بالاستخدام التبريري للتجارب المتخيلة . وهذا الاستخدام يرجع فيما اعتقد إلي المناقشة لسلوكِ قياس القضبانِ والساعاتِ  measuring rods and clocksُ من وجهة نظر النسبية الخاصة . وفي البداية فإن تلك التجارب قد استخدمت  بطريقة إيضاحيِة وتفسيريِة – استخدام شرعي بشكل متقن . إلا أنه بعد ذلك وبالذات في مناقشة نظرية الكوانتم والتي كانت قد استخدمت في ذلك الوقت كحجج متمثلة في مزاج نقدي وفي مزاج دفاعي أو تبريري .(في هذا التطور فإن الجزء الهام قد برز من خلال الميكروسكوب التخيلي imaginary microscope عند هيزنبرج خلال الميكروسكوب الذي يمكن أن يلاحظَ الألكترونات .

وننتقل إلي الحديث عن مفهوم التجارب الفكرية عند توماس كون، حيث كتب سنة 1977، بحث بعنوان "وظيفة لتجارب الفكر"، وفي هذا البحث حاول تحليل الدور الذي تقوم به تجارب التفكير أو التجارب المتخيلة في توضيح مظاهر اللبس في معني المفاهيم والنظريات القائمة، وبالتالي تمهيد الطريق أمام ظهور مفاهيم جديدة غيرها .

وتجارب الفكر في نظر هي تلك التجارب التي تبدأ في الظهور عندما يتعرض النموذج الارشادي لأزمة أثناء فترة العلم القياسي، فتنشأ أسئلة عن التقنيات التجريبية الأساسية "منهجية النموذج الارشادي"، وعن الفروض الأساسية للبنية النظرية للنموذج الارشادي،وغالبا ما تنشأ الأسئلة الميتافيزيقية التي لم ترد أبدا صراحة في فترات العلم القياسي، فتكثر تجارب الفكر، التي تلعب دوراً نقدياً هاماً في تطور العلم الفيزيائي – كما يقول كون – لذلك يبدأ كون مقالته" وظيفة لتجارب الفكر " بعرض المواقف العلمية التي لم تفحص في المعمل، كما هو الحال مع قطار أينشتين المنطلق بسرعة الضوء، وميكروسكوب بور – هيزنبرج . فتؤدي هذه الحالة إلي إحداث سلسلة من الارتباطات، يفحص منها كون ثلاثة في (بحثه) ويبدأ في صياغة المشكلات الرئيسية التي تثيرها دراسة تجارب الفكر عن طريق سلسلة من الأسئلة، السؤال الأول هو : بالنظر إلي الموقف المتخيل في تجربة فكر لا يمكن أن يكون تحكمياً بشكل واضح فما هي شروط رجحان صدقه؟ وبأي معني ولأي مدي ينبغي للموقف أن يكون واحدا، بحيث يمكن للطبيعة أن تستحضره، أو سبق أن استحضرته في الواقع؟ ويؤدي هذا إلي سؤال ثان هو: " كيف يمكن، بالاعتماد الكلي علي معطيات مألوفة، أن تؤدي تجربة فكر إلي معرفة جديدة أو إلي فهم جديد للطبيعة؟ " ويؤدي هذا بدوره إلي إثارة السؤال الثالث وهو: "ما نوع المعرفة الجديدة أو الفهم الجديد الذي يمكن اكتسابه هذا؟ وما الذي أن يأمله العلماء، إذا كان ثمة ما يأملونه علي الإطلاق، في أن يتعلموا من تجارب الفكر؟ "ويجيب كون عن هذه الأسئلة من خلال توضيحات استقاها من التاريخ وعلم النفس معاً .

وهنا يناقش كون إحدى تجارب جاليليو المتخيلة التي انبثقت عن مظاهر اللبس التي تحيط بمفهوم السرعة في فيزياء أرسطو، ويستعين في التمهيد لتلك المناقشة بأحد أبحاث جان بياجيه عن تطور مفهوم السرعة عند الطفل .

ويشير كون إلي بياجيه أجري تجربة في معمله عرض فيها للأطفال عربتين من لونين مختلفين إحداهما حمراء والأخري زرقاء . ومن خلال كل فترة عرض تحركت كلتا العربتين بسرعة مطردة ف خط مستقيم، لكن في بعض المناسبات ستقطع كلتاهما نفس المسافة في فترات زمنية مختلفة . وفي بعض العروض الأخري كان الزمن المطلوب واحدا لهما، لكن إحدي العربتين ستقطع مسافة أكبر . وأخيرا كانت هناك تجارب قليلة كان فيها الزمن والمسافة مختلفين بالنسبة لهما . وبعد كل دورة سأل بياجيه الأطفال ما هي العربة التي تحركت أسرع وكيف عرفوا ذلك؟

لقد وصف الأطفال العربة التي تصل إلي الهدف أولاً أو التي تستبق الأخري في معظم فترة الحركة بأنها " الأسرع" . وهم يستمرون في هذا الوصف رغم أنهم يدركون أن العربة " الأبطا" قطعت مسافة أكبر من " الأسرع" . ولذا يطلق كون علي هذا المعيار اسم الوصول للهدف goal- reaching . لكن هناك تجارب أخري تثبت وجود معيار آخر . فعندما بدأت العربة الحمراء متأخرة جداً عن العربة الخري وتحركت بسرعة كبيرة كي تلحق بها عند الهدف فقد اعتبرها الأطفال هي الأسرع . وعندما سألهم بياجية كيف عرفوا هذا أجابوا بأنهم شاهدوها . وتبين هذه الإجابة أنه عندما تكون الحركة سريعة جداً . فإن من الممكن إدراكها مباشرة . ولذا يطلق كون علي هذا المعيار اسم " اللاتحديد الإدراكي perceptual blurriness . ويتعلم الأطفال شيئاً جديداً عن السرعة إذا اضطروا إلي تطبيق هذين المعيارين، كما أنهم سيضطرون إلي ذلك إذا عرضت الطبيعة موقفاً يصل فيه جسم ما إلي الهدف أولاً رغم أن سرعته المدركة علي نحو مباشر أقل . وفي تلك الحالات سيحدث صراع بين المعيارين، وبالتالي سيقول الأطفا أن كلا الجسمين أسرع وأبطأ في نفس الوقت . لكنهم في النهاية سيصلون إلي مفهوم الأشخاص البالغين عن في نفس الوقت . لكنهم في النهاية سيصلون إلي مفهوم الأشخاص البالغين عن الأسرع .

إن كون يطبق هذه التجربة علي فيزياء أرسطو، فيري أنه يعالج السرعة كفعل مكتمل ويصفه في إطار نقاط البداية والنهاية . ولهذا يشبه المفهوم الذي يقدمه عن السرعة ما نطلق عليه حالياً "متوسط السرعة average speed أي نسبة المسافة الكلية علي الزمن المنقضي . ويشبه هذا المفهوم معيار الوصول إلي الهدف لدي الأطفال . لكن بعض كتابات أرسطو تحتوي علي مفهوم تحتوي علي مفهوم آخر يدرك فيه أرسطو السرعة بصورة مباشرة بدون اعتبار نهاية النقطة، أي ما يمكن أن نصفه بالسرعة اللحظية instantaneous . ولذا فمن الطبيعي أن مفهومه عن السرعة كان يمكن أن يواجه مفارقات، مثله في ذلك مثل مفهوم الأطفال . وقد استعان جاليليو بالفعل بإحدى التجارب المتخيلة كي يعزل مظاهر الشذوذ هذه، فقد عرض لمحاوريه من أتباع أرسطو إحدى التجارب المتخيلة واضطرهم إلي استنتاج نتائج متناقضة حول مفهوم " السرعة" ولم يكن بالإمكان رفع هذه التناقضات إلا عن طريق التمييز بين معدل السرعة والسرعة اللحظية، فقد يكون الجسم أسرع إذا طبقنا أحد هذين المعنيين وأبطأ إذا طبقنا المعني الثاني . وبناءً علي هذا فإن هذه التجربة ساعدتهم عل تعديل مفهومهم عن السرعة . لكن هل معني هذا أن مفهوم أرسطو كان متناقضاً – ذاتياً؟

إن كون يرفض وصف مفهوم أرسطو عن السرعة بالتناقض الذاتي . فهذا المصطلح قد يصدق علي الدائرة المربعة . فالدائرة مربعة متناقضة ذاتياً بمعني أنه لا يمكن تمثلها في أي عالم ممكن، أما مفهوم أرسطو فيختلف عن ذلك . ويكمن الاختلاف في أن مفهوم أرسطو للسرعة، بما يحتويه من معيارين متزامنين، يمكن يحتويه من معيارين مترامنين، يمكن تطبيقه بدون صعوبة علي معظم الحركات التي نراها . ولا تظهر المشكلات إلا من تلك الفئة من الحركات – وهي الفئة النادرة جداً – التي يقود فيها معيار السرعة اللحظية ومعيار معدل السرعة إلي استجابات متناقضة في التطبيقات الكيفية . ولذا يرفض كون أن يصفه بأنه متناقض ذاتياً . ويبرر كون موقفه بأننا لا ينبغي أن نطالب مفاهيمنا بأن تكون قابلة للانطباق علي كل موقف يمكن أن يظهر في أي عالم ممكن . فلو كانت كل الحركات تحدث بسرعة مطردة، لكان مفهوم أرسطو صحيحاً تماماً .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم