أقلام فكرية

ما بين ماركس وهيغل: إشكاليات التاريخ ويقين الروح الثوري (2)

ميثم الجنابيمن التاريخ المجرد الى التاريخ الواقعي

لقد سار ماركس من حيث الجوهر بخطى الذهنية الهيغيلية ومشروعها الكوني، ولكن من خلال نقلهما إلى ميدان التاريخ الواقعي. وسوف تحصل هذه المهمة على صيغتها الشهيرة في العبارة القائلة، بان ماركس "أوقف الديالكتيك الهيغلي على قدميه بعد أن كان يقف على رأسه". وقد كانت ملامحها الأولى تجري من خلال الرجوع إلى ما في هيغل من تلازم خاص بين المنهج والمنظومة. فقد كان هذا التلازم يحتوي على إغراء يؤسر العقل والوجدان. بل يصعب الفرار منه حالما يقف المرء ضمن دائرته الحية، تماما كما لا يمكن للمرء الإفلات من منطق ابن عربي حالما يدخل ضمن صيرورة رؤيته لإشكاليات الوجود والروح والمعرفة. والسبب يكمن في حبكة الرؤية وطابعها المنظومي الدقيق وتجانس مكوناتها القادرة على أن تجعل من اشد المساعي راديكالية جزء معقولا في منظومة العقل الكوني. 

فقد تأثر الجميع آنذاك بهيغل وتحول إلى مصدر الحركات الفلسفية المتنوعة والمختلفة والمتصارعة في تمثيلها وتمثلها للرؤية الهيغيلية. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى ماركس بوصفه واحدا من أولئك الشباب الذين اكتووا بنار المنطق الهيغلي. من هنا تمازج وتداخل الرؤية النقدية وفكرة الروح الكوني، أي تلك التي ظهرت أولا الأمر في تمثل المنهج الهيغلي ونزوعه النقدي الحاد تجاه مختلف تيارات اليسار واليمين (الهيغلي)، كما هو جلي في نقده "للعائلة المقدسة" و"الأيديولوجية" الألمانية، أي لكل ذلك الرعيل الهيغلي الأول الذي ترعرع  ماركس نفسه بين صفوفه، ولاحقا في فكرة الأممية (البروليتارية)، بوصفها الذروة التي يبلغها "العقل التاريخي" في تتبع قوانينه المادية. وكلاهما كانا يكمنان في الروح والمنطق الهيغلي. وليس مصادفة أن يكون كل تلامذة هيغل، بما في ذلك ماركس، شديدي الولع بقضايا التاريخ بشكل عام وتاريخ الدين والمجتمع بشكل خاص. وكلاهما وجهان لعملية وعي الذات، التي حوّرها ماركس لاحقا وأنزلها من علياء الروح المطلق وملكوت الحرية، إلى واقع الحياة الخشنة وتاريخها المتلوي بين قبضات وتشنجات وآلام الصراع الطبقي من اجل بلوغ الحرية الاجتماعية الفعلية. وليس مصادفة أيضا أن ينحصر اهتمام ماركس بقضايا الدين والتاريخ في مجرى صيرورته الفكرية الأولى، كما نراه في نقده للمسألة العبرية (اليهودية). فقد كانت تلك مجرد الصيغة النقدية الأولية للمشاركة الفكرية في نقد الدين وتدقيق الرؤية التاريخية المميزة "لليسار الهيغلي" (برونو باور ومجموعته) والهيغيليون الوسط (دافيد شتراوس) في أبحاثهم الفلسفية بهذا الصدد.

غير أن المسار الخاص لماركس بهذا الصدد يقوم في توجيهه تلازم الذهنية الهيغيلية والمشروع الكوني في مجرى صيرورته الفكرية والروحية صوب ما يمكن دعوته بالتاريخ الفعلي، أي صيرورة العقل النظري والعملي ووحدتهما في نظريته الاشتراكية والشيوعية. وسوف يدفع هذا الانقلاب ماركس لاحقا صوب الفناء التام في هموم المستقبل، أي "التاريخ الحقيقي". وليس هذا بدوره سوى الصيغة اللامعة أو الفلسفية المجردة للرؤية النقدية تجاه الحاضر.

لكن الرؤية النقدية لماركس لم تقف عند حدود التأملات الفلسفية الأولى للفكر والواقع كما نعثر على صداها في (المخطوطات الفلسفية الاقتصادية لعام1844)، بل وبتعميقها اللاحق صوب تأسيس منظومة الرؤية الفلسفية للتاريخ العالمي. وقد أحكم ماركس هذا التوجه واستحكم به بقدر واحد حالما أصبح تاريخ التطور الاجتماعي والاقتصادي ميدان وموضوع فلسفة التاريخ العالمي، أي كل ما سنعثر عليه في إعادة ماركس وتجديده وتجسيده في منظومة فكرية لما أسميته بتلازم المنهج والمنظومة المميز للفلسفة الهيغيلية ولكن من خلال البحث عنه في "منطق" التاريخ الواقعي بوصفه تاريخا عالميا. ولم يكن هذا في الواقع سوى الصيغة الأخرى المكلمة وليست المقلوبة لمنطق هيغل التاريخي، أي لمنطق التاريخ العالمي.

فالتاريخ بالنسبة لماركس، كما هو الحال بالنسبة لهيغل، تاريخ كلي واحد (عالمي). إنه ليس مجموعة تواريخ متنوعة مختلفة متفرقة جزئية (تاريخ فن وفلسفة وأدب وسياسية وملوك أمراء ودول وأمم وما شابه ذلك)، بل تاريخ واحد هو تاريخ الإنسان والطبيعة. وهي البذرة التي ستتفرع لاحقا في ثمار التاريخ الواقعي بمختلف أشكاله ومستوياته. فإذا كان التاريخ الروحي لهيغل هو التاريخ المتجرد والمرفوع إلى صراط الفكرة المنطقية، فإن ماركس يضيف إليه الخط الموازي، أي التاريخ الفعلي. وليس هناك من تاريخ فعلي خارج إطار العلاقات الاجتماعية الاقتصادية[1].

لكنها موازاة لا تحاذي المنطق الهيغيلي تجاه التاريخ إلا فيما يتعلق ببنية المنهج المجردة وفعالية المقولات في كيفية كشفها لديناميكية الحركة الفعلية للتاريخ الواقعي. وهو انقلاب كبير في منظومة الرؤية والمفاهيم، وبالتالي في الاستعداد الذاتي للعمل والنشاط السياسي. بعبارة أخرى، إن هذه الموازاة الجديدة في الرؤية المنطقية للتاريخ كانت تحتوي على انقلاب تاريخي في المفاهيم والقيم والوسائل والغايات. ومنها كانت تتراكم نوعية الانفصال بين المنهج الهيغلي والماركسي في الموقف من التاريخ. وضمن هذا السياق يمكننا القول، بأن ماركس يعيد في فلسفته التاريخية إنتاج الموقف الهيغلي من التاريخ، بما في ذلك من خلال تعميق وتدقيق الرؤية المنطقية للمفاهيم والمقولات. بمعنى انه يتتبع حيوية المنهج الهيغلي في الديالكتيك، ولكن من خلال نقلها من عالم الفكر المجرد والمسار المنطقي للتاريخ الواقعي إلى ميدان التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأيديولوجي، أي إلى ميدان التاريخ الفعلي المباشر.

فعندما يقول ماركس بأنه عمل من اجل وضع الديالكتيك الهيغلي على قديمه بعد أن كان يقف على رأسه، فانه لم يقصد بذلك سوى مهمة تفعيله من خلال إعادة النظر في "ثلاثية" الديالكتيك الهيغلي، أي ليس فكرة – واقع – فكرة، بل واقع – فكرة – واقع. وهو انقلاب هائل في الرؤية المنهجية للتاريخ مع ما يترتب عليه من تغير جوهري في المواقف العملية. إذ لم يعن منهج ماركس في ثلاثية الواقع – الفكرة – الواقع، سوى الاستيعاب العملي لحقيقة المنطق الهيغلي. أو على الأقل انه لا يخرج عنه فيما يتعلق بإدراك قيمة الفكرة بوصفها منطقا، والمنطق بوصفه فكرة بالمعنى الذي بلورته تقاليد الرؤية الفلسفية منذ أفلاطون.

إن محاولة ماركس قلب الديالكتيك الهيغلي كانت ترمي أولا وقبل كل شيء إلى إعادة النظر بالتاريخ الواقعي. فهي النتيجة الكامنة في مجرى الاقتراب من حيثيات هذا التحول بما في ذلك في مجال المنطق. فإذا كان المنطق عند هيغل هو الذي يحدد أنموذج التاريخ أي مساره وفعله من خلال الطبيعة، وأن الطبيعة مجرد ميدان انفتاح وتناثر وتراكم وتنظيم الفكرة من جديد، فإن الطبيعة بالنسبة لماركس كانت اكبر بما لا يقاس من أن يجري حصرها بالصيغة الهيغيلية. إن الطبيعة ليس صورة خلفية للتاريخ، وليست ميدانا له فحسب، بل ومصدره الذي أنتج نماذج الفعل (الأفعال) التاريخية.

لقد كان هيغل يشعر بالقرف من "المثالية العندية" (الذاتية) التي تتعامل مع الفكرة كما لو أنها شياطين الغواية، أو أحلام الرحمة المبسوطة في خيال المؤمنين عن ملائكة الرب. فالفكرة لا توجد فقط في رؤؤس الناس. إن للفكرة تاريخها الخاص واستقلالها النسبي والمطلق في السير داخل الرأس وخارجه، أي في المنطق والتاريخ الفعلي. أنها توجد في الطبيعة والتاريخ. غير أن هيغل أراد بناء منظومة تاريخية محكومة في تطورها بمنطق مجرد ومتسام عن "الطبيعة". وبالتالي فإن الحتمية فيه محكومة بقوة الضرورة المنطقية. بينما سيرجعها ماركس إلى حالة الطبيعة. وهي حالة لم تكن فيما يبدو معزولة عن نفسية وذهنية ماركس المهمومة بالطبيعة بمعناها الواسع، والتي نعثر عليها في أول أعماله التجريبية الفلسفية، كما هو جلي في أطروحته عن (الفلسفة الطبيعية في الفلسفة الإغريقية) حتى آخر عباراته البلاغية المتعلقة بالحالة الاجتماعية المنبسطة لمزاج الروح والجسد في ملكوت الشيوعية! فقد أراد هيغل رؤية التاريخ الحقيقي(المنطقي) بوصفه مسارا طبيعيا، بينما أراد ماركس صنعه. من هنا كانت محاولات هيغل تصب ضمن التيار القائل بضرورة تحرير الرؤية الفلسفية للتاريخ من ولع الاستنتاجات السريعة للعلوم الطبيعية، بينما سعى ماركس بالعكس تماما، بحيث تتحول كل ما تتوصل إليه العلوم (التجريبية والنظرية) إلى مكونات جوهرية في الرؤية الفلسفية للتاريخ، سواء كان الأمر يتعلق برؤية أصول الأنواع لدارون أو الاكتشافات الأولية لعلوم الفيزياء والكيمياء والانتروبولوجيا لكي تكون مفاصلا في رؤية "تحول القرد إلى إنسان" و"ديالكتيك الطبيعة" و"أصل العائلة" والطبقات والدولة والمجتمع وظهور الأفكار والعقائد والقيم والمفاهيم والفن والجمال، باختصار كل شيء. ويعكس هذا الاختلاف في الأغلب كمية الرؤية وطابعها الحسي الطبيعي، أكثر مما يمّس الأنساق العميقة للمنطق المجرد كما وضعه هيغل. "فالرأسمالية" على سبيل المثال عند ماركس و"البروتستانتية" عند رانكه (ولاحقا عند ماكس فيبر) هي "أفكار" بالمعنى الهيغلي و"مقولات" بالمعنى الكانطي. لكنها ستتخذ عند ماركس لاحقا هيئة "الشكل" و"التشكيلة"، التي يصنعها البشر وتصنعهم. وتعكس هذه الصيغة في الوقع نفس عملية النفي والتوليف المميزة للمنطق الهيغلي، بمعنى أن الانتقال من حالة إلى أخرى هي مجرد سلسلة مترابطة ومظاهر متنوعة للارتقاء والتقدم نفسه. وهذه بدورها ليست معزولة عن تلك العناصر الجوهرية في الوعي التاريخي الأوربي (فكرة التقدم والارتقاء) التي أخذت تشق لنفسها الطريق إلى خلايا الوعي النقدي والرؤية العملية كما سنعثر على أحد نماذجها الراديكالية الكبرى عند ماركس.

انطلق هيغل من أن بنية التاريخ تتراكم من خلال الأفعال بوصفها تمظهرا للفكر والتفكر. وبما أن للفكر حدوده من حيث كونه بنية منطقية، كذلك للتاريخ بنيته الداخلية من حيث كونه شروط ومقدمات. ومنهما يتبلور "القانون" وفكرة القانونية. ولا مجال لفعل هذه الفكرة - القانون غير الطبيعة. غير أن ما يحددها هو الفكرة ذاتها. من هنا يصبح المنطق مفتاح الرؤية التاريخية، أي فهم التاريخ. طبعا أن ذلك لا يعني بأن هيغل لم يكن يعرف الفرق الهائل بين المنطق المجرد للعقل المطلق ومنطق التاريخ الواقعي. لاسيما وان الأخير هو نتاج الفعل الإنساني المحكوم بفكرة (ولتكن غير منطقية) لكنها تخدم مسار المنطق. أما ماركس فقد حاول الجمع بين مادية القرن الثامن عشر الطبيعية (كل شيء له أصل طبيعي) وديالكتيك هيغل. من هنا ظهور وتبلور وتدقيق وتجسيد "المادية الديالكتيكية" في موقفها من التاريخ التي ستحصل لاحقا على مفهوم "الفهم المادي للتاريخ"، أي "الفهم المادي الديالكتيكي للتاريخ". وهي الذروة التي بلغها ماركس في "قراءته" للتاريخ، أي في تأسيسه لفلسفته التاريخية، بوصفها فلسفة عامة كونية جامعة شاملة بالمعنى الذي بلورته تقاليد المدرسة الألمانية (التاريخية والفلسفية). لكنها وحدة محكومة ليس بمعايير الجزئية المفرطة في تضخيم مكوناتها، بل بمعايير الواحدية المنهجية المهمومة بقضايا البديل الفعلي الشامل للوجود الإنساني.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

..........................

[1] هل هي الحصيلة الحية لتطور الواقع والنظام الاجتماعي الاقتصادي السياسي الذي جعلت منه الرأسمالية قضية جلية؟ ليس بالضرورة. وذلك لأن هيمنة فكرة التاريخ الروحي كانت وما زالت وسوف تبقى إحدى أهم النماذج العميقة للرؤية التاريخية، أي للرؤية التي تسعى لإنارة العقل الإنساني بالتاريخ دون أن تجعل من الإنسان الفرد والجماعة والأمة حكما مطلقا وأداة حاسمة باردة القلب في قلبه والتحكم به بالطريقة التي يرغب بها ويشاء. وفي كل الأحوال فإننا نقف هنا أمام معضلة منطقية عصية على الحل، كما أنها اشد تعقيدا في ميدان العمل. والشيء الجميل الوحيد فيها كونها حلقة من حلقات المغامرات الكبرى للتاريخ العالمي. إضافة لذلك أن ما قال به ماركس عن ماهية التاريخ الفعلي، بما في ذلك في أرقى درجات تطوره المعرفي ليس جديدا، وذلك لأننا نعثر عليه عند ابن خلدون. والفرق بينهما يقوم في تناسق الرؤية المنهجية عند ماركس وتوسع الرؤية المنهجية عند ابن خلدون. لقد أراد ابن خلدون تفسير التاريخ باعتبارها المهمة الضرورية لتغيير الواقع، بينما أراد ماركس تغيير الواقع بوصفها الصيغة "الإنسانية" الحقيقة لفهمه.

 

 

في المثقف اليوم