أقلام فكرية

التاريخ والعمران في فلسفة ابن خلدون التاريخية

ميثم الجنابيقراءة فلسفية جديدة لفلسفة ابن خلدون (5)

التاريخ بالنسبة لابن خلدون هو العلم حول المجتمع الإنساني. انه ليس تاريخ الملوك والأفراد والجماعات والأديان والعقائد، بل تاريخ العمران. وبهذا يكون ابن خلدون قد نقل فكرة التاريخ إلى الميدان الواقعي بمختلف مكوناته ومستوياته ومساره التاريخي. ومن ثم نقل هذه الفكرة إلى مستوى الرؤية النظرية ومن بعدها إلى مستوى الرؤية الفلسفية. واشتق مصطلح "العمران" الذي يعادل معنى القوة الفاعلة في الصيرورة التاريخية للأفراد والجماعات والمجتمعات والأمم والدول وإبداعهم المادي والروحي، أي المصطلح الذي يحتوى على كل المكونات الجوهرية للوجود الإنساني. من هنا حديثه عن إن حقيقة التاريخ هو "خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم"[1].

ذلك يعني، إن التاريخ بوصفه علما هو خبر عن الاجتماع الإنساني بوصفه عمرانا، أي أن حقيقة الوجود الإنساني بالنسبة لابن خلدون مرتبط بحالة العمران التي ترتقي به من مصاف الحيوان إلى مصاف الإنسان. وبالتالي، فإن التاريخ هو أيضا صفة ملازمة للوجود الإنساني وإبداعه النوعي.

تحتوي الفكرة التي بلورها ابن خلدون عن إن التاريخ هو العمران على أبعاد كبيرة وعميقة بصدد فهم محددات التطور التاريخي للوجود الإنساني. وذلك لأنها تفرّق بين الزمن والتاريخ. فالأحداث ومجراها وما شابه ذلك هو زمن. بينا تتحول إلى تاريخ في مجرى العمران، أي في مجرى البناء والإنتاج والتطور العلمي والعملي والحفاظ عليه بهيئة بشر وعوائد. ولا يعني ذلك سوى الحفاظ على تراث الأسلاف الثقافي، أي على مجمل الانجازات الكبرى للثقافة التاريخية وتجارب الأمم في إبداعها.

فالعمران بالنسبة لابن خلدون هو ليس البناء والإنتاج فحسب، بل ومعنى تشكيل المجتمع الإنساني وقدرته على حفظ النوع واستمراره. وبهذا المعنى يصبح العمران حاجة وضرورة حياتية. عندها تصبح فكرة الإنسان بحد ذاته الأساس الجوهري في فكرة العمران، أي انه يتكلم عما يمكن دعوته بالعمران البشري. وانطلق من الفكرة العامة القائلة، بأن ميزة الإنسان عن سائر الحيوانات هو اختصاصه بخواص منها العلوم والصنائع[2]. ذلك يعني، إن الصفة الجوهرية للإنسان التي تميزه عن عالم الحيوان هو تمكنه من الصنائع والعلوم، أي القدرة على الانتاج والتفكير. ووضع هذه الفكرة في أساس مقارنته بعمل الحيوانات الأخرى. فعندما قارن بين ما اسماه بالعمل الالهامي المميز للنحل والجراد، وبين الفكر والروية المميزة للإنسان، فإنه توصل إلى أن التمايز والخلاف الجوهري بينهما يقوم في أن تفكير الإنسان ليس معزولا عن عمله غير المتناهي وتطوره العمراني (الحضاري). حيث نعثر على بلوغ الفكر والروية، كما يقول ابن خلدون "في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه"[3]. وبالتالي، فإن امتلاك الإنسان لطرق ووسائل العيش والعمل بمستويات وأساليب مختلفة مرتبط بافتقاره للغذاء في حياته وبقائه. بمعنى إن الإنسان قادر على البقاء في حال قدرته على انتاج غذاءه فقط. وإذا كان الحيوان يواجه الطبيعة بقدرات وأطراف خاصة به، فإن الإنسان أكثر كمالا وقوة بفعل فكره ويديه وآلاته، بوصفها امتدادا للبدن. فاليد مهيئة للصنائع. وبخدمة الفكر والصنائع تحصل للإنسان الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع مثل الرماح وغيرها[4]. وهذا كله مرتبط بالفكرة العميقة التي بلورها ابن خلدون عن أن "الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه. فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقا وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة"[5]. بعبارة أخرى، إن حقيقة الإنسان في صيرورته التاريخية الثقافية التي تجعل منه إنسانا بالمعنى الدقيق للكلمة كل من تجاربه الثقافية وبأثر العادة والتقاليد وليس بأثر طبيعته التي لا تختلف عما هو مميز للحيوان. وبالتالي، فإن حقيقة الإنسان تقوم في كونه كينونة ثقافية حضارية صرف.

وضع ابن خلدون هذه الحصيلة في أساس فكرته وتفسيره عن العمران البشري. فهو ينطلق من الفكرة العامة القائلة، بأن العمران ضرورة حياتية. وانه يرتبط بالاجتماع البشري ارتباطا عضويا. وإن الذي يحدد طابع هذا الاجتماع ومقدماته هو ظروف الناس المادية وتركيبتهم بوصفهم كائنات حية. فالاجتماع الإنساني (العمران) يقوم من وجهة نظر ابن خلدون بأثر الضرورة الحياتية، أي بسبب الحاجة لاستمرار وجودهم الإنساني وصيرورته الدائمة. وهو أمر جلي حالما ننظر إلى وجوده الذي يستلزم الغذاء من اجل ديمومته واستمرار النوع. ففي موقفه هذا وتفسيره لهذه الظاهرة الضرورية للوجود الإنساني، تضمحل وتتلاشي الأفكار اللاهوتية والدينية، وعوضا عنها تأخذ بالتأطر فكرة علمية وواقعية دقيقة تقول، بأن القوة والمقدمة الملازمة والجوهرية بهذا الصدد تقوم في علاقة العمل والإنتاج، بوصفها علاقة انتاج اجتماعية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من الغذاء الضروري لوجوده. إذ "لو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ". وكل هذا يحتاج "إلى ادوات والآت لا تتم الا بصناعات"[6]. بل حتى في حالة كون هذا الإنسان يأكل أكله دون أن يعالجه، فهو يحتاج في تحصيله إلى أعمال أخرى كالزراعة والحصاد والدراسة، وهذه الأعمال بدورها بحاجة إلى الآت متعددة وصنائع"[7]. فالإنسان يصنع الآلة ويستخدمها في نشاطه. والآلات هي امتداد لليد البشرية. وعندما يؤكد ابن خلدون، مستندا إلى آراء جالينوس حول أهمية الأعضاء للإنسان الفرد، فإنه يتوصل إلى استنتاج اجتماعي مفاده، إن "الواحد من البشر لا تقاوم قدرته واحد من الحيوانات العجم ولاسيما المفترسة منها. فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة. ولا تفي قدرته أيضا باستعمال الآلات المتعددة للمدافع لكثرتها وكثرة الصنائع والمواعين المعدة لها. فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه. وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء ولا تتم حياته"[8]. وليست هذه الحصيلة سوى التدقيق والتحقيق المباشر للموقف أو المبدأ العام الذي قال به عن الترابط العضوي والضروري بين اليد والآلة والفكر بالنسبة للاجتماع الإنساني.

أما تأسيس فكرته العامة والخاصة عن "العمران البشري"، فقد استندت إلى مقدمتين، الأولى نظرية عامة تتعلق بمضمون العمران، والثانية تتناول علاقة العمران بالجغرافيا[9]. فاختلاف العمران بأثر الجغرافيا (الأرض) بالنسبة لابن خلدون أقرب إلى الحقيقة الجلية. لكنه تأثير يقترن بما يمكن دعوته بفضاء الوجود العمراني. من هنا اهتمامه بالدور الذي تلعبه الجغرافيا في العمران. واعتبر ذلك من الأمور الجلية في حياة البشر ونمط حياتهم وبشرتهم وأمزجتهم وما إلى ذلك. بحيث نراه يفرد لهذه الجوانب ما يقرب الخمس وثلاثين صفحة[10]. ثم يفرد ثلاث مقدمات أخرى لدراسة تأثير الهواء (الجو) في ألوان البشر وأخلاقهم وأبدانهم[11]. لكنه توصل في مجرى دراسة أثر الأرض والمناخ إلى أن قوة الإنسان وذهنه ولونه وصفاء بشرته مرتبط بنوعية الاغذية. فمثلما نجد الحيوانات تتباين في أشكالها بفعل تباين الطبيعة، فإن ذلك يجد انعكاسه في الإنسان أيضا[12]. بمعنى أن الطبيعة تتحكم بمظاهر الوجود بما في ذلك الإنساني. وذلك لأن الإنسان حيوان وابن الطبيعة. غير إن هذا الاستنتاج يمس ظاهر ومظاهر الأثر الطبيعي في طبيعة الإنسان ومن ثم العمران. أما الجانب الباطن لهذه الظاهرة فيقوم في تحديد الصفات والآثار المعنوية للوجود الإنساني وقيمه. من هنا قوله بأن البلادة من التخمة، والحسن من الاعتدال. ومن ثم يمكن تطبيق ذلك أو رؤيته في أخلاق الناس على العموم. وبأثر ذلك توصل إلى استنتاج عميق من الناحية العقلية والأخلاقية يقول، بأن من "يهلك في المجاعات إنما قتلهم الشبع المعهود السابق، لا الجوع الحادث واللاحق"[13].

إن استعمال ابن خلدون لمصطلح العمران عوضا عن الاستعمال الشائع لمصطلح المدنية السائد عند الفلاسفة يعكس دقته في التعبير والرؤية. إضافة إلى المضمون الجديد الذي يتضمنه هذا المصطلح. إذ وضع في أساس فكرة العمران بوصفه القوة الدافعة للتطور الإنساني مفهوم "وسائل العمل" وأدواته، ودورها الحاسم بالنسبة لفكرة العمران نفسها. فالإنسان لا يمكنه القيام بشيء دون إنتاج وبدون آلات كما يقول ابن خلدون. فهي المقدمة الأولية والضرورية والجوهرية بالنسبة للوجود الإنساني والعمران البشري. الأمر الذي يجعل من العمران فكرة تحتوي على معاني القوة الابداعية للرقي الإنساني، والمدنية، والثقافة، والحضارة. بمعنى جمعه إياهم جميعا تحت مظلة العمران. غير أن المعنى الذي يرتقي إلى مصاف الرديف الفعلي لمعنى العمران هو الإبداع الثقافي المادي والروحي، أي انه يعادل معنى الصيرورة النشطة في الوجود الإنساني وتطوره. وهو استنتاج مبني على أساس ما وضعه ابن خلدون من جوانب ثلاثة في صلب معنى أو مقدمة فهم ظهور وتطور العمران وهي كل من الكينونة الاجتماعية للإنسان (الإنسان كائن اجتماعي)؛ والطابع الضروري والطبيعي للاجتماع الإنساني؛ وإن الاجتماع هو العمران. وهو المنهج الذي ميز رؤيته التاريخية عن غيره ممن سبقه.

إن العمران بالنسبة لابن خلدون، هو أحوال الناس ومستوى تطورهم، والدولة والسلطة والنظام السياسي (الملك)، ومراتب تطور الدول، وطرق الحصول على وسائل العيش، والصناعة والزراعة. من هنا حديثه عن العمران البدوي والعمران الحضري، والذي يطابق فيه بين العمران الحضري والمدنية. من هنا يمكن التوصل، إلى أن أحد معانى العمران يعادل معنى الثقافة في اللغة المعاصرة، والعمران الحضري يعادل معنى الحضارة. ذلعن، أن العمران يشكل المعنى الجوهري في فلسفة التاريخ الخلدونية. وفيه ومن خلاله يجري الكشف عن مهمة علم التاريخ وفلسفته. وهي الفكرة التي يمكن استمدادها من آراء وأحكام ابن خلدون عن أن صحة أو سلامة الحقائق التاريخية المعروفة تقوم في مدى مطابقتها للواقع. فهو المحك الذي يبرز الصحيح من الخطأ أو الحق من الباطل. أما ميدانه فهو العمران، والذي يقصد فيه ابن خلدون مختلف جوانب الوقائع والحقائق ذات الأهمية بالنسبة للتاريخ والعقل النظري. إذ إنها تبلغ هذا المقام حالما تكون جزء من العمران، أي من التاريخ الحقيقي. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "القانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان أو الاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته، وبمقتضى طبعه، ما يكون عارضا لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له. وإذا فعلنا ذلك كان لنا ذلك قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق والكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه"[14].

لقد حاول ابن خلدون البرهنة على ضرورة المعيار الحق والصحيح الذي ينبغي للمؤرخ الاعتماد عليه، أي كل ما يتطابق مع كمية ومنظومة القواعد والمبادئ الضرورية التي تعادل معنى المنهج الضروري لفلسفة التاريخ. وهي قضية كان ينبغي لها أن تثير العقل النظري عند القدماء في مختلف الحضارات السابقة، إلا انه لم ير منها شيئا، ولم تصل إليه، كما يقول ابن خلدون. ومن ثم فإن ما يضعه هنا هو من إبداعه الذاتي الخالص وقريحته العلمية. ومن ثم أصالة ما في فكرته أو فلسفته للتاريخ، رغم "أن العلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون"[15]. وينطبق هذا على حصيلة الفكر اليوناني. إذ أن إلقاء نظرة على ما في كتبهم بهذا الصدد يشير إلى أنهم نظروا إلى فن التاريخ بوصفه ثمرة، وأن هذه الثمرة هي الأخبار وتصحيح الأخبار، كما يقول ابن خلدون. من هنا مناقشته للمناهج أو الأفكار الكبرى الثلاث بهذا الصدد وهي كل من الفكرة الدينية، والسياسية (الوضعية الدنيوية)، والفلسفية.

فالفكرة الدينية التي يمثلها الفقهاء تستند الى "أن البشر متعاونون في وجودهم، فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع". و"أن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع". بمعنى أنها تشدد على أولوية الحاكم والوازع.

أما الفكرة الدنيوية (السياسية) فيقدمها على ما هو مشهور في الثقافة الإسلامية آنذاك على نموذج بهرام، مستندا إلى ما أورده المسعودي في تاريخه عن حكاية البوم والتي تقول:"ايها الملك! إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه. ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عزّ للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة الا بالعدل...". بمعنى تركيزها على أولوية العدل. أما على نموذج انوشروان، فإنها تشدد على هذا الترابط يالشكل التالي: "الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج،، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل".

أما الفكرة الفلسفية كما نراها عند ارسطو في كتابه (السياسة) فيجري عرضها بالشكل التالي:"العالم بستان سياجه الدولة. الدولة سلطان تحيا به السنّة (قانون الحياة). السنّة سياسة يسوسها الملك. الملك نظام يعضده الجند. الجند أعوان يكفلهم المال. المال رزق تجمعه الرعية. الرعية عبيد يكنفهم العدل. العدل مألوف وبه قوام العالم، والعالم بستان...". وقد انتقد ابن خلدون آراء ارسطو بصدد التاريخ، رغم ما في كتاب (السياسة) نفسه من آراء يمكنها أن تخدم في هذا المجال، إلا أن ما فيه حسب عبارة ابن خلدون "غير مستوفي، ولا يعطي حقه من البراهين"، وذلك لأن مفاهيم ارسطو تدور في حلقة مفرغة، لا يمكن الاستناد إليها وعليها في ما يخص تفسير التاريخ والعمران فيه.

ولم يقف ابن خلدون عند هذا الحد بل يتعداه في تناول مختلف النظريات والمواقف والآراء في مجرى اشاراته إلى الكتب الموسوعية التي حاولت الاجابة على القضايا المتعلقة بالتاريخ من حيث كونه علما أو فنا أو إشكالية، كما هو جلي في موقفه من كتاب ابو بكر الطرطوشي (سراج الملوك). وذلك لأن جميع هذه الكتب، كما يقول ابن خلدون "لم تصب الشاكلة، ولا استوفت المسائل، ولا أوضحت الأدلة. إنما بوبت الباب للمسألة ثم استكثرت الأحاديث والآثار، ونقل كلمات الحكماء"[16].

يحتوي مصطلح وفكرة العمران على جوانب إضافية وفرعية مهمة من اجل فهمه بوصفه فكرة منظومية، منها تفريقه وتدقيقه لمفاهيم العمران البدوي، والأمم الوحشية، والقبائل، وتقسيم العمل الذي يتناول بالأساس مهنة الفلاحة والرعي، وفائض الانتاج. فهي المفاهيم المفصلية الأولية لإدراك حقيقة العمران بوصفه ظاهرة تاريخية ثقافية ملازمة وموافقة للوجود الإنساني.

ينطلق ابن خلدون من أن البدو والبداوة درجة ضرورية وطبيعية في تطور الإنسان ونوعية تعامله مع الطبيعة. وفيها وضمنها تولد وتعيش القبائل و"الأمم الوحشية". وهذه بدورها ليست أحكاما قيميية بل مفاهيم اجتماعية وثقافية. من هنا فكرته عن أن البداوة هي الدرجة الأولية والضرورية للعمران أو للمدنية والحضارة. أما فكرة "فائض الإنتاج" فإنها تتحول إلى المعيار الأكبر لمستوى التطور الثقافي والحضاري وأسلوب العيش. فازدياد الثروة أو "الثروة الزائدة عن الضروري" حسب عبارة ابن خلدون هو الذي يحدد مدى الابتعاد عن البداوة.

وجعل ابن خلدون من مفهوم "فائض الإنتاح" المفتاح المنهجي لرؤيته عن التاريخ والحضارة. إذ يشكل الإنتاج المقدمة التي على أساسها بنى ابن خلدون فكرته عن طابعه الجوهري بالنسبة لبناء صرح تعايش البشر وعلاقاتهم، وكذلك نمط حياتهم. فاختلاف حياة الأجيال يتحدد أساسا بأساليب عملهم وبطريقة حصولها على وسائل العيش. بل ونراه يؤكد على أن هذه العلاقات التي تنشأ بين الناس تحددها الضرورة الحياتية نفسها. وذلك لأن "اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نِحَلهم في المعاش. فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه قبل الحاجي والكمالي"[17]. فالقائمون على الزراعة والرعي كما يقول ابن خلدون "تدعوهم الضرورة ولابد إلى البدو، لأنه متسع لما لا يتسع له الحواضر من المزارع"[18]. بعبارة اخرى، حالما يتحدث ابن خلدون عن انعكاس الضرورة الحياتية بأثر شكل الإنتاج، فإنه يحدد هذا النمط ويستخرجه من أرضية وأسبقية الطبيعة ومستوى التطور. فالعلاقات الجماعية بين البدو يحددها مستوى تطور الإنتاج ومقدار الفائض الشحيح فيه. لكنها علاقة قابلة للتغير بالارتباط مع زيادة الإنتاج. وهي الأفكار التي وضعها في تقريره عن أن "اختصاص هؤلاء البدو أمرا ضروريا لهم. وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم في القوت والسكن والدفء إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة من غير مزيد عليه للعجز عما وراء ذلك".

تتبع ابن خلدون العملية الضرورية في تطور الإنتاج الاجتماعي. واعتبر انتقال المجتمعات البشرية من حالة نوعية إلى أخرى عملية اجتماعية اقتصادية حضارية. ولا يحدث هذا التحول ما لم تبلغ القوى المنتجة حدا معينا تتجاوز فيه خضوعها المباشر للطبيعة، أي من دون أن تنتج فائضا عن حاجتها، بحيث تبرز معها إمكانية مناسبة ووقت اضافي لتطوير الإنسان والمجتمع، مع ما يترتب عليه من تفاضل المجتمع وتخصصه، بوصفها مقدمات ظهور الحضارة. وكتب بهذا الصدد قائلا "إذا اتسعت الأحوال بالنسبة هؤلاء المنتحلين للمعاش، وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفاه دعاهم ذلك إلى السكون والدعة"[19]. وقد استفاض نسبيا بصدد هذه القضية في أحد فصول (المقدمة) تحت عنوان "في أن من طبيعة الملك الدعة والسكون"، حيث أوضح فيه، بأن الحصول على الملك يؤدي إلى توحيد القوى صوب المسكن والمأكل والفنون والعلوم. ولا تعني الدعة والسكون ضمن مفاهيم ابن خلدون الكسل والخمول، على العكس، إنها تعادل معنى النشاط الحضاري الأرقى. فهو الأسلوب الذي يتطابق مع ظهور الحضر (بدو الأمس). انه الشكل الحضاري العملي الذي يلازم تطور الاقتصاد والقوى الاجتماعية ذاتها في عملية تطورها التاريخي.

غير أن ابن خلدون لا يضع علامة مساواة بين البدو - الضروري والحضر - الكمالي، رغم دقتها العلمية، بل يشير إلى أصل وجذر ومقدمة وأولوية الضروري على الكمالي. فالحضارة استمرار للبداوة ولكن على نحو أرقى. وأفرد لهذه القضية أحد الفصول النظرية في (المقدمة) ووضعها في صورة بيانية استنادا إلى البيت الشعري القائل

عجبت لسعي الدهر بيني وبينها   فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر.

وقرر هنا وحدد استنتاجه بهذا الصدد قائلا بأن "البدو أصل للمدن والحضر، وسابق عليهما، لأنه أول مطالب الإنساني الضروري. ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلا. فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة. ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها"[20]. وليس هذه الاستنتاج سوى الصيغة العامة التي تحدد فكرة الترابط التاريخي والانتقال العضوي في المسار التاريخي.

 

ا. د. ميثم الجنابي

..........................

[1] ابن خلدون: المقدمة، ص27.

[2] ابن خلدون: المقدمة، ص 32.

[3] ابن خلدون: المقدمة، ص32.

[4] ابن خلدون: المقدمة، ص33.

[5] ابن خلدون: المقدمة، ص99.

[6] ابن خلدون: المقدمة، ص33.

[7] ابن خلدون: المقدمة، ص33.

[8] ابن خلدون: المقدمة، ص33.

[9] ابن خلدون: المقدمة، ص35-38.

[10] ابن خلدون: المقدمة، انظر ص38-65. المعلومات التي يقدمها ابن خلدون عن جغرافيا العالم تكشف عن مدى تطور ودقة الرؤية الجغرافية في علوم الثقافة الإسلامية آنذاك.

[11] ابن خلدون: المقدمة، انظر الصفحات 65-73.

[12] ابن خلدون: المقدمة، ص70.

[13] ابن خلدون: المقدمة، ص71.

[14] ابن خلدون: المقدمة، ص30.

ابن خلدون: المقدمة، ص30.

[16] ابن خلدون: المقدمة، ص31.

[17] ابن خلدون: المقدمة، ص95.

[18] ابن خلدون: المقدمة، ص97.

[19] ابن خلدون: المقدمة، ص95-96.

[20] ابن خلدون: المقدمة، ص97.

 

 

في المثقف اليوم