أقلام فكرية

طبيعة الملك والنظام السياسي في فلسفة ابن خلدون التاريخية

ميثم الجنابيقراءة فلسفية جديدة لفلسفة ابن خلدون (7)

إن العلاقة بين الملك والنظام السياسي بالنسبة لابن خلدون تنبع من كونها علاقة عضوية متماسكة. من هنا قوله بأن "الملك هو الدولة"[1]. والملك هو السلطة والسلطان بوصفها مظاهر تاريخية للدولة والنظام السياسي. فالسلطان هو أيضا السلطة أو نمط النظام السياسي. وهذان بالنسبة لابن خلدون كلّ واحد بسبب طبيعة النظم السياسية والدولة آنذاك التي تتوحد فيها السلطة والنظام السياسي والدولة. أما صيغتها الملموسة فيمكنها أن تتخذ ما سبق وأن جرى الإشارة إليه عن أنماط السياسة (الشرعية والعقلية والمدنية). وليست فكرة السلطان بوصفها نموذجا للسلطة والنظام السياسي سوى الصيغة التاريخية التي لازمت تطور فكرة ونظام الخلافة الإسلامي، ومن ثم هي الصيغة المدنية للخلافة أو الصورة الواقعية للغلاف التقليدي أو "الشرعي" للخلافة.

ووراء كل هذه الصيغ المتنوعة والمختلفة من حيث أساليبها وغاياتها، يكمن القاسم المشترك بينها ألا وهو سعيها لتحقيق فكرة الخير وقيمه، ولكن كل بطريقته الخاصة. فهو يبدو هنا كما لو انه يكرر الفكرة الجوهرية التي وضعها افلاطون عن ماهية السياسة وحقيقتها بوصفها فضيلة عملية وحكمة عقلية، وكذلك الحال بالنسبة للدولة. غير إن ما يميز موقف ابن خلدون هنا هو نظرته إلى كافة هذه الجوانب بمعايير فلسفته للتاريخ والدولة والحضارة. فقد سعى هو لإضفاء الصفة الإنسانية على طبيعة الملك. انه يؤنسن الملك والسياسة بعد إضفاء الطابع البشري الطبيعي عليها. فالملك طبيعي للإنسان بسبب طابعه الاجتماعي. والإنسان، حسب ابن خلدون، أقرب إلى الخير من الشر. فالخير يكمن في أن الملك والسياسة إنما له بوصفه إنسانا، بينما الشر هو نتاج الغريزة الحيوانية فيه. بمعنى إن كل ما هو عقلي خير، وكل خير عقلي. وهي نتيجة مبنية على اساس تأمل التاريخ الفعلي للوجود الإنساني، مع أنها فكرة معتزلية خالصة.

إن كون الملك تجل للخير يستند عند ابن خلدون على موقفه من أن صفات الخير تتناسب مع الملك والسياسة، أو كما قال إن "الخير هو المناسب للسياسة"[2]. ووضع هذه الفكرة الجوهرية في أساس رؤيته للنظام السياسي وقيمته بالنسبة للدولة والتاريخ على السواء. لكن معنى الخير بالنسبة لابن خلدون يرتبط بمهمة ووظيفة السياسة بالنسبة للوجود الإنساني. من هنا تناوله لماهية الملك والحكم السلطان من خلال تناول العلاقة بين الحاكم والمحكومين وأهمية السلطان. إذ اعتبر "إن مصلحة الرعية في السلطان ليست في ذاته وجسمه، من حسن شكله وقوته وعلمه وما شابه ذلك، وإنما مصلحتهم فيه من حيث اضافته إليهم. فإن الملك والسلطان من الأمور الاضافية". وهنا نقف أمام فكرة مهمة وعميقة، تقوم في ربط ابن خلدون فكرة وضرورة الدولة والحكم ليس بالإنسان الفرد أيا كان نوعه، بل بضرورته الطبيعية من اجل تنظيم الوجود البشري وتذليل الطبيعة الحيوانية فيه (الغريزة)، بوصفها المقدمة الضرورية للتجمع البشري والعمل والعمران، ومن ثم والانتقال من البداوة إلى المدنية والحضارة.

وحدد ذلك بدوره موقفه مما دعاه بضرورة الاعتدال في السياسة ونقد الاستبداد وتقاليده. ففي نقده لتقاليد الاستبداد، اعتبر ابن خلدون أساليب البطش والإفراط فيها والترهيب البحث عن عورات الناس وما شابه ذلك يؤدي إلى فساد الحكم. وذلك لأن انتشار أساليب الإكراه يؤدي بالناس إلى استعمال أساليب الكذب والخديعة وغيرها من أصناف الرذيلة بحيث تصبح من صفاتهم. أما نتيجتها فهي خذلان الحكام في الحالات الصعبة مثل الحرب[3]. لهذا نراه يعتبر الاهتمام بالرعية ومداراتهم ومستوى معيشتهم أصلا كبيرا في ثبات الحكم وازدهاره. وادخل فكرة ونموذج الاعتدال باعتبارها الصيغة العقلانية لفكرة الخير السياسية. من هنا اعتباره الاعتدال في شخصية الحاكم ضرورية، انطلاقا من أن أفضل الفضائل هي الاعتدال والوسطية. لهذا اعتبر إن الاذكياء وذوي العقول الكبيرة لا يصلحون، كالأغبياء، لإدارة شئون الحكم. فإفراط عقولهم يجعلهم بعيدون عن الناس والتعامل معهم على قدر ما فيهم من ذكاء ومعرفة. وليس في هذا الحكم تجن على الواقع أو العامة، لكنه يحتوي على نقد مبطن أو غير مباشر لفكرة الفلاسفة عن أن الفيلسوف هو الحاكم الأفضل. فالعامة هي عامة على الدوام. وقد أسس ابن خلدون واستنبط أغلب احكامه النظرية والعملية من خلال تأمل حياة رجال الحكم والدولة وما يناقضها. وكشف عن مضمون الفكرة المذكورة أعلاه على مثال موقف عمر بن عبد العزيز من زياد بن ابي سفيان، الذي استغرب عزله، فسأل عمرا "لم عزلتني يا أمير المؤمنين؟ ألعجز أم لخيانه؟" فأجابه عمر: "لم اعزلك لواحدة منهما، ولكني كرهت أن احمل فضل عقلك على الناس".

إن كون الخير مناسب للسياسة هو التعبير العملي الدقيق للحكمة التاريخية والفعلية للفكرة السياسية، التي وضعها ابن خلدون ضمن سياق الفكرة الهادية أو المنهجية الضرورية بالنسبة للعمران وديموته، من ثم ديمومة الدولة ونظامها السياسي. وشكلت هذه المقدمة النظرية منطلق تفسيره للتاريخ السياسي والفكرة السياسية الإسلامية وعلاقتها بالدولة ونظامها السياسي. فعندما تناول معنى الخلافة والإمامة، فإنه انطلق من فكرته عن أن السياسة والفكرة السياسية ضرورية لتنظيم الوجود البشري. فبدونها حرب وفوضى. من هنا "وجوب الرجوع إلى قوانين سياسية مفروضة يسلم بها الكافة وينقادون إلى أحكامها" كما كان ذلك عند الفرس وغيرهم. ووضع هذه المقدمة العامة في تناول ما اسماه بأنواع هذه القوانين السياسية. ونعثر في موقفه هذا على رؤية منهجية عامة حاول من خلالها الكشف عن ظهور وتنوع أنماط الفكرة السياسية والنظام السياسي. فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية، وإذا كامن مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا الآخرة. ذلك يعني، إن ابن خلدون يفرز نوعان من السياسة: العقلية والشرعية، أو الدنيوية والدينية. ولم يضع أحدهما بالضد من الآخر بقدر ما انه أشار إلى تجارب الأمم التاريخية وكونها جميعا تندرج ضمن سياق الفكرة السياسية وضرورتها بما يتوافق مع تجارب الأمم نفسها. وأشار هو إلى ذلك بدقة تامة عندما اكد على أن "الكلام في وظائف الملك والسلطان ورتبه إنما هو بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر لا بما يخصها من أحكام الشرع... إنما نتكلم في ذلك على مقتضى طبيعة العمران في الوجود الإنساني"[4].  وفي مجرى تعميمه لتجارب الأمم بصدد أنواع الملك أو طبيعة النظام السياسي العام نراه يفرز ثلاثة أنواع، وهي كل من الملك الطبيعي، والملك السياسي، والخلافة. ولكل منه مهماته وغاياته ووسائله. واعتبر مهمة الملك الطبيعي حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة؛ ومهمة الملك السياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار؛ أما مهمة الخلافة فهي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الآخروية والدنيوية الراجعة إليها، استنادا إلى فكرتها الجوهرية عن أن كل مصالح الدنيا من أجل الآخرة.

وجعل ابن خلدون من دراسة وتحليل تاريخ الفكرة السياسية للخلافة موضع اهتمامه الأساسي. ومن خلالها حاول الكشف عن منهجه الفلسفي التاريخي والبرهنة عليه تجاه فكرة الدولة والنظام السياسي وتطورهما وانحلالهما بما في ذلك في مجال العمران أو الثقافة والحضارة.

وانطلق من المهمة الأولية هنا والمتعلقة بتحديد حد وحقيقة وشروط الإمامة والاختلاف حولها. فمن الناحية الشكلية والأولية البسيطة ظهر مصطلح الإمام من إمامة الصلاة، أما الخلافة فمن خلف النبي في أمته الدينية والسياسية. وبما أن الناس لم تترك فوضى في عصر من الاعصار، من هنا استقرت فكرة الخلافة بوصفها قوة روحية وسياسية بحيث حصلت على إجماع دال على وجوبها ونصب الإمام. أما الاختلافات فقد جرت حول ما إذا كانت الإمامة أمر وجوبه بالعقل أم بالشرع. وعموما إن فكرة الإجماع نفسها هي بأثر الإدراك العقلي. بينما قال بعض المعتزلة بأن وجوبه لا بالعقل ولا بالشرع، كما هو الحال عند الأصم وبعض الخوارج، الذين قالوا، بأن الواجب عندهم هو إمضاء الشرع. وفي حال بلوغه لا يحتاج البشر والأمة الى إمام وخليفة. أما الشيعة فقالوا أن الإمامة هي ركن من أركان الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي اغفاله ولا تفويضه إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام ويكون معصوما من الكبائر والصغائر. واعتبر ابن خلدون هذه الفكرة فاسدة ومحمولة على التأويل ولا علاقة لها بالعقل والواقع. كما انه لا شيء يدعمها غير وجود أو انعدام العصبية. اضافة لذلك إن الشرع، كما يقول ابن خلدون، لم يذم الملك السلطان والإمامة، بل ذم خروجها عن الحق[5]. من هنا يمكن فهم وجهة نظره عن أن المقصود بالشرع هنا هو الإجماع. بمعنى النظر إلى فكرة الإمامة والخلافة على أنها فكرة سياسية بحت، ومحكومة من حيث قوتها وفاعليتها وإمكانية بلوغها بأثر العصبية أولا وقبل كل شيء، أي بأثر القوة الاجتماعية والنفسية (الروحية والأيديولوجية). من هنا يمكن فهم موقفه مما يسمى بشروط الإمامة، أي تلك الصفات الضرورية بالنسبة للإمام أو الخليفة لإدارة الدولة وشئونه. لهذا نراه يركز على أربع صفات اساسية وهي العلم، والعدالة، والكفاية، وسلامة الحواس والأعضاء من بين تنوع واختلاف المواقف بهذا الصدد. بينما اعتبر ما يسمى بشرط النسب القرشي مجرد حالة طارئة ولا علاقة عضوية له بالإمامة والخلافة. وذلك لأن الصفات العامة الأولى ضرورية، بينما النسب القرشي هو نتاج حادث عرضي ألا وهو "حادثة السقيفة". ذلك يعني، إنها ليست صفة ذاتية للإمامة، بل حالة سياسية عابرة. لهذا نرى تلاشيها واضمحلالها حالما اضمحلت العصبية القرشية والعربية وجرى الاستعاضة عنها بالأعاجم. بعبارة أخرى، إن مبدأ أو قاعدة أو فكرة القرشية هي من حيث الجوهر قاعدة العصبية، كما يقول ابن خلدون. ومن ثم فإن العصبية هي مقدمة الإمامة. وهذه بدورها النتيجة المنطقية المترتبة على مسار الفكرة الفلسفية والتاريخية لابن خلدون في النظر إلى الإمامة باعتبارها قضية سياسية واجتماعية صرف. وذلك لأن حقيقتها مرتبطة بفكرته عن ماهية وفاعلية العصبية في نشوء واستتباب الدولة وضمورها[6].

ووجد في ما اصطلحت عليه الثقافة الإسلامية وفكرها السياسي والتاريخي عن انقلاب الخلافة إلى ملك الميدان والحركة التي تتكشف فبها صيرورة الدولة والنظام السياسي بأثر فاعلية وجوهرية العصبية ومسار العمران. إذ يتناول ابن خلدون هنا الحركة التاريخية التي رافقت التحول النوعي الكبير في فكرة السلطة والنظام السياسي. فهو ينطلق بهذا الصدد من مقدمة عامة تقول، بأن "الملك غاية طبيعية للعصبية، ليس وقوعه عنها باختيار، إنما هو بضرورة الوجود"[7]. ففي هذه العبارة المقتضبة نرى ملامح مكونات إحدى أهم وأعمق الأفكار السياسية التاريخية. ومنها يمكن اشتقاق واستنباط الفكرة القائلة، بأن العصبية ضرورية أيضا لانتصار الديانات والشرائع. وبدونها لا يتم ذلك. أما ذم الإسلام للعصبية الجاهلية، فإن المقصود به هو ذم جوانبها السلبية وليس ما فيها من قوة وحمية لنصرة الحق، كما وضعها في العبارة القائلة، بانه "إذا كانت العصبية في الحق وإقامة امر الله فأمر مطلوب، ولو بطل لبطلت الشرائع، اذ لا يتم قوامها الا بالعصبية"[8]. وفي هذا الاستنتاج نعثر على تأسيس عميق ودقيق للفكرة السياسية كما هي انطلاقا من الواقع والضرورة. لهذا نراه يقف من حيث الجوهر إلى جانب معاوية بن ابي سفيان حالما التقى به عمر بن الخطاب وهو بهيئة أبهة هائلة. وعندما انكر عليه عمر هذا السلوك، اقنعه معاوية بأنه في صراع مع الفرس والبيزنطيين، وهذا يحتاج بدوره إلى هذه المظاهر لكسر هيبة ملوكهم.

وطبق هذا الأسلوب تجاه كل مظاهر وحوادث التاريخ السياسي العربي الإسلامي حتى عصره. معنى انه نظر إلى الأحداث والصراع المتنوع حول الإمامة والخلافة (حول السلطة) باعتباره صراعا سياسيا، وانه أمر ملازم بالضرورة لصيرورة الدولة والعمران. ومن ثم لا معنى للتعامل معه بمعايير الرؤية الاخلاقية والوازع الديني وما شابه ذلك. من ها نظرته إلى الصراع التاريخي المشهور بين علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان بمعايير فلسفته التاريخية والسياسية. من ها تفسيره إياه وكذلك نتائجه من هذا المنطلق. إذ نراه يشير قبل التطرق إلى هذه القضية من مقدمات نظرية عامة تقول، بأن الانتقال من البداوة إلى المدينة والعمران وانتشار وتوسع الملك زمن الخلافة الأولى كشف عن حالات الثراء الفاحش عند الصحابة. وقدم امثلة على ذلك من خلال تناوله وجرده لثروات عثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم. واعتبر ذلك عملية طبيعية تلازم الملك بالضرورة ولا يمكن تذليلها، إلا حالما تبلغ غايتها. وبالتالي، فان الصراع بين علي ومعاوية هو اجتهاد سياسي كل منهما يرى الحق في ما يقوم به، مع إن علي كان على الصواب. وعندما انفرد معاوية لاحقا بالملك، فإن مساره كان طبيعيا بفعل تأثير العصبية وانتصاره فيها. وقد فهم بنو امية هذه الحالة وعاضدوها. وبدونها لتفرقت كلمتهم وخسروا. وإن تقليد يزيد ابنه للخلافة كان بأثر العصبية وتأثيرها لكلي لا تنفرط الوحدة العصبية. وهو المسار الطبيعي الذي أدى لاحقا إلى ما آلت اليه الأمور في مسار الملك والدولة، أي إلى الضعف والتحلل. ذلك يعني، إن تحول الخلافة إلى ملك أمر طبيعي وضروري. من هنا قوله:"ذهبت معنى الخلافة ولم يبق إلا أسمها، وصار الأمر ملكا بحتا، وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها... وأسم الخلافة باقيا فيهم لبقاء عصبية العرب. والخلافة والملك في الطورين ملتبس بعضهما ببعض. ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب"[9].

من هنا يتضح، بأن مسار الخلافة، شأنه شأن كل مسار للدولة يتعرض مما تتعرض له من صعود بالعصبية وتكامل لها ثم تلاشيها واضمحلالها، وبأثر ذلك اضمحلال الدولة، أي سقوطها التاريخي. وهي عملية اقرب ما تكون بالنسبة لفلسفة ابن خلدون التاريخية والسياسية إلى قانون صارم وحتمي بقدر واحد. من هنا تتبعه لظهور وتطور الخلافة. فقد أدى تطو الدولة إلى التباس معنى الخلافة، بمعنى تأرجحها بين تأثير الفكرة الأخلاقية الإسلامية ومبادئها العامة وبين تكامل الدولة بمختلف مؤسساتها وازدياد الثروة وتطور العمران. ومع كل خطوة كبيرة بهذا الاتجاه يأخذ الملك بالإنفراد حيث "افترقت عصبيته من عصبية الخلافة". ذلك يعني إن الخلافة حالة أولية للملك ذات نظام سياسي خاص له عصبيته الذاتية (العرب والدين). بينما تحولت لاحقا إلى ملك مخلوط ببقايا وشكل الخلافة الظاهري. ثم تحولت إلى ملك خالص (نموذج وفكرة السلطان). الأمر الذي يعني بالنسبة لابن خلدون إن الخلافة الأولى ليست نموذجية بل مرحلة وحالة معينة وخاصة لصيرورة الدولة. وبالتالي لا قدسية فيها. وهي الحالة التي حاول الكشف عنها على مثال نمو الثروة الفاحشة عند الصحابة والتابعين، بوصفها الحالة الأولية للانتقال من العمران البدوي، بوصفها حالة العرب في الحجاز، إلى العمران الحضاري بوصفها فكرة الدولة.

وتتبع ابن خلدون نمو هذه الحالة والتحولات التي جرت داخل بيتها السياسية من خلال تحليل المفاصل الأساسية فيها وهي كل من ظاهرة ومؤسسة البيعة أولا والتوريث لاحقا. فمن حث مفهومها ليست البيعة سوى "العهد على الطاعة". وقد كانت في البداية تجري عبر مصافحة بالأيادي، ولاحقا بالإكراه. والتاريخ السياسي الإسلامي في أغلبه هو تاريخ البيعة بالإكراه، والاستثناء الوحيد فيها هو مبايعة الخليفة علي بن ابي طالب. وهو السبب الذي يفسر إنكار الولاة جميعا للفتوى القائلة بسقوط يمين الإكراه. إذ وجدوا فيها تهديدا لشرعية الحكم، كما يقول ابن خلدون[10]. أما فكرة التوريث أو ولاية العهد، فقد ارتبطت بصعود الأموية. وفسر ابن خلدن هذه الحالة بوصفها المرحلة الملازمة لصيرورة الملك - الدولة. واعتبرها حالة طبيعية مرتبطة بحالة العصبية القرشية وقوتها وهيمنتها آنذاك. من هنا قوله، بأن توريث معاوية كان مرتبطا بإسناد "عصابة قريش وأهل الملة وأهل الغلب. وسكوت وحضور اكابر الصحابة دليلا على ذلك". ذلك يعني، إن التوريث، بالنسبة لابن خلدون، ليس رذيلة أو خطأ. ولا معنى بالتالي لجعل فترة حكم الخلفاء الراشدين أمرا ملزما كما يستنتج ابن خلدون. فاختلاف الأزمان والأجيال بالنسبة له يغير هذه الحالة. فخلافة الراشدين هي حالة أولية لم تبلغ حالة الملك. ففي زمن الخلافة كان الوازع الأكبر هو الدين، بينما لاحقا أصبح الوازع الأكبر هو السلطان والعصابة. من هنا استنتاجه القائل، بأن "العصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات، وتختلف باختلاف المصالح. ولكل واحد منها حكم يخصه"[11].

وبأثر هذا الاستنتاج تناول ابن خلدون مختلف مظاهر ومؤسسات الدولة الناشئة، وتتبع مختلف مظاهرها كما لو انه يرصد تطور الحضارة العربية الإسلامية وخصوصية مكوناتها وإرثها الثقافي من خلال موشور الفكرة التاريخية السياسية. فهو يتناول على سبيل المثال قضايا ولاية العهد أو التوريث[12]، و"الخطط الدينية" أو دور الدين في السياسة من خلال توحيد الجماعة والأمة وربطها بقواعد روحية وعقائدية وعملية شرعية مثل الصلاة والقضاء بوصفه فريضة، وأحكام القضاء وكيفية تطورها وانتقالها من مهمة الخلفاء إلى استقلالها اللاحق والذي يمكن تتبعه من خلال كتب الأحكام السلطانية، وكذلك مؤسسة الشرطة والحسبة والسّكة[13]. ثم يتناول القضايا المتعلقة بالألقاب مثل الخليفة والإمام وأمير المؤمنين والجدل حولها[14]، ثم تناول ألقاب السلطان ومراتب الملك، وكشف عن كيفية تغير وتبدل الوظائف والسلوك في كل شيء على مقتضى العمران[15]، ثم مختلف جوانب وظائف ديوان الأعمال والجبايات، بحيث نراه يتناول أصل كلمة الديوان عن الفارسية التي نطق بها كما تنقل الروايات كسرى في إحدى ملاحظاته لسلوك الكتاب عنده، فاطلق عليه كلمة ديوانه وتعني المجانين. ثم جرى حذف الهاء، ويقال أنها تعني الشيطان لسرعة نفاذ ما يكتبونه. باختصار لقد تحول "المجانين" إلى أهم الموظفين في الدولة! وجرى تطبيق مهمات الديوان في زمن عمر بن الخطاب ثم تطور من الحساب إلى الجباية التي دخلت فيها مختلف مصادر الثروة التابعة للدولة في مجرى الانتقال من البداوة إلى الحضر كما يقول ابن خلدون، أي من خلافة الراشدين إلى الملك الأموي وبالأخص زمن عبد الملك[16]. ثم تناول الكتبة والكتّاب، والشرطة، وقيادة الأساطيل، والرايات والأبواق والبيارق ورتب السيف والقلم والشارات والختم التي يتخذها الملوك[17]، والفساطيط والمقصورة للصلاة والدعاء والخطبة وكثير غيرها[18].

إن كل هذه الشروح والواقف المتعلقة بمختلف مظاهر الدولة وتطورها في مختلف المجالات تسعى للبرهنة على أن كل ذلك مرتبط بالعمران، أي بالتطور التاريخي الطبيعي لجماعات والأمم والدول والثقافة. لهذا نراه يشدد على أن ما يكتبه ليس تفصيل الأحكام الشرعية بهذا الصدد، بل ل-لكشف عن المسار التاريخي للعمران في بنية الدولة ومؤسساتها ومراتبها وأشكالها، كما في قوله: "إن الكلام في وظائف الملك والسلطان ورتبه إنما هو بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر لا بما يخصها من أحكام الشرع. إنما نتكلم في ذلك على مقتضى طبيعة العمران في الوجود الإنساني"[19]. من هنا موقفه وحكمه التاريخي السياسي القائل، بأن تاريخ الخلافة ودولها ونظمها السياسية في نهاية المطاف يعيد أو تكرر أو يحذو حذو النعل بالنعل ما هو مميز لظهور الدولة وانحلالها.

فانتقال الخلافة في مجرى تطورها من الصيغة أو الهيئة الدينية - السياسية إلى السياسية يعني تطبعّها بالضرورة بطبائع الملك. وطبائع الملك هي كل من الإنفراد في المجد، والترف، والدعة والسكون[20]. وهي طبائع تستمد مقوماتها من طبيعة العمران نفسه. ومن ثم تكمن فيها أجنة الانحلال اللاحق للدولة وموتها، أو ما اسماه ابن خلدون أحيانا بحالة الزحزحة التي تسبق سقوط الدولة. ولا تحدث هذه الزحزحة التي تكلم عنها ابن خلدون قبل أن تبلغ الدولة مرحلة النضوج. فتطور الدولة ونضوجها يعادل معنى الموت، كما هو الحال بالنسبة لكل وجود طبيعي! غير أن هذا الاستنتاج لا يستند في منظومة ابن خلدون الفلسفية عن التاريخ إلى معطيات الطبيعة والإنسان (الحيواني)، بل يستنبطها من الآلية الداخلية لظهور وتطور الدولة على مثال مختلف نماذجها وتواريخها، كما نراه على مثال تجارب الدول في اليونان والرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم. وذلك لأن استحكام طبيعة الملك، كما يقول ابن خلدون، يؤدي بالدولة إلى الشيخوخة والهرم. وعندما يقارن ذلك بحياة الإنسان وعمره، فإنه لم يقصد بذلك مقارنتهما الحرفية أو انه يضع علامة مساواة بينهما، بقدر ما انه يشير إلى شكل ومظهر المقارنة الممكنة بهذا الصدد. وبما أن الدولة من الناحية المجردة تمر بأطوار أربعة أو أجيال أربعة أشبه ما تكون بحياة الإنسان، من هنا عادة ما يكون عمرها بحدود مائة وعشرين سنة. وتعادل هذه الفترات هيمنة العصبة وانحلالها ومن ثم دولها الخاصة كما هو الحال بالنسبة للخلافة الأموية والعباسية.

إن هذه الخاتمة الحتمية من وجهة نظر ابن خلدون تكمن في آلية ونتائج العملية الطبيعية المرافقة لاستحكام ما اسماه بطبيعة الملك التي ترافق انتقال المجتمع والدولة من البداوة إلى الحضارة. واعتبر "هذه الأطوار طبيعية للدول"[21]. فالملك يؤدي إلى توسع مصادر الثروة وثرائها. وهذا بدوره يؤدي إلى الترف الذي يحصل على انعكاسه المتنوع في أبهة الحضارة وزركشتها. وقدم ابن خلدون كمثال زواج وعرس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل استنادا إلى ما اورده المسعودي والطبري. وهي أقرب إلى الخرافة من حيث سعة الإسراف والترف وفيها. إذ ما جرى تبذيره يكفي لبناء مدينة عظيمة أو دولة جيدة بمقاييس العصر آنذاك. وإذا كانت هذه الظواهر ليست سلبية على الدوام، إذ ينزع ابن خلدون في تفسيرها منزعا واقعيا وعلميا، بوصفها حالة طبيعية ملازمة للعمران الحضري المتطور.، من هنا يمكن فهم تقيمه إياها بصورة إيجابية، على الأقل في مراحلها الأولى، بوصفها قوة دافعة للإنتاج والتطور، والذي يجد تعبيره المناسب في زيادة عدد السكان، واشتراكهم في العمل الاجتماعي، وتحسين شروط الحياة وما شابه ذلك. غير أن تطورها وازدياد كميتها والإفراط فيها يؤدي إلى انحلال الدولة وسلطتها السياسية والقيم والعقائد. وإن كل ذلك يجري على مراحل أو أطوار حصرها ابن خلدون في خمس هي كل من طور الظفر بالبغية (الاستيلاء على الملك)؛ وظهور الاستبداد (الإنفراد في الحكم، وظهور المؤسسات وقوى القهر من جيش وشرطة)؛ والفراغ والدعة (الزركشة والافراط في الزينة، والذي يدعوهة ابن خلدون "بآخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة"؛ والقناعة والمسالمة (التقليد في الحكم وضمور ومن ثم إنعدام الاجتهاد والبحث)؛ والإسراف والتبذير (الهرم والهدم).

 

ا. د. ميثم الجنابي

...............................

[1] ابن خلدون: المقدمة، ص233

[2] ابن خلدون: المقدمة، ص113.

[3] ابن خلدون: المقدمة، ص149.

[4] ابن خلدون: المقدمة، ص186.

[5] ابن خلدون: المقدمة، ص151-152.

[6] ابن خلدون: المقدمة، ص153-154.

[7] ابن خلدون: المقدمة، ص159.

[8] ابن خلدون: المقدمة، ص160.

[9] ابن خلدون: المقدمة، ص164.

[10] ابن خلدون: المقدمة، ص165.

[11] ابن خلدون: المقدمة، ص167.

[12] ابن خلدون: المقدمة، ص166-172،

[13] ابن خلدون: المقدمة، ص173-179.

[14] ابن خلدون: المقدمة، ص179-182.

[15] ابن خلدون: المقدمة، ص187-192.

[16] ابن خلدون: المقدمة، ص192-193.

[17] ابن خلدون: المقدمة، ص198-211.

[18] ابن خلدون: المقدمة، ص 212-214.

[19] ابن خلدون: المقدمة، ص186.

[20] ابن خلدون: المقدمة، ص131-132.

[21] ابن خلدون: المقدمة، ص135.

 

 

في المثقف اليوم