أقلام فكرية

فريدريك نيتشه وإكراه العود الأبدي

احمد عمر النائليهل الوجود الحالي هو تكرار مستمر لوجود سابق؟ وأن هذا الوجود يتغير ولكن بشكل متشابه، فهو تكرار لأنماط وجودية محددة سابقة، وأن التكوين المادي والأحداث التي يمر بها الوجود تتكرر بصيرورة لا تنتهي؟، هذه فكرة قديمة تعود إلى المعتقدات القديمة للإنسان في أسيا ومصر، وهي تشبه فكرة التناسخ الهندوسية Reincarnation والتي تفترض أن الإنسان سيولد من جديد بذات النفس ولكن في جسد آخر، فهذه الفكرة ومع هامش الاختلاف تُسمى وفق طرح فريدريك نيتشه بفكرة " العود الأبدي Eternal return " أو التكرار الأبدي، وهي موجودة منذ القدم، ولقد تحدّث عنها الإغريق مثل الفيلسوف أناكسيماندر 610)ق.م، 546 ق.م) الذي آمن بوجود عدد لا متناهٍ من العوالم، وهرقليطس (540ق.م 480 ق.م) الذي تصور أن النار ستلتهم العالم أكثر من مرة، وسيعود العالم بعد ذلك عوداً أخضراً يافعاً مثلما كان، كذلك اعتقد أنبادوقليس (483 ق.م 442 ق.م) بتتابع أبدي لعوالم وجودية متتالية تتكون ثم تفسد، وكأني به هنا يتحدث عن فكرة تعدد الأكوان الحديثة والتي تفترض وجود أكوان متعددة، لكل كون منها قوانينه الفيزيائية والكيميائية الخاصة ؛ نظراً لأن الانفجار العظيم لم يحدث ويتسع بشكل متساوي قبل 13.8 مليار سنة، ناهيك عن حديث الرواقيين حول هذه الفكرة والمستقاة من سابقيهم .

هذا التصور الذهني للوجود المتمثل في فكرة " العود الأبدي Eternal return تضاءل إلى درجة الاختفاء مع ظهور المسيحية، ابتداءً مع تبني الإمبراطورية الرومانية لها وبشكل واضح بعد مجمع نيقيا عام 325م، لرفض أباء الكنيسة لها، نظراً لأن المسيحية والديانات الإبراهيمية قدّمت تفسيراً آخر للوجود يتمثل في نوعين هما : الحياة الدنيا والحياة الآخرة، رغم أن بعض رجال الدين المسيحيين تحدثوا عنها مثل كاليمنت السكندري (150م – 215م) وغيره، ولكن وبعد ظهور زمن الأنوار في أوروبا عادت هذه الفكرة من جديد، وربما يكون أحد أوائل المتحدثين عنها هو الشاعر الألماني هاينريش هاينه (1797- 1856م (والذي تأثر به الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، ويقال أن الأخير تعرف من خلاله على فكرة " العود الأبدي Eternal return "، رغم أن نيتشه يُقر أنه صاحب هذه الفكرة، والتي تحدّث عنها في كتابيه هكذا تحدث زاردشت Thus Spoke Zarathustra وكتاب العلم المرحScience Fun، ولقد وجدت شذرات حول هذه الفكرة لدى هايني وليوس بلانكي وهولدرلين وجويو وسبنسر وبايرون، ولكن يظل نيتشه هو الذي قدّمها بشكل علمي مفترضاً وجودها علمياً لا باعتبارها شيئا ممكناً بل حقيقياً، ولقد حاول أن يقدم برهانه حولها من خلال جهده العلمي ولكنه لم يستطع أن يُقدم دليلاً حاسماً أو الأكثر حسماً حولها .

وتقوم فكرة " العود الأبدي " على فرضية أن الوجود صيرورة دائمة ليس له نهاية، وأنّ معامل حجم مادة الوجود ثابت ومتناهٍ ومحدود رغم ضخامته، وفي ذات الوقت فإنها تفترض عدم محدودية الزمن فهو في ازدياد باستمرار وأنه ممتد إلى ما لانهاية، وهنا يتبين لنا أن تشكّل وتمظهر هذه المادة سيظل محدوداً مهما كان عدده، لأن حجم ونوع هذه المادة ثابت لا يزيد ولا ينقص، حيث سيظل الوجود يتغير إلى عدد محدد يَستنفذ في النهاية الأشكال الممكن تكوّنها، ويصل إلى السنة العظمى The perfect year الفاصلة بين وجودين، يتم من خلالها استكمال كل الأشكال الممكنة، لننتقل بعدها إلى وجود مكرر نُعيد من خلاله الوجود السابق، أي أن حياتنا ووجودنا ومحيطنا سيعود مثلما ظهر في المرة الأولى وسيتكرر هذا الوجود إلى ما لانهاية، فسنموت ونعيش نفس الحياة إلى ما لانهاية دون أن تكون حياتنا مختلفة، وهذا الطرح يذكرني بفكرة لعبة النرد في درس إحصاء الاحتمالات، أي أن الاحتمالات الممكنة لعودتنا إلى الحياة وبذات الوضع الحالي ومع وجود زمن ممتد إلى ما لانهاية ووجود حجم ثابت للمادة سيكون إلى مالا نهاية هو الأخر، ولو كان الزمن محدداً لكانت الأشكال الممكنة محددة تتوافق مع الزمن، وتشبه هذه الفكرة صورة الخباز الذي يملك كمية محددة من العجين، ففي هذه الحالة سيقوم بتشكيل عدد محدد من الأشكال سيضطر في النهاية إلى تكرار هذه الأشكال ؛ لأن نوع وحجم العجين ثابت.

ولدعم افتراضه الفيزيائي النظري القاضي بثبات حجم المادة في الوجود يرفض نيتشه فرضيتين اثنتين، فهو يرفض فرضية ازدياد حجم كتلة الوجود لأن ذلك يُعتبر غير منطقي ويحتاج إلى معجزة وهو أمر ميتافيزيقي، بالتالي فهو مستحيل بالنسبة له، فمن أين ستأتي هذه القيمة المضافة للوجود والمادة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم كما يقول قانون لافوازييه، كما يرفض في ذات الوقت فرضية تناقص حجم كتلة الوجود، لأن صحة هذه الفرضية تقتضي فناء الوجود، لأن ماضي هذا الوجود غير متناه في القدم، بالتالي استمرار هذا التناقص منذ الأزل سيجعلنا حالياً في حالة العدم .

هذا الاستنتاج الذي توصل له نيتشه ينطلق من تفكير استنباطي يقترب من نهج الدليل الافتراضي ألإبعادي Abduction، لعدم وجود أدلة حاسمة فهو أحد الفروض المتاحة وليس بأفضلها، وهي فكرة ليست بغريبة على نيتشه أن يطرحها من جديد، انطلاقاً من ممارسة فلسفية يمكن أن نسميها فلسفة المطرقة والتي تقوم بهدم كل فكر مألوف اعتادت عليه المنظومة الفكرية البشرية، وتقوم بإعادة بنائه وفق رؤية تنطلق من تبني مقدمات جديدة، كهذه الفكرة التي تجعل الوجود خاضع لصيرورة دائرية، وهنا بالإمكان أن نعقد محاكاة تشابه مع فرضية الانفجار العظيم التي من المفترض أنها حدثت قبل 13.8 مليار سنة، والتي تقضي بحدوث انفجار عظيم أدى إلى تكون الكون والاستمرار في اتساعه، هذا الاتساع لن يكون إلى مالا نهاية بل سيصل إلى حالة معاكسة وهي الانحسار العظيم ومن ثم العودة إلى حدوث الانفجار العظيم من جديد وهكذا دواليك، مع إمكانية توافر فرضية أخرى وهي ثبات الكون في النهاية بدون حركة التوسع والانحسار باعتبارها مبرر لتعدد الأكوان والتي تكونت نتيجة أن التوسع الكوني لم يكن موحداً، هذا التشابه مع فرضية التوسع والانحسار يشبه فكرة العود الأبدي، وهي موت الوجود وقيامته من جديد .

ولتحليل هذا الطرح النيتشوي فسنجده متساوق مع فكره بصفة عامة، فهو يحاول أن يؤكد ضرورة تحويل البوصلة من سلطة الإله إلى سلطة آلة الطبيعة العمياء، والتي تخضع لقانون العلة والمعلول الذي يرفضه عندما يتحدث عن إرادة الإنسان الأعلى الذي يجب أن يتحدى علة ظروفه السيئة ليكون صانع إرادة القوة، وهو يقدم طمأنينة بديلاً عن الطمأنينة التي تقدمها الأديان، تمنح ضمان العودة إلى الحياة بشكل لا نهائي وروتيني مكرر، محاولاً تقديم إطار كامل لفكره، بل ستجعل الإنسان يسعى إلى تحسين ظروفه حتى يتمكن من العودة للحياة وبذات الظروف الحسنة إذا استطاع إيجادها، ولكن كيف سَيحسّن ظروفه وهو نتاجُ حدوث حيوات سابقة .

إن نيتشه مارس إكراه تجاه الوجود المادي يُحب أن يراه، فالظاهرة الوجودية مازالت سراً غامضاً، ولا يستقيم فهمها بهذا اليسر، فالمقدمات التي انطلق منها هي أحدى الافتراضات وليست كلها، وهي تنطلق من فكرة موت الإله لديه، بالتالي سيبحث عن نظام آلي يعطيه تفسيراً لصيرورة الحياة، فهو يحاول أن يحطم مفهوم وشعور الفناء، حتى يُسبغ على الحياة غاية ومحبة العيش فيها لذاتها، رغم أن تكرار نشوء الوجود لا يضمن ظهور الإنسان بذات الوعي والإدراك، فلما لا يكون وجودنا الحالي هو الوجود رقم ترليون وثلاثمائة مليار ونحن لا نشعر به، لأن جهاز الذاكرة لم يتكرر، ومن قال أن وجودنا الحالي هو الوجود رقم واحد، وفكرة تكرار الاحتمالات بصفة عامة تحتاج إلى توافر ذات الشروط لكل الاحتمالات حتى تتكرر ولو كانت بنسب مختلفة، وكيف سيثبت نيتشه أن آلة الطبيعة العمياء ستعمل بهذا الاطراد المنظم بين الفناء والوجود، أليست كل الاحتمالات ممكنة في حالة عدم معرفة الظروف .

إن عدم وجود وتوفر ما يسميه الابستمولوجيون " بالتجربة الحاسمة " أو الدليل المنطقي المكتمل سيجعل من هذه الفكرة خيالاً علمياً، لا يرتقي إلى أن يتم قبوله، والدليل انتفاؤها مع ازدهار المنهج التجريبي والذي بدأ مع جاليليو كما يرى أستاذنا الفاضل محمد عابد الجابري رغم قيام سابقه كوبرينيكوس بأهم قطيعة معرفية معروفة وقيام كابلر باكتشاف المدار الإهليجي .

فالانطلاق من خبرتنا الحالية ومقدماتنا العقلية وآلية تفكيرنا المحدودة لمقاربة ظاهرة وجودية هائلة أزلية، سيكون مغامرة غير محمودة العواقب، فالإنسان لم يصلْ بعد إلى معرفة الجزء اليسير من هذا الوجود المتنامي في الاتساع، ناهيك أن الكون الذي نعيش فيه قد يملك قوانين فيزيائية وكيميائية تختلف عن الأكوان الأخرى في حالة وجودها، أو أن الأماكن التي تبعد عنّا تريليونات السنوات الضوئية في ذات الكون، قد تكون فيها سرعة الضوء غير ثابتة أو أن أشكال المادة ليست ثلاثة، فتحرير الإنسان من الأوهام وأخلاق العبيد لا يستلزم توظيف قوانين الوجود التي لا نعرفها، حتى توافق ما نريد، فالظاهرة هي السيّد الأول الذي يُملي علينا قوانينه، فقد تتحول المعارف والمناهج العلمية إلى وهم نطمئن إليه، لنكتشف كما أكتشف كوبرينيكوس بعد أربعة عشر قرناً أن ما قاله بطليموس من أن الأرض هي مركز الكون هو محض هراء، رغم أن خطاب الفلسفة المدرسية الأوربية والفلسفة الإسلامية يؤكد ذلك، فقد تتحول النظريات إلى ايدليوجيا نحاول أن ندافع عن نواتها الصلبة كما يرى المجري إمري لوكاتس Imre Lakatos في برامجه العلمية، محاولين ترميمها حتى تستطيل عبر الزمن فيطول البرادايم paradigm إلى أجل غير مسمى، لقد حان الوقت إلى أن نخرج من ديدن قيد مقدمات الخبرة البشرية السابقة وآلياتنا العقلية الحالية إلى أفق أرحب لجميع الأفكار، فنحن نعيش في وجود معلومات فيزيائية وكيميائية ضئيلة عن مجمل الوجود، لذلك ليس أمامنا إلّا أن نسبح في بحر كل الفرضيات الممكنة، محاولين تفحصها ومناقشتها، فمن رحم ما نعتقد أنه ميتافيزيقيا ستولد المعارف المبررة، فقط أن لا نثق وبشكل حاسم دوغمائي في معرفتنا الحالية، فالوجود غامض وفكرة اللانهاية على سبيل المثال لا نجد لها تفسيراً سوى القبول الرياضي المؤقت ؛ حتى تستقيم المعادلات الرياضية والتي هي مقدمات أكسيومية نفترضها وليست الظاهرة في وضعها الحقيقي.

وأخيراً قد يأتي يوم يقبل فيه المجتمع العلمي دون تردد فكرة العود الأبدي سالفة الذكر أو أية فكرة أخرى مستحيلة التطبيق حالياً، ولكن استحالة إدراك الوجود فيزيائيا وبشكل شامل سيقودنا إلى طريق تبني الإيمان وما تطرحه الأديان ؛ لأنه يقدم تفسيراً يخضع للاقتصاد الفكري ويُجيب على أسئلة الوجود، التي تطمئن لها القلوب الرافضة لحالة الطبيعة العمياء المرفوضة من قبل الآلية العقلية الحالية و يستحيل على العلم أن يجيب عليها، فالإيمان يقوم على تبني فرضية وجود القدرة القادرة على انجاز المستحيل والتي لا تخضع لبديهيات عقولنا، فالله هو العلة الأولى للوجود وهو الذي لا يخضع لقوانينه، فالصانع لا يخضع لقوانين المصنوع، فهو الأول الذي ليس له بداية وهو الأخِر الذي ليس نهاية، وهو الذي ليس كمثله شئ، وهو القادر على كل شئ .

 

أحمد عمر النائلي - إعلامي ومحاضر جامعي ليبي

 

في المثقف اليوم