أقلام فكرية

سامي البدري: فطرية العقل والتأسيس الثقافي

إن مهمة الفعل الثقافي تتمثل في عملية صناعة الحراك (الديوجيني) ـ نسبة إلى الفيلسوف ديوجينس ـ (والزوربوي) ـ نسبة إلى بطل رواية نيكوس كزانتزاكي التي تحمل الاسم نفسه ـ الغاضبين، والقدر نفسه من (تشاؤميتهما) الهادمة والفاعلة، وليس وفق تسلطية الأكاديميات الخاملة والكابحة، بسبب روح (النظام/ الاقتصادي) الذي أسست على مفهومه وأودع فيها أو في روعها، إن توخينا الدقة.

ومثلما يمكننا أن نقول إن الأكاديميات أو الجهد الأكاديمي عجز عن تخريج شعراء وروائيين وكتاب مسرحيين محترفين، عبر تدريسه لتقانات وأشكال وشروط هذه الأجناس، الفنية والمعرفية والنقدية، وهي تعد - الأجناس الأدبية - أحد أهم عناصر وأدوات الفعل الثقافي، إلى جانب الفن والموسيقى، فإنه يمكننا القول إن تلك الآداب والفنون جاءت من حراك ثقافي (فطري) أنتجه شعراء وكتاب لم يكملوا تعليمهم ولم تتوفر لأغلبهم حتى طاولات للكتابة عليها. وهذا يعني، بطريقة ما، أن الفعل الثقافي ليس عملية تنظيم أو عملية خلع معنى على وضع ما، كالذي تحاول عجلة التصنيع فعله عبر سلسلة تجديدها للحاجات وسد فراغاتها عبر إنتاج الحاجات الاستهلاكية لها، إنما هو عملية ارتكاب حرة ومقصودة في جسد الأنظمة، مهما كانت مصادرها، وإحداث (التشوهات) الواعية فيها، بعد سلخ جلودها التي تقرأها بصيرة الإرادة الإنسانية الواعية، على أنها جلود أفاع مستهلكة أو منتهية العمر أو الصلاحية ولا بد من استبدالها… أو حان وقت استبدالها، على وجه الدقة.

ولنبقى في فكرة جلود الأفاعي هذه لنقول، تأسيساً عليها، إن فعل الإزاحة الفطري، الذي تمارسه الثقافة، يأتي كعملية نقض لخلل في النظام، وإلا فإن أغلب الكائنات تولد بجلود واحدة وتموت فيها وبدون تغيير، فلم الأفعى من بين القلة القليلة، وربما الكائن الوحيد، الذي يحتاج لنقض قانون أو نظام جلده؟

وتسعفنا الأفعى هنا بفكرة التهشيم الاقصائي والتحرر من أعباء القديم البالي وتحشرنا ـ مرغمين ـ تحت قوس الرؤية أو في زاويتها الوحيدة لنمارس حريتنا في فعل الخلق، الذي في متناولنا أو متناول إمكاناتنا العقلية الحالية. وهذا هو الوضع الذي فطر عليه العقل الانساني، منذ لحظة خروج (جلجامش) ـ في الأسطورة القديمة ـ للبحث عن عشبة الخلود.. لم تكن في توديعه لتلك الرحلة كاهنة المعبد وإنما (سيدوري) صاحبة الحانة، وهذا يدل على أن صولة التطلع كانت لما هو ثقافي/ تشوفي وازاحي، وليس لما هو تكريسي وترهيبي/ قمعي (لاهوتي).

ولكن، ولاصطدام (المثقف، الأديب، الفيلسوف) بـ (جدار اللانفاذ) منذ تلك (اللحظة القديمة للعقل البشري)، تحول الدور (القيادي/ التفسيري) واللاثوري إلى كهنة اللاهوت الذين أزاحوا المثقف وجهده الثوري إلى جبال التطلع وعزلة الرفض.

ولكن ما هو (جدار اللانفاذ) هذا الذي اصطدم به الفعل الثقافي ولماذا عجز عقل الإنسان أمامه وعن اختراقه؟ هل هو جدار عجز فعلاً؟ لماذا استطاع العقل الإنساني النفاذ عبر ممره العلمي وعجز عن النفاذ عبر ممر (الحاضنة التهذيبية، الفعل الثقافي) لهذا العلم؟ ربما لأن هذا الثقافي هو حسي ومشاعري صرف وغير قادر على الانسجام مع قوانين العقل أو مقاوم لها ولاشتراطاتها الحسابية ـ المادية؟

بمعنى أن الشجرة التي خصف منها آدم وحواء على عورتيهما، يجب أن تبقى شجرة وأن تنتج بذرة شجرة لكل واحد من ذريتهما، وبغرض الأوراق نفسه، وأن تبقى الغابة من وراء تلك الأشجار مراحاً (للخصف) ولما قبله، وليبقى شيطان وأفعى الغواية يجولان في أطرافها بكل عبثية ولا مسؤولية! أليس هذا هو ما تأسست عليه الايديولوجيات الدينية واستمدت منه مشروعيتها وديمومتها؟، فلم لا يكون (الثقافي) بالدورة نفسها ويلبي بالطريقة نفسها، جانب الحاجة له: الطفو على قوانين المنطق أو اتباع قوانين الطبيعة، التي سمحت لبعض كائناتها بالتطور وأهملت البعض الآخر ليواصل بقاءه بالآلية نفسها، كبعض العظاءات والحشرات المغرقة في الغباء والتخلف، على صعيد الشكل وطرق الإداء، وغير قادرة على التعلم والتكيف، كالإنسان وأصناف الطيور والحيوانات المفترسة والقرود التي تطورت؟

وهنا نحن بصدد تحديد ملامح الجهة التي قررت تلك الارتباكات ورسمت أشكالها، واستناداً إلى الشكل الأسطوري الذي رسم قصة الخطيئة الأولى، وأصناف الارتباكات التي رافقتها: إغواء تتبعه خطيئة، يترتب عليها غضب وطرد، ثم سقوط من حدائق نهر العسل لتتبدى للإنسان، وللمرة الأولى، سوءته، في غابة وفي عصور ما قبل يقظة العقل البشري، أي قبل اختراع الأقمشة ومكائن الخياطة، فيضطر إلى الاستعانة بأوراق الأشجار ليغطي بها، أول خطوات وعيه بكينونته: عورته، مصدر لذته الجنسية ومصدر بقائه في حياته الجديدة (آلية وأدوات تناسله).. لم لم تكن لحظة ذلك الاكتشاف لحظة وعي وكشف معرفي وثقافي، خاصة أن العقل الإنساني كان مازال بكراً ونقياً ولم يكن مكمماً (بالسلطات والمحددات الايديولوجية والسياسية على وجه التخصيص)، بدليل بحثه عن بديل للقماش في أوراق الأشجار لستر عورته؟

أن يكون الإنسان قد عاش قبل الخطيئة الأولى عارياً في الجنة، من دون أن ينتبه إلى خجل عورته، لا يعني أن حس غرائزه كان منوماً أو غير معروف لديه، وأن أحاسيسه الغريزية قد استيقظت فجأة كنوع من العقاب الذي تبع الخطيئة، لأن هذا سيعني أن الإنسان كان مسلوب الوعي، وأن وعيه وثقافته قد تكونت فجأة وفي لحظة واحدة. وقبل خطيئته والوعي الذي تبعها، ماذا كان يعمل وبأي وعي كان يتصرف؟ كان يعيش ليأكل كالبهائم؟ من أين جاءه الوعي الذي يؤهله إذن لتقبل إغواء وإغراء منافع أو امتيازات ما بعد الأكل من شجرة الحكمة أو المعرفة؟

هذا هو مصدر الارتباك (الثقافي) الحاصل، وهو انقسام أو توزع الوعي والبنى الثقافية ما بين فروض أو احتياجات الحس الغريزي وقوانين العقل واشتراطات منطقه؛ وهذا الارتباك ناجم عن أن كل جانب من الجانبين متمسك باحتياجاته ويسعى إلى إشباعها، وأن غلبة أي جانب على صاحبه تعني، بالضرورة، حالة عدم استقرار تدفع باتجاه العودة إلى الجانب المغلوب من أجل إحداث حالة من التوازن بين حضورهما في سيرورة (الوجود الذاتي وكينونته) في الانسان.

ولنأخذ هنا فكرة، الروائي اليوناني، نيكوس كزانتزاكي، التي طرحها في روايته الشهيرة (زوربا)، وبشكلها المجرد كفكرة، لا بمدلولها المباشر، إذ يقول زوربا لمعلمه مستثمر المنجم:  دعهم نياماً ولا توقظهم يا أستاذي.. فماذا ستعطيهم إذا ما أيقظتهم وأشعلت النار في أفكار تطلعاتهم؟ ديمقراطية وحقوق إنسان ونقابات عمال وعدل اشتراكي في توزيع الثروات؟ سيتمرد الجميع على الجميع وعلى كل شيء، وستطمح الدجاجات إلى التحول إلى ديكة… والسؤال هو ـ بمعناه ومقصده المجازي طبعاً: ما جدوى أن تتحول الدجاجات إلى ديكة مادام الحقل لا تنقصه الديكة؟ وعليه يصبح سؤالنا الثقافي وبالمقصد نفسه من المجاز: لماذا تتحول الدجاجات إلى ديكة، مادامت الديكة تصرخ في كل زوايا الحقل، ومادامت الدجاجات المتحولة لن تزيد بشيء على ذلك الصراخ، وربما حتى لن تصل إلى طبقته الصوتية أو نغمته من الأساس؟

والآن يكون عرضنا هذا قد أوصلنا لبداهة السؤال: ما هي الإشكالية الثقافية التي نعانيها وتشدنا بعيداً، وتسرف في إبعادنا لتحيلنا إلى أشباه لمساح قصر (فرانز كافكا)، وهو يدور متبدداً تحت سلطة القصر والمحكمة؟

لقد أضحينا نعيش حالة توزع ثقافي ـ بلا وجه ـ بارد إلى الحد الذي لا يستجيب فيه لأي متغير أو أثر، رغم أن ظاهر (ملمسه) لا يدلل على حالة موت يستوجب كتابة نعي أو إصدار شهادة وفاة..، وهذا التوزع (أو حالته) لم يعد يؤهلنا لإنتاج فلسفة تصنف مشاكلنا، على أقل تقدير. وهذا يعني، في المحصلة، أن الجهد الثقافي يجب أن يتأسس على جهد فلسفي بالأساس، وهذا ما حصل بالحراك الثقافي الفطري، في عصور الإنسان الأولى (عهد الأساطير الأولى التي تولت تفسير الوجود ووجود الإنسان)، وعليه فهذا هو ما يعاني نقصه المشروع الثقافي العربي: ركائز الفلسفة، ولكن ركائز الفلسفة (الفطرية)، أي غير المؤدلجة أو المنسوج لها (خصف العورة) المسبق: أي حرية التفكير والفكر والتأسيس المعرفي والثقافي.

***

دكتور سامي البدري

في المثقف اليوم