أقلام فكرية

فلسفة العلل في تراثنا النحوي العربي

محمود محمد عليإن الإنسان بفطرته ميال نحو معرفة ما خلف الظواهر والأشياء، أي الأسباب التي تسببت في ظهور شئ ما، أو ظاهرة ما إذ " لما كان من طبيعة الإنسان منذ طفولته أن يسأل عن سبب لكل ما يراه، سبب وجوده، وسبب نشوء ما يحيط به من مظاهر الحياة، ويبحث عن علل لها تفسيرها، وتربط بعضها بالبعض الآخر، وتبين أحوالها، وفائدتها وتأثيرها، وجدناه يطبق ذلك على كل ما يراه ويمر به على مدى سني حياته، وتطور إدراكه وعلى اختلاف العلوم التي تعلمها، يعلل الظواهر الطبيعية في الأحياء والجوامد، يعلل الظواهر العقيدية وما يتبعها من أحكام ونتائج وعلل ما يبدو في اللغة التي يستعملها أداة في التفاهم محاولا أن يجد علة لكل صورة مميزة من صور التعبير .

ولقد نظر أرسطو إلي قانون العلية فعده من المقدمات الأولية التي لا يمكن القدح في بداهته". والعلة ركن أساسي في القياس الأرسطي بحيث لا يتم البرهان إلا بظهور العلة. وفي هذا الصدد يقول أرسطو: "وذلك أنه إن كان الذي ليس عنده القول على (لِمَ الشئ) – والبرهان موجود – ليس هو عالماً" . ولقد فضل أرسطو الشكل الأول من أشكال القياس على أساس وضوح مبدأ العلة في هذا الشكل: "وذلك أن القياس على (لم الشيء) إنما يكون بهذا الشكل.. والعلم بـ (لم الشئ) هو أكثر تحقيقاً" . ويقسم أرسطو العلة إلى أربعة أنواع فيقول "كانت العلل أربعاً: إحداها: ما معنى الوجود للشيء في نفسه؟ والأخرى عندما يكون، أيُّ الأشياء يلزم أن يكون هذا الشيء؟ والثالثة: العلة التي يقال فيها: ما الأول الذي حرَّك؟ والرابعة: هي التي يقال فيها: نحو ماذا؟ " . ولقد اصطلح العلماء على تسمية هذه العلل الأربع على النحو التالي: العلة المادية، والعلة الصورية، والعلة الفاعلة، والعلة الغائية: "فالعلة المادية هي التي يجاب بها عن: ما الشيء؟، والصورية عن: كيف؟ والفاعلة عن: من فعل الشيء؟ والغائية عن: لِمَ؟" .

ويمكن توضيح ذلك فنقول: أما العلة المادية فهي ما لا يجب بها وجود الشيء بالفعل بل بالقوة، كالخشب والحديد بالنسبة للسرير . أو بتعبير أخر ما لا بد من وجوده أو جود الشيء . وأما العلة الصورية فهي ما يجب بها وجود الشيء بالفعل، كالهيئة التي يتم عليها شكل السرير . أما العلة الفاعلية فهي ما تكون مؤثرة في المعلول موجدة له، كالنجار الذي يصنع السرير . وعرفها "أبو يعقوب الكندي" (ت:252هـ) بأنها (مبتدأ حركة الشيء التي هي علته). وعرفها الإمام الغزالي بأنها (ما منه بذاته الحركة، وهو السبب في وجود الشيء). وأما العلة الغائية فهي ما لأجلها وجود الشيء، كالجلوس على السرير؛ إذ أنه الغاية أو الغرض الذي لأجله وجد السرير . وهي الباعثة على إيجاد الشيء، فتفيد إذن فاعلية الفاعل. والعلة الغائية متأخرة عن المعلول في الوجود في الخارج، فالجلوس على السرير يكون بعد وجود السرير في الخارج إلا أنه يتقدم عليه في العقل (التصور) إذ كان باعثاً للفاعل على صنعه . ولذلك عرفها الإمام الغزالي بأنها (الغاية الباعثة أولا، المطلوب وجودها أخرا) . وهي بتأخرها عن المعلول في الوجود بالعكس من حال العلة الفاعلية من معلولها ؛ إذ أن الأخيرة تتقدم المعلول في الوجود بالزمان.

والعلة بذكرها المطلق يراد بها العلة الفاعلية لا غيرها، وتسمى (سبباً) عند المحدثين، وهو ما يترتب عليه مسبب عقلا أو واقعا وقد تسمى بالمحرك أو الفاعل ويقال للعلة الغائية غاية وغرض أو العلة التمامية . ومن خاصيتها (إن سائر العلل بها تصير علة، فانه ما لم تتمثل صورة الكرسي المستعد للجلوس، والحاجة للجلوس في نفس النجار، ولا يصير هو فاعلا، ولا يصير الخشب عنصر الكرسي، ولا تحمل فيه الصورة ؛ فالغائية حيث وجدت في جملة العلل هي علة العلل) . وهي تقع جوابا للسؤال بـ (لماذا؟) أو (لم؟) أكثر من وقوع العلة الفاعلية، ويكون الجواب بها مناسبا حين يتعلق الأمر بالإرادة الإنسانية فحسب .

وسنرى خلال هذا الفصل أن التعليل الذي نحن بصدد بحثه لا يشتمل إلا على العلتين الأخيرتين : الفاعلية (السبب عند المحدثين) والغائية (الغرض).

ومن الجدير بالذكر ان من النحاة من استعمل تسمية الفلاسفة للعلل وأشار إلى تقسيماتهم على وفق ماتطلبه بحثه، فالرضي الاسترابادي مثلاً في حديثه عن المفعول له قال : " فالمفعول له قال : " فالمفعول له هو الحامل على الفعل سواء تقدم وجوده على وجود الفعل كما في قعدت جبنا أو تأخر عنه كما في جئتك إصلاحا لحالك، وذلك لان الغرض المتأخر وجوده يكون علة غائية حاملة على الفعل وهي إحدى العلل الأربع كما هو مذكور في مظانه، فهي متقدمة من حيث التصور وان كانت متأخرة من حيث الوجود "(67)، وجاء في حاشية عليه: " المفعول له سبب حامل للفاعل على الفعل وينقسم إلى قسمين : احدهما : علة غائية للفعل كالتأديب للضرب والثاني ما ليس كذلك كالجبن للقعود " .

ومن العناصر الأساسية في نظرية العلة الأرسطية ما يعرف بشرط "الدوران في العلة"؛ ومؤداه أن هناك ارتباطاً تلازمياً بين العلة والمعلول؛ أي أنه متى وجدت العلة وجد المعلول والعكس صحيح: يقول أرسطو "فالعلة ... والشيء الذي العلة عليه يتكون عندما يتكون معاً، وموجود متى كانت موجودة" .

وحين النظر في التراث اللغوي النحوي العربي لا نكاد نجد ظاهرة نحوية واحدة، أو لغوية لم يلتمس لها النحاة علة، أو سبباً، ولعلهم احتاجوا إلى ذلك حينما تحولت اللغة من منظومة الفطرة (السليقة) إلى منظومة (التعلم)، لأن ذلك استوجب أن يبسط النحوي قاعدته مردفاً إياها بالعلة التي اقتضت الحكم حتى يتمكن من إيصالها إلى ذهن المتعلم، غير أن بعض المتعلِمين بل (المعلِمين) النحاة كانوا من الأعاجم الذين جبلت ألسنتهم على غير العربية، فلما صارت العربية لغة الدين والدولة ألتمسها أؤلئك بشغف ونهم، ولما كانت أذهانهم لا تستجيب دون إظهار علل الأمور وأسباب الظواهر والوقوف على حقيقة الأحكام النحوية التي لم يعد الحصر مجديا في تقصيها، لذلك عمد النحاة إلى استنباطها، وتقعيدها، وإلحاق عللها بها .

وبعد حدوث التأثر بعلوم الفلسفة والمنطق  صار النحوي أبرع من الفيلسوف في إظهار الأحكام والتماس عللها، ولعل التعريج على مراحل تطور العلة منذ نشوئها حتى القرن الثامن الهجري ذو فائدة في معرفة أهمية العلة ونضج الفكر النحوي عند نحاة المدة ميدان البحث، وكذلك الكشف عن بنية التعليل وأسلوب النحاة فيه، وبيان ما بناه النحاة من فكر لغوي أغناه التعليل في كثير من جوانبه لكنه ـ أي : التعليل ـ في جوانب أخرى ساقه إلى التعقيد والغموض والإسفاف، مما دعا كثيرا من النحاة إلى الدعوة إلى إلغاء الكثير من مكونات النظام التعليلي على نحو ما دعا إليه ابن مضاء القرطبي وسواه من النحاة والدارسين.

وقد قسم الدارسون مراحل تطور العلة النحوية على ثلاث مراحل نجد من المهم تقصيها وتتبعها لمعرفة دور التعليل النحوي في البحث النحوي ومدى نضجه .

1- المرحلة الأولى

وهي مرحلة نشوء التعليل النحوي التي يعد أباها الشرعي عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي  وهي تنتهي بالخليل بن أحمد الفراهيدي إذ هو قمتها ونهايتها، وفي هذه المرحلة يمكن وصف التعليل النحوي بالبساطة إذ لم يكن تجاوز حدود معناه اللغوي، وقد كان شيئاً طبيعياً بعد أن رأى علماء المسلمين حث القرآن على معرفة أسباب الظواهر، واللغة هي أحدى تلك الظواهر الموجودة في الكون.

وقد وسم البعض التعليل النحوي في هذه المرحلة بأنه ليس إلا طرائق تمد النحاة بشيء من المتعة النفسية والذهنية معاً، وللباحث وقفة عند هذا الرأي الذي وسم التعليل بأنه فقط لإثارة المتعة النفسية والذهنية لأنه كان إجراءً عملياً لوضع معايير التقعيد وبيانها وعدم تركها مبهمة أمام متلقي العربية الذين كان جلهم من الأعاجم إذ لابد من إظهار العلة التي قام عليها حكم لغوي ما لان ملكة اللغة عندهم مغايرة، فأي اختراق، أو تحول عن ملكتهم اللغوية الأصلية بحاجة إلى صدمة ( علة ) لإحداث فجوة في وعيهم لإدخال ملكة اللغة الجديدة التي يرومون تعلمها، وقد اتسم التعليل في هذه المرحلة بما يأتي:

أ- جزئية الموضوع والنظرة

إذ لم يتناول التعليل في هذه المرحلة إلا قضايا جزئية، ومسائل فرعية  "والنحاة في تعليلاتهم لا يرتبطون بغير القضية التي يعللونها، ولا ينظرون إلـى غير الجزئية التي يسوغونها "، وللبحث وقفة عند هذه السمة التي امتاز بها التعليل النحوي في بواكيره، إذ إن الجزئية كانت استجابة لمعان لغوية لم تصل بعد إلى مفهوم الدرس النحوي وهي مرحلة أولى في تطور الصناعة النحوية ، فلذلك ذهب إلى هذه السمة، وإقرارها.

ب- التوافق مع القواعد

مما يؤشر على التعليل النحوي من سمات هو " الاتساق بين التعليل والقواعد النحوية التي توصل إليها نحاة هذه المرحلة، فليس ثمة تناقض بين التعليل وبين ما توصلوا إليه من قواعد، بل أكثر من ذلك فإن التعليل ليس إلا تبرير القواعد واساغتها، ثم شرحا لبواعثها من ناحية، ولأهدافها من ناحية أخرى ".

ت- الوقوف عند النصوص اللغوية

وتعني هذه السمة أن النحاة حينما كانوا يعللون لا يتقاطعون مع النصوص اللغوية أيا كان مصدرها، بل كانوا يجعلون التعليل في خدمتها .

ومن نافلة القول إن البحث يرى أن الوقوف عند تلك النصوص له ما يسوغه إذ إن النصوص الموقوف عندها كانت نصوصا تمثل الأنموذج الكلامي الذي لا يعتريه الضعف، أو يعتوره التناقض هذا من حيث النص القرآني الذي هو المصدر الأول، أما المدونة الشعرية العربية فقد جهد العلماء من التثبت من صحتها، وكذلك النص الحديثي الذي أحيط بكثير من التحوطات، والاحترازات لأجل التثبت من كل جزيئة من جزيئاته .

2- المرحلة الثانية

تبدأ هذه المرحلة بتشكل ملامحها بتلاميذ الخليل (175 هـ)  وتنتهي بابن السراج ، وهي من حيث الامتداد الزمني تشكل مدة قرن ونصف، وقد ذهب الأستاذ علي أبو المكارم إلى أن هذه المدة لم تشهد تعصباً ضد العربية ، غير أن هذا الرأي لا يتصف بالدقة لكثرة ما ظهر في هذه الحقبة من تيارات معادية ومضادة للعرب والعربية .

ويمكن القول : إن الدراسات اللغوية بعامة، والنحوية بخاصة جاءت ردا على تلك التيارات المضادة يتمثل بالحفاظ على سلامة اللغة العربية، إذ كانت بدايتها في واقع الأمر بدافع إقبال الأقوام الأعجمية الداخلة في دين الله أفواجا علي تعلم العربية وقراءة القرآن الكريم ، فمن الضرورة أن يفهم هذا العدد الغفير من الداخلين في الإسلام والناشئين في بيئات لا تتكلم العربية كلام الله فهما كاملا .

ومن نافلة القول أن نشير هنا إلى أن هذه المرحلة قد اتسمت بميزتين أساسيتين هما:

1- الجمع بين الجزئيات المتفرقة .

2-  ضم الجزئيات المتفرقة في إطار كلي يشملها .

فمن حيث يعلل النحوي قضية جزئية فإنه يحاول الوصول من خلال ذلك إلى قضية كلية من خلال الربط بين القضيتين ،ويمكن الإشارة إلى عاملي التأثير في مجرى الفكر التعليلي في هذه المرحلة وهما : مبدأ الخفة، أو ما سماه النحاة بـ( التخفيف )، وقد استندوا في ذلك على قاعدة تقول : (( إن المراد من اللفظ الدلالة على المعنى فإذا ظهر المعنى بقرينة حال، او غيرها لم يحتج إلى اللفظ المطابق ))  . مبدأ الفرق، ويراد به أن اللغة لحكمتها أرادت أن تفرق بين الظواهر المتفرقة فاصطنعت لذلك أساليب متعددة .

3- المرحلة الثالثة

وهي المرحلة الأكثر نضجا وتقدما في تاريخ التعليل النحوي إذ صار علما له معاييره، ومصطلحاته، وأصوله، وتبدأ هذه المرحلة بالزجاجي (311 هـ) صاحب كتاب (الجمل) الذي عد في تاريخ العربية فتحاً كبيراً، فضلاً عن أن الدرس النحوي شهد تطورا واضحا بعد أن توطدت أركانه وتفرعت وتعددت مدارسه، ومن الناحية المنهجية نجد أن التأليف في التعليل النحوي صار مستقلا، وأفردت له عنوانات خاصة، وكذلك مصنفات مستقلة، وهذا يفضي إلى الاستنتاج بأن التعليل النحوي بدءا كان ممتزجا بالنحو حتى هذه المرحلة التي استقل فيها عنه منهجا وتأليفا .

كذلك من الطبيعي جدا أن نلفي ظلال المنطق الارسطي الذي اثر في مجمل الفكر العربي الإسلامي حاضرة في التعليل النحوي الذي تأثر بذلك المنطق بشكل مباشر، أو غير مباشر على مستوى التنظير والتطبيق.

وفي هذه المرحلة انصب اهتمام النحاة في تعليلاتهم على أمرين هما :

1- الربط بين الأحكام والعلل .

2- التنسيق بين العلل النحوية .

وفي هذه المرحلة المتقدمة من تاريخ التعليل النحوي نشأت أنواع من العلل هي (العلل القياسية، والعلل الجدلية، والعلل التعليمية) وقد أحصيت الأخيرة حتى بلغت نحو (أربع وعشرين) علة .

3- المرحلة الرابعة

إن سيادة مبدأ التعليل في البحوث التي تناولتها الدراسات اللغوية والنحوية عند متأخري النحاة  يعد وجهاً بارزاً لتأثير الفلسفة والمنطق في تلك الدراسات، إذ كان لابد للظاهرة اللغوية او النحوية من علة يعتل بها .ولعل من وجوه تأثر العلة النحوية بالعلة الفلسفيـة اشتراط النحاة فيها ان تكون موجبة للحكم في المقيس عليه . وهذا هو الشرط الوحيد الذي اتفق العلماء على ضرورة اتصاف العلة به، وعليه فان للعلة في تصور النحاة تأثيرا ؛ اذ تكون سابقة للقواعد ومؤثرة فيها معاً ، وهذا إنما يذكر بعلة الفلاسفة التي هي المؤثر في غيره .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم