أقلام فكرية

ما بين هيغل وماركس: إشكاليات التاريخ ويقين المستقبل (3)

ميثم الجنابيالدولة: يقين التاريخ والمستقبل

فيما لو اردنا اختصار الفكرة الجوهرية لمضمون ومعنى المسار التاريخي في الفلسفة الهيغيلية فمن الممكن وضعها بعبارة تقول: "لا تاريخ خارج الدولة". فقد وضع هيغل الدولة في صلب المسار التاريخي للإنسان، وجوهر الوجود الإنساني، والتحقيق الكامل للإرادة الإنسانية والعقل و"الحكمة الإلهية". إنها تتخذ عنده صيغة بداية ونهاية كل مظاهر الروح المطلق في الوجود والإبداع الإنساني. من هنا ربطه اعادة النظر النقدية والفلسفية بالتاريخ والاهتمام بفكرة الدولة. فالشعوب لها تاريخ ما زال لها دول. وهي فكرة سبق وإن قال بها ابن خلدون وأسس لها في رؤيته لتاريخ التمدن والحضارة. غير انه خلافا لهيغل وجد ظهورها وصيرورتها وتطورها وموتها باعتبارها عملية طبيعية مرتبطة بالنشاط الإنساني، والاقتصادي بشكل خاص، كما يكمن فيه أيضا مقدمات سقوطها اللاحق. انه تعامل مع الدولة بوصفها جزء من صيرورة الحضارة، تماما بالقدر الذي تشكل الحضارة نتاجا لتطور الدولة. لكنه وقف عند هذا الحد الذي طوره ماركس لاحقا، باعتبار ان انحلال الدولة وتلاشيها هي أولا وقبل كل شيء عملية اجتماعية اقتصادية وليست حضارية.

لقد وجد هيغل في الدولة الإرادة الكلية، أي تلك التي تجمع في ذاتها الإرادة الذاتية والإرادة الكلية. وهذا بدوره ليس إلا وحدة التاريخ والمنطق أو التاريخي والمنطقي في المسار التاريخي نفسه. الأمر الذي حدد حقيقتها بوصفها التحقق الفعلي للحرية، أي للغاية النهائية المطلقة. من هنا اعتباره إياها "الفكرة الإلهية كما توجد على الأرض". إذ بالدولة يمكن رؤية هدف التاريخ وموضوعه، كما يقول هيغل. بمعنى أنها تحتوي على كل ما له علاقة بالإبداع الإنساني بوصفه ذروته العليا. ومن ثم هي الصورة الحقيقية والواقعية لما يدعوه هيغل بالحياة الجوهرية، التي تتمظهر فيها الإرادة الذاتية والعقلية. من هنا قوله، بأن من مصلحة العقل أن تكون الدولة باعتبارها كلاّ أخلاقيا، والذي بأثره يمكن فهم سلوك الأبطال الذين وضعوا أسس الدولة. أما لماذا "الكلّ الأخلاقي"؟ فلأنها تهذّب كل معالم الوجود الإنساني بمعايير الأخلاق النظرية والعملية، أي بوحدة القيم والحقوق. ومن ثم فإن كل ما تقوم به هو أخلاقي بمعايير العقل المطلق، أي القوة المتحكمة في المسار التاريخي.

ولم تكن جوهرية الدولة في فلسفة هيغل معزولة عن حالة "الدولة" الألمانية ومسارها آنذاك. فقد أسس هيغل لفكرة تبرير سلوك رجال الدولة الكبار، أي أولئك المهمومين بفكرة الدولة. أنه أسس لفكرة الدولة المفقودة. من هنا رفعها إلى مصاف القيمة المطلقة، باعتبارها ذروة المسار التاريخي والعقلي للروح. في حين نظر ماركس الى الدلة باعتبارها آلة القهر والعدوان والستغلال وما شابه ذلك، رغم انه لم يهمل قيمتها التاريخية. وهي الفكرة التي اشترك في التأسيس لها والدفاع عنها مختلف التيارات والشخصيات الراديكالية والثورية1 . 

وبما إن الدولة بالنسبة لهيغل، هي القيمة الكبرى للعقل والإرادة من هنا يصبح سلوك أولئك الأبطال أو رجال الدولة معقولا ومقبولا بغض النظر عن المظاهر الخارجية لكل ما يقومون به من أعمال بما في ذلك أكثرها شدة وقسوة وفظاظة وشرا. ونقف هنا إشكالية كبرى للفكرة الأخلاقية، والعقلية، والعقلانية، والقدر التاريخي، ومصير الأفراد فيه. فالواقع التاريخي وأحداثه تكشف عن أن الأبطال الكبار والشخصيات "العظيمة" هي الأكثر دموية في تاريخ الدول والأمم. (مؤسس الصين، ابو العباس السفاح، بطرس الأول، ستالين، بسمارك، نابليون وعشرات غيرهم). أما لماذا لا يجري ادراج هتلر ضمنهم في الأغلب الآن هو بسبب تعرضه للهزيمة، أي لأنه لم ينتصر ولأن سلوكه القاسي كان موجها أساسا ليس ضد تقييد حرية شعبه من اجل نفاذ القانون وقيمة "الكلّ الأخلاقي"(الدولة) بل ضد الآخرين من خلال جعل عبودية الآخرين وإبادتهم أسلوبا "لتحقيقها". فالألمان استعملوا شعار "العمل يجعلك حراً"!Arbeit macht frei. لكنه عمل معسكرات الاعتقال. أما الحرية فقد كانت عبر تحويل "البشر" الى "أرواح" من خلال القتل والحرق!

غير أن هيغل وجد في هذه الحالة الأسلوب الوحيد والأمثل لبلوغ الحرية. وذلك لأن الدولة بالنسبة لهيغل هي التحقق الفعلي للحرية. وبالتالي، فإن الفكرة القائلة، بأن الإنسان بطبيعته حر ليست سليمة. وهما فكرتان يحتويان كلاهما على قدر من الحقيقة المنطقية والثقافية، لكنهما لا يمثلان الحقيقة كما هي بهذا الصدد. غير إنهما يتداخلان ويتوازيان ويتآلفان في الرؤية الهيغلية. والمقصود بذلك إن الإنسان من وجهة نظر هيغل حر بطبيعته ومصيره، وليس بالولادة والطبيعة. فالحرية كمثل أعلى لا توجد بهيئة ما أولية وطبيعية، بل ينبغي السعي للوصول إليها. ولا يمكن بلوغ ذك دون جهود كبيرة لتذليل الغريزة أو طبيعة الإنسان الحيوانية، ومن ثم تطويره الأخلاقي العقلي ومن خلاله صنع "طبيعته الثانية". فتقييد الحرية من الناحية التاريخية هو أسلوب بلوغها العقلي السليم. فعندما تفرض الدولة قيودها أو تقييدها للحرية فليس ذلك إلا لكون ذلك "جزء من الوسيلة التي يمكن عن طريقها وحدها أن يتحقق الوعي بالحرية والرغبة في بلوغها في صورتها الحقيقية" كما يقول هيغل. وهذه بدورها هي صورتها الواقعية والمثالية.

إن صيرورة الدولة بالنسبة لهيغل هي الغاية والشكل الذي يتخذه التحقق الكامل للروح في الوجود. وبالتالي هي تجل للعقل المطلق. ومن ثم أساس ومركز الفن والقانون والأخلاق والدين والعلم. وهذه بدورها إحدى الأفكار العميقة التي أبدعها هيغل في فلسفته التاريخية، بحيث جعل منها الإله الفعلي للوجود الإنساني، ومن ثم صانعة الدين وآلهته. وبغض النظر عن التناقض الظاهري لهذه الفكرة في فلسفته التاريخية إلا أنها تندمج بشكل متناسق في منهجه الفلسفي التاريخي. فقد انطلق هيغل في هذا المجال من الإجابة على السؤال المتعلق بماهية المادة التي يتحقق بها ومن خلالها المثل الأعلى للعقل. انه يتحقق في الشخصية نفسها والرغبات البشرية والذاتية، أي حالما يبلغ "العقل مرحلة الوجود الإيجابي في المعرفة الإنسانية"، والذي تمّثل الإرادة عنصره الأساسي. غير أن هذه الإرادة ليست مطلقة الاستقلال، بل تابعة ومرتبطة بإرادات أخرى، لكنها تمتلك مع ذلك حياتها الخاصة. وإن وحدة الإرادة الذاتية والإرادة العقلية يكوّنان الوجود الجوهري للإرادة، أي "الكلّ الأخلاقي" (الدولة) كما يقول هيغل.

 إن فكرة هيغل حول جوهرية الدولة، باعتبارها التجسيد الحقيقي لجوهر الحياة والحياة الجوهرية تقوم في كونها هي وحدها "الحقيقة الإيجابية" التي تكتمل بها الحرية. إذ في الدولة فقط تكتمل الأخلاق والقانون والحكومة. وبالتالي، فإن الدولة هي الحياة الأخلاقية، وفيها تتحقق الحياة الأخلاقية، أو أنها "الكلّ الأخلاقي" حسب عبارة هيغل. من هنا تحديده لمهمة الدولة وهدفها الحقيقي وهو أن تجعل مما هو جوهري في النشاط العملي للناس وما هو أساسي في ميولهم، أمرا معترفا به ومقرورا على النحو الواجب، مع ما يترتب على ذلك من ترسيخ جوده هذا "الواجب" ودعم مركزيته.

فالثقافة، على سبيل االمثال، هي النتاج الملازم للدولة. وبالتالي، فإن ثقافة الأمة هي الصورة التي تندرج فيها كل ما تشتمل عليه الدولة. ففي ارتباط الناس بعضهم ببعض داخل الدولة تكمن ضرورة الثقافة وبالتالي ظهور العلوم والشعر والفن الراقي. وذلك لأن الفنون التشكيلية تتطلب، بما في ذلك في جانبها التطبيقي، وجود أو حياة الناس في مجتمع. والشيئ نفسه ينطبق على الدين. إذ يعتقد هيغل بأنه لابد للوعي أن يدرك بأن الدين هو بؤرة ومركز هذا الوعي. فالدين هو "المجال الذي تقدم فيه الأمة لنفسها تعريفا لما تعتقده انه الحقيقي. وهو تعريف يتضمن كل ما ينتمي إلى ماهية الموضوع الذي ترد طبيعته إلى تعيّن بسيط وأساسي بوصفه مرآة لكل تعّين، وبوصفه النفس المتغلغلة في كل شيء. لذلك فإن تصور الله يشكل الأساس العام لشخصية كل شعب من الشعوب".

إن هيغل يفسح المحال أمام تعدد الأديان وظهورها التاريخي بوصفها جزء من مسار الروح وحكم العقل. وقد تراكمت وتكاملت هذه الفكرة عند هيغل منذ زمن مبكر، بحيث نعثر على براعمها الأولية في كتابه (حياة يسوع) الذي حاول من خلاله تأسيس الرؤية العقلية عن المسيح، أي جعله تجليا للعقل من خلال إضفاء صفة العقل على ما فيه وبوصفه تجليا للعقلانية. لقد سعى هيغل إلى أن يجعل من الدين مستوى وشكلا من أشكال وعي الذات والحقيقة. أما جعله في مركز الوعي فهو هبوط من علياء العقل إلى حضيض اللاهوت الذي لم يستطع هيغل التخلص من أثره بسبب التربية البروتستانتية العميقة في وعيه ولاوعيه العائلي والفردي والفلسفي أيضا. لكنها فكرة كانت تؤدي ضمن سياق الرؤية السياسية لهيغل دورا مهما وحيويا آنذاك. فقد اعتقد هيغل، بأن الوجود الدنيوي زائل، وذلك لأن حدود اهتمامه محصورة بالمصالح الجزئية. بينما المشاعر الدينية أوسع وأعمق من المصالح الجزئية. وبالتالي، فهي تعمل أو ينبغي أن تعمل، كما يقول هيغل، على توحيد الأمة والدولة، ومن ثم القضاء على القلاقل والفتن. من هنا وصيته واقتراحه حول ما سماه بضرورة أن يكون "الشعور الديني متزنا، وأن يحتفظ بدرجة معينة من السكينة والهدوء، بحيث لا يثور ولا يغضب ضد ما ينبغي الدفاع عنه والمحافظة عليه".

إن إحدى المهمات الجوهرية والوظائف العملية للدين تقوم في الحفاظ على الدولة. وذلك لأنه أساس الدولة ومبادئها الأولية. فالدولة مبنية على الدين، وأن نشأتها من الدين، الأمر الذي يحدد طبيعة العلاقة الدائمة بينهما. إذ ما كان يمكن للدولة الاثينية والرومانية الوجود والاستمرار إلا بارتباطهما الخاص بالوثنية أو إحدى صورها الخاصة. وينطبق هذا على غيرها. وهي فكرة تتناقض من حيث جوهر مع مضمون الديالكتيك الهيغلي نفسه، كما أنها لا تفهم حقيقة الدين ودوره وأثره بالنسبة للدولة، باعتبارها ظاهرة تاريخية ملموسة ضمن سياق المسار المضني والمرهق "للروح المطلق"، فيما لو استعملنا مفهوم هيغل نفسه، لكي يبلغ العقل حقيقته. وقد أثرت هذه الفكرة في ماركس أيضا، ولكن من خلال ما أُطلق عليه عبارة "مهمة إيقاف الديالكتيك عل قدميه بعد إن كان يقف على رأسه". فالدولة لها قانونها الخاص في الوجود المادي للإنسان والجماعة. بينما الدين هو "أيديولوجية متسامية" لا تختلف من حيث وظيفتها عن غيرها من الأيديولوجيات، بالأخص ما يتعلق منها "بالحفاظ على الدولة" ولكن ليس بالمعنى الهيغلي، بل بدولة الطبقة السائدة فيها لهذا المرحلة التاريخية أو تلك. لكن خلافا عن غيرها هو "افيون للشعب" تبيعه السلطة عبر القهر والإكراه والاغتراب الذي يصنع قوى اجتماعية ليست وليدة الإيمان بل نفيا له. وهذه فكرة وحكم لا يخلو من نزوع أيديولوجي. وفي الواقع، فإن ماركس قد وقع في نفس الفخ الذي وقعه فيه هيغل، ألا وهو أولوية وتغلغل الفكرة الأيديولوجية (السياسية) المكنونة عند هيغل والصريحة عند ماركس. كما يشتركان في توظيف الفكرة الفلسفية. الأمر الذي أدى إلى تناقض بين مضمون الفلسفة وتوظيفها عند هيغل، وإفراط توظيفها عند ماركس.

ومع ذلك فإن حقيقة العقل بالنسبة لهيغل ليس دينا، لأنه لا إيمان فيه، بل بحث دائم عن حقائق الوجود وتأسيس دائم للاحتمال العقلاني. وهي فكرة تتلألأ احيانا ضمن ثنايا السبيكة النقية للتناقضات الحية في منظومة هيغل الفلسفية عن التاريخ. وضمن هذا السياق يمكن فهم مضمون استنتاجه القائل، بضرورة النظر إلى مبادئ الحفاظ على الدولة، وأن نشوءها من الدين ومبنية عليه، على أنها تجليات معينة للطبيعة الإلهية. لهذا طالب بالكفّ عن الصراخ والعويل الداعي لغرس الدين في عقول وقلوب الناس لكي لا ينقرض. إذ اعتبرها أفعالا لا تجدي نفعا. وبالمقابل اعتقد بأن الدين هو الذي ينتج نفسه بنفسه.(يتبع...).

 

ا. د. ميثم الجنابي

........................

1- إن لهذه الظاهرة مفارقاتها الخاصة. فقد كانت اغلب الشخصيات المتطرفة والغالية والراديكالية العنيفة في أوربا وروسيا ذوي أصول يهودية أو من اقليات قومية. في معرض دراسة التاريخ السياسي الأوربي في القرن التاسع عشر والعشرين نرى الكمية الكبيرة من الشخصيات اليهودية الفكرية والسياسية التي اشتركت بحماس مبالغ فيه في النشاط الثوري الهدام لبنية النظام الأوربي الرأسمالي والدعوة للاشتراكية والشيوعية بما في ذلك ماركس، بوصفه أحد الممثلين الكبار لهذا التيار أو بصور أدق لهذه النفسية والذهنية، التي اعتبرت الدولة قوة قهر واضطهاد، وبالتالي حاولت تأسيس الفكرة الأيديولوجية لمهمة هدمها، باعتبارها مقدمة الحرية، على خلاف هيغل الذي وجد في الدولة أسلوب ووسيلة وقوة تحقيقها. أما الآن فلا نعثر على يهودي يدعو بقوة لا ينافسها شيء آخر غير الدفاع عن "الدولة" العبرية والآن اليهودية! الأمر الذي يفسر الرؤية المتطرفة لمعاداة الدولة بوصفها فكرة ونفسية الأقلية. ونفس الشيء ينطبق على فكرة "العمال بلا وطن"، التي قال بها ماركس. وقد تناولت هذه القضية بصورة موسعة في كتابي (اليهودية الصهيونية في روسيا).

 

في المثقف اليوم