أقلام فكرية

علم التاريخ ونظرية التاريخ عند ابن خلدون

ميثم الجنابيقراءة فلسفية جديدة لفلسفة ابن خلدون (4)

إن فلسفة التاريخ عند ابن خلدون هي الرؤية المنهجية العامة عن التاريخ ومساره الفعلي في الوجود الإنساني. أما علم التاريخ فهو تحقيق الرؤية الفلسفية أو مبادئ النظرية العامة. وبالتالي شكلت بما في ذلك استنتاجاتها الحصيلة النظرية التي وضع ابن خلدون على أساسها علم التاريخ ونظرية التاريخ. فعلم التاريخ أو فن التاريخ بالنسبة له هو "ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل"، أما نظرية التاريخ أو فكرة التاريخ، فهي "أس المؤرخ"، حيث يقوم بذكر "الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار".  بمعنى إن النظرية العامة للتاريخ خلافا لتأريخ الأحداث تقوم في تأسيس الرؤية النظرية العامة والمجردة عن أحوال الوجود الإنساني التاريخي وتباين مراحله. إضافة إلى رؤية آفاق هذا المسار التاريخي. ومن خلال هذه الرؤية حاول تفسير المسار التاريخي للأمم والدول سواء عبر تحقيق ما في النظريات والآراء السابقة له أو من خلال تفسيرها ودمجها في نظريته عن التاريخ.

لقد سعى ابن خلدون للكشف والبرهنة على أن رؤيته العامة التاريخية والعلمية والفلسفية قادرة على هضم مختلف الآراء ولكن من خلال نفيها في منظومته العلمية. ومن الممكن اتخاذ موقفه من أثر الجغرافيا والمناخ في تاريخ الوجود الإنساني والحضارة (التاريخ العام) نموذجا لذلك. ففي موقفه من الفكرة المناخية الطبيعية، التي تتناول أثر المناخ في تاريخ الوجود الإنساني والحضارة، نراه ينطلق من إقراره بأن للمناخ أثر كبير في صيرورة العمران. ومن ثم يلعب دورا لا ينبغي الاستهانة به بالنسبة لنشوء المدنية والحضارة، وكذلك أشكالها ومستوياتها. فالأقاليم المعتدلة، وبالأخص الإقليم الرابع (الأكثر اعتدالا) هي المجال الجغرافي الطبيعي الذي نشأت فيه أغلب الحضارات الكبرى، كما انه ميدان التاريخ الفعلي انطلاقا من فكرته القائلة، بأن التاريخ هو صيرورة الدولة والحضارة. وبالتالي، فإن أثر المناخ والجغرافيا وإنعكاسهما جلي في العلوم، والصنائع، والمباني، والملابس، والأكل، والفواكه، بل حتى في الحيوانات" كما نراه في اجسام وألوان الناس، بل وفي أخلاقهم ودينهم[1].  ذلك يعني، إن ابن خلدون يؤكد ما في الفكرة الجغرافية الطبيعية من أثر بالنسبة للوجود التاريخي للبشر. فهو جلي في كل ملامح الوجود الإنساني والطبيعة. وقد تتبع على مثال الحضارة الإسلامية ظهور وتطور مختلف العلوم والصنائع وكذلك أشكال وهيئة الملابس والمباني ونوعية الغذاء والمطبخ وكثير غيرها، أي كل تلك المكونات التي تشكل أساس الحضارة الإنسانية ومظهرها. وبالتالي ادخل هذا النوع من التفسير بوصفه احد مظاهر الأثر الطبيعي للحضارة، انطلاقا من أن الحضارة والوجود الإنساني بالنسبة له حالة طبيعية، أي مرتبط بالطبيعة بوصفها المقدمة الضرورية للوجود الإنساني نفسه. وتوصل بأثرها وعلى خلفية منهجه العلمي والفلسفي في النظر إلى التاريخ، إلى أحكام عقلانية وإنسانية عميقة. إذ نعثر، على سبيل المثال، في رؤيته هذه على تفسير واقعي وعقلاني للأسود والأبيض في ألوان البشر بأثر الطبيعة والمناخ. ومن ثم ينفي في فكره هذا ومنهجه التصورات الأسطورية والدينية حول حام وسام وما شابه ذلك من تفاسير لا علاقة لها بالرؤية العلمية. ونفس الشيء يمكن رؤيته في موقفه وتفسيره لتأثير الهواء في أخلاق البشر. فهو يشير إلى واقع بعض الصفات الخاصة بما اسماه بخُلق السودان (الأفارقة) مثل الخفة والطيش وكثرة الطرب، بوصفها صفات ناتجة عن الأثر الطبيعي والطبيعة. وعليها بنى استنتاجه النافي لجميع صيغ التأويل والتفسير المنافية للرؤية العلمية والإنسانية. واعتبر أن لهذه الأخلاق مقدمات في الطبيعة الجغرافية والمناخية ولا علاقة لها بالعرق. والتفسير الطبيعي لذلك يقوم في أن "طبيعة الفرح والحزن هي نتاج انتشار الروح الحيواني أو انقباضه"[2]. وكل ذلك يجري بأثر السخونة. وليس مصادفة أن يغنّي الناس في الحمامات. بمعنى انه نتاج "بخار الروح في القلب". ووضع هذه الفكرة في موقفه المعارض والنافي للتصورات العنصرية بهذا الصدد كما كان الحال بالنسبة لآراء جالينوس، التي نقلها المسعودي والكندي حول ما يسمى "بضعف أدمغة السودان". وعلّق ابن خلدون على هذه الفكرة قائلا: "كلام لا محصل له ولا برهان فيه"[3]. كما قدم ابن خلدون أمثلة كثيرة بهذا الصدد للبرهنة على أن تفسير الظواهر الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والعلمية وغيرها مما هو ملازم للوجود الإنساني يفترض البقاء ضمن حيز الرؤية العلمية التي بلور مبادئها وقواعدها التي سبق وأن جرت الإشارة إليها أعلاه. وكان هذا بدوره أساس ما يمكن دعوته بنظرية التاريخ عند ابن خلدون.

انطلق ابن خلدون من أن التاريخ "هو فن من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال". بمعنى انه يحتوي على توثيق تجارب الأمم في مسارها التاريخي أو تطورها وارتقاءها. وبالتالي، فإن التاريخ بالنسبة له لا ينعزل عن وجود الأمم وتعاقب الأجيال، أي أن وجودها هو وجوده. فهو يبلور هنا للمرة الأولى في الفكر التاريخي المنهج القائل بالفكرة المجردة وارتباطها الوثيق بالوجود التاريخي. ومن ثم رمي كل ما لا علاقة له بالواقع والتاريخ الفعلي لوجود الأمم والأجيال. وإذا كان التاريخ يبدو في ظاهره كما لو انه أخبار الأيام والدول كما نعثر عليه عند هزيود و(أيامه) وعند هيغل وفكرة الدولة وكثير غيرهم، فإنه بالنسبة لابن خلدون هو مجرد جانب خارجي فيه. أما باطنه أو حقيقته فتقوم في كونه "نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الواقع وأسبابها عميق".

إن حقيقة علم التاريخ بالنسبة لابن خلدون تلازم بالضرورة ارتقاءه إلى مصاف العلم النظري، أي أولوية وجوهرية النظر العقلي والتحقيق الفعلي والتفسير السببي لكل ما هو كائن وموجود أو ما هو ثابت ومتغير بالاستناد إلى مبادئ دقيقة هي تلك التي جرت الإشارة إليها أعلاه. إننا نقف هنا أمام رؤية تستند إلى معرفة ماهية الأشياء وكيفيتها وأسبابها، أي إلى الأسئلة الجوهرية بالنسبة للبحث العلمي. انه يشير بصورة دقيقة إلى ضرورة النظر والتحقيق والتعليل لما هو موجود، ومعرفة المقدمات والأسباب الأولية، وآلية الأسباب الحقيقة وفعلها في الوقائع التاريخية. ووضع هذه المقدمة النظرية العميقة في أساس موقفه النقدي تجاه ما اسماه بعدم مراعاة المؤرخين ممن سبقه "لأسباب الوقائع والأحوال"، كما أنهم "لم يرفضوا الترهات". وحدد ذلك بدوره موقفه النقدي من البنية التقليدية في البحث، بوصفها أولى المهمات الجوهرية لعلم التاريخ.

فالتاريخ بالنسبة لابن خلدون ليس الماضي، بل الفكرة المجردة التي تتأمل المستقبل. من هنا حديثه عما اسماه بالأجيال الناشئة. والقضية بالنسبة له لا تقوم في تقديم "صور مجردة عن موادها" كما حاول المؤرخون القدماء القيام به، بل استيعاب ما يمكن دعوته بالعملية التاريخية في أدق تجلياتها وذروتها في نشوء الدولة وصيرورتها التاريخية والثقافية. وضمن هذا السياق يكون ابن خلدون أول من وضع فكرة الترابط الجوهري والضروري بين الحضارة الدولة (سبق هيغل). فالدولة بالنسبة له هي بداية ونهاية العمران، أو الصيرورة الثقافية للإنسان والجماعة والأمة والدولة.

استنبط ابن خلدون فكرته عن التاريخ من الوجود الإنساني الطبيعي وتطوره الطبيعي الثقافي بوصفه صيرورة حضارية. ومنها توصل إلى بلورة فلسفته التاريخية وفلسفة الثقافة والحضارة. الأمر الذي اعطى لطريقته في البحث وتأسيسها مستوى جعلها تحتوي أيضا على ما يمكن دعوته بفلسفة الرؤية المستقبلية. وفي هذا أيضا تكمن احد الجوانب الرفيعة في فلسفته التاريخية. فالقيمة الكبرى لإبداعه بهذا الصدد تقوم في تعميمه لتجارب الفكر والفكرة التاريخية العربية الإسلامية، ونقلها إلى مستوى الفلسفة في الموقف من التاريخ، أي إبداع فلسفة للتاريخ لها أصولها الواقعية الخاصة وثمرتها النظرية العامة. فقد عمم ابن خلدون أربعة جوانب أساسية في فكرته هذه، وهي تاريخ الأحداث؛ وتاريخ الأفكار؛ وتاريخ الرؤية القديمة؛ ومستقبل الرؤية التاريخية والتاريخ المستقبلي.

ووجد في هذا المنهج مقدمة وأسلوب الرؤية الواقعية والعلمية ومن ثم تذليل مختلف الصيغ التقليدية والتقليد. غير أن التقليد الأعمى الذي تناوله وتكلم عنه ابن خلدون لا ينحصر في تقييمه واستنتاجه عن أن الرؤية التقليدية والتقليد لا يمكنهما رؤية الجديد، رغم انه يعطي لهذه المقدمة صفة العامل الحاسم. لقد نظر إليها بصورة ملموسة بوصفها ضعف أو انعدام الاستيعاب والفهم لمجريات تطور المجتمع وأسس وجوده المادية الفعلية. ووضع هذا الاستنتاج والفكرة في عبارة "الجهل بطبائع الأحوال في العمران"[4]. وأضاف إلى هذا الجانب المعرفي والمنهجي أثر المصالح الاجتماعية والأفكار السياسية والعقائد. من هنا قوله، إن الكذب حالما يتطرق للخبر، فإن له "أسباب تقتضيه"، ومن بين أبرزها، كما يقول اين خلدون هو كل من "التشيع للآراء والمذاهب"، و"كون النفوس مولعة بحب الثناء"، و"الناس يتطلعون الى الدنيا وأسبابها من جاه وثروة"[5].

لقد بلور ابن خلدون طريقته في البحث التاريخي من خلال ما اسماه بالدخول "من باب الأسباب على العموم إلى الأخبار على الخصوص... واعطي لحوادث الدول عللا وأسبابا". فمن الناحية المنهجية والنظرية المجردة نراه يضع الفكرة الفلسفية المبرى القائلة بالانتقال في دراسة التاريخ من العام إلى الخاص (والتي سيقول بها لاحقا هيغل وماركس وغيرهم). لكن ما هو جوهري هنا هو التأكيد على أن التاريخ بالنسبة لابن خلدون ليس محلا للنزهة أو الاحتراف الفكري المحكوم بنفسية الإمتاع والمؤانسة، بل لاستقاء العبرة منه، أي وسيلة لفهم الحاضر واستشراف المستقبل. وبهذا يكون هو أول من جعل التاريخ فكرة مستقبلية. فالتاريخ بالنسبة له ليس دراسة أحوال الملوك والأمراء، بل دراسة مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والروحية. وأشار بهذا الصدد إلى انه "لم يترك شيئا في أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التعرض والحول في القرون الخالية والمِلَل. وما يعرض في العمران من دولة ومِلَة، ومدينة وحلة، وعزة وذلة، وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب واضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة". ذلك يعني، انه لا يدرس الواقع كما هو فحسب، بل ويشير إلى ما هو كامن، أي إلى ما هو "منتظر" ومحتمل. ووضع هذه الفكرة في عبارة تقول، بأنه "لم يترك لا بدو ولا حضر، وواقع ومنتظر إلا واستوعبته جملة"، أي كل ما هو موجود ومحتمل. وهنا نعثر على ملامح الفكرة المستقبلية. ذلك يعني انه يدرس الواقع كما هو، وكذلك ما هو كامن في الوجود التاريخي وما هو "منتظر"، أي مستقبلي.

إن الحصيلة العامة والأولية لما سبق طرحه تكشف عن فلسفته الخاصة في النظر إلى التاريخ، أو فلسفة التاريخ الخلدونية. وذلك لأنه يبحث عن علل الأحداث والظواهر وتفسيرها وفحصها بمعايير الفكرة السببية. وجعل من العلم القوة الوحيدة القادرة على انجاز هذه المهمة. من هنا وضعه لأولوية العلم على البصيرة (العقل). وانطلق في موقفه هذا من أن "الناقل، إنما يملي وينقل، بينما البصيرة تنقد الصحيح... أما العلم فهو القادر على أن يجلو صفحات الصواب ويصقل". إننا نقف هنا أمام منهجية المستويات المتنوعة والمترابطة: الفحص ثم البصيرة (العقل) ثم العلم (المجرد). وهي درجات لكنها متوحدة في منظومته الفكرية والفلسفية عن التاربخ. فهي المستويات التي تؤسس لماهية وحقيقة علم التاريخ.

فالتاريخ السابق لابن خلدون في أحسن أنواعه لا يتعدى كونه نقلا وإملاء للأحداث سواء عبر معايشتها المباشرة أو نقلها من بطون الكتب. وهو مستوى مهم في التدوين التاريخي لكنه يبقى في نهاية المطاف مجرد تدوين لا غير. أما حقيقة التاريخ فهي من نوع آخر. كما أنها المهمة الجوهرية لعلم التاريخ. فالأخير هو الحصيلة النهائية للنقد العقلي والتمحيص العلمي. فالعقل، كما يقول ابن خلدون، ينتقد الصحيح، أي يكشف ما فيه من دقة وحقيقة، وذلك لأن النقد هو تحديد وفرز الأصيل من المزيف. وفي مجال التاريخ هو فرز الحقائق عن غيرها مما هو نتاج التقليد أو الخرافات والأساطير والعقائد والمصالح بمختلف أنواعها. أما العلم فمهمته إجلاء صفحات الصواب وصقلها، حسب عبارة ابن خلدون. بمعنى جعلها أكثر نقاء ووضوحا. ولا يمكن بلوغ ذلك دون العلم، أي تنقية الرؤية التاريخية من كل الشوائب التي لا علاقة لها بالعلم بوصفه أسلوب ومنهج التحليل والنقد المبنيين على أساس المنطق والتدقيق الخالص.

 

ا. د. ميثم الجنابي

............................

[1] ابن خلدون: المقدمة، ص65.

[2] ابن خلدون: المقدمة، ص68.

[3] ابن خلدون: المقدمة، ص69.

[4] ابن خلدون: المقدمة، ص28.

[5] ابن خلدون: المقدمة، ص27-28.

 

في المثقف اليوم