أقلام فكرية

كيف رد ستيفن تولمن علي انتقادات إمري لاكاتوش؟ (1)

محمود محمد عليفي أواخر عام 1974، توفي أمري لاكاتوش علي إثر حادث سيارة مروع (167)، وفي عام 1976، أقامت جامعة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية مؤتمراً لفلسفة لاكاتوش، وذلك تأبيناً له علي رحيله المبكر من الساحة الفلسفية، وقد أشرف علي هذا المؤتمر ثلاثة من كبار فلاسفة العلم المعاصرين والعاملين بقسم الفلسفة بتلك الجامعة، وهم " بول فييرآبند " و " وراتوفسكي Wartofsky "، و " ر. س . كوهين R.S.Cohen، وقد دعي لحضور حفل المؤتمر " ستيفن تولمن "، ولقد ألقي تولمن في هذا المؤتمر بحثا بعنوان رئيسي" التاريخ والبراكسيس والعالم الثالث History , praxis and the third world "، وجاء العنوان الفرعي " غموض في نظرية الميثودلوجيا عند لاكاتوش Ambiguities in Lakatos of Methodology، وقد نشر هذا البحث ضمن مجموعة من الأبحاث في كتاب ضخم بعنوان " مقالات في ذكري إمري لاكاتوش Essays in Memory of Imre Lakatos.

وفي هذا البحث يرد تولمن علي الانتقادات التي وجهها لاكاتوش في مقالته " فهم تولمن " قبل وفاته، وقد قسم تولمن المقالة إلي أربعة عناصر:-

العنصر الأول : مدخل شخص Personal Introduction وفيها يشجب تولمن الحدية التي واجهها من لاكاتوش في مقالته " فهم تولمن.

العنصر الثاني : وجاء بعنوان " الاتساق والتغير في التطور الفكري للاكاتوش Consistency and change in Lakatos's Development "، وهنا يفند تولمن ابستموجيا لاكاتوش في ميثودلوجيا برامج الابحاث عبر مراحلها التاريخية ويقارنها بفكرة "الاستراتيجيات الفكرية لديه intellectual Strategies " .

العنصر الثالث : محتويات العالم الثالث The contents of The third world . وفيه يوضح تولمن مبررات رفضه لمشاكل العالم الثالث وأسباب تمسكه بما يدور بالفعل داخل الممارسة العلمية، وذلك من خلال تحليل الممارسة اللغوية العلمية الفعلية .

العنصر الرابع : وعنوانه " شكلان مختلفان من التاريخية Two variants of historicism وفيه يرد تولمن علي مزاعم لاكاتوش حول النزعة الذاتية – التاريخية بأنه يحدد هوية وصفات تلك النزعة.

وسوف نحلل تلك العناصر بشئ من التفصيل، ثم نعقب عليها، وذلك علي النحو التالي:

يبدأ تولمن مقالته بقوله :" هذه الورقة تلفت انتباهنا إلي الصعوبة التي ينطوي عليها تفسير كتابات إمري لاكاتوش حول الميثودولوجية وفلسفة العلم، كما تبرز بعض المعالم التي تعيننا في التغلب علي هذه الصعوبة، والمشكلة مثار الجدل تحظي بشئ من الاهتمام بالنسبة لي شخصياً، حيث إنها (فيما اعتقد) تشكل اختلافات جوهرية صارخة في الرأي وقعت بيني وبين لاكاتوش في إحدى اللقاءات العامة منذ نوفمبر 1973، وهي مشكلة بعثت بداخلي دوافع خاصة لمحاولة حلها بطرق شتي، حيث إنني ولاكاتوش كنا قد طرحنا قضايا في فلسفة العلم بشكل متوازن .

ثم يتساءل تولمن قائلاً : ما هي الحجج المتعلقة إذن بفلاسفة العلم ذوي التوجه التاريخي مثل "ميشيل بولاني" وتوماس كون وأنا (شخصيات فكرية مختلفة في الفكر والتوجه غاية الاختلاف)؟ وما الذي أثار غضب لاكاتوش حين قلنا إن رائعته في " ميثودولوجيته عن برامج الأبحاث methodology of research programmes  قريبة الشبه بمناقشتي للاستراتيجيات الفكرية intellectual Strategies في العلم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخري أن الدور الرئيسي الحاسم الذي منحه للتغير التاريخيhistorical change  والأحكام العامة التي أصدرها حول الرياضيين، قد برزت في نتيجة واحدة من الدراسات الرئيسية لكتاب لاكاتوش المسمى "براهين وتفنيدات" ؟

ويشرح تولمن نقاط التشابه بين منهجيته ومنهجية لاكاتوش :-

1- إن أفكار لاكاتوش حول برامج البحث يمكن بسهولة معادلتها خارج ِأسوار مدرسة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن ومعادلتها بوجهات نظري حول الاستراتيجية الفكرية، وكلا الرؤيتين قد وضعتا لتناول السؤال التالي نفسه :

كيف أن التعرف علي توجهات التجديد النظري في العلم هو شئ مثمر وخصب وعقلاني بشكل أو بأخر في هذا العلم الطبيعي أو ذاك في تلك اللحظة من تاريخه ؟

2- وأكثر من هذا أن الرؤيتين كليهما تتطلبان من فيلسوف العلم أن يبدأ بتصوير وصفي دقيق للسمة التي يكون عليها البرنامج أو الاستراتيجية المتجسدة في طور معين من التطور النظري (مثلاً : تحليل نيوتن للقوي الرئيسية والنظرية الموجية للضوء في القرن التاسع عشر , أو رؤية داروين لأصل الأنواع , وبالإضافة إلي ذلك فإن أي من الرؤيتين تخضع لبرنامج أو استراتيجية أو براديم ناجح حالياً أو أي مرجعية حقيقية من حيث الأساس , بل علي العكس نجد الرؤيتين كليهما يظهران كيف أن التوجهات التنظيريةdirections theorizing القائمة يمكن أن تخضع للاختبار النقدي كي يتضح إلي أي مدي هي ناجحة أو مثمرة أو تقدمية .

ويؤكد تولمن أنه وضع يده علي نقطة الخلاف بينه وبين لاكاتوش قائلا:" إن نقطة الخلاف الرئيسية بيني وبين لاكاتوش تكمن في رؤيتنا لمصدر وصف هذه المعايير النقدية في إصدار الأحكام، ففي واحدة من مراحل فلسفة العلم عند لاكاتوش بدأ بوضوح أنه منجذب لفكرة أن هذه المعايير ربما كانت خالدة ولا علاقة لها بالتاريخ , فمثلا يمكننا استنباط قوانين كلية universal canons للتفريق بين التوجهات التقدمية progressive والتوجهات الرجعيةreactionary للتغير العلمي كنظائر لمعيار التمييز Demarcation criterion عند كارل بوبر، إلا أنه تخلي (كما سنري عن تلك الفكرة بحلول عام 1973، ولا تزال رؤيتي المضادة والمخالفة هي أننا علي هذا المستوي نتوجه للبحث عن ماهية الشئ المفيد والمثمر (ولنقل) بمكانيكا الكوانتم أو الكوزمولوجيا الفيزيائية أو فسيولوجيا الخلية أو علم المحيطات في هذه المرحلة أو تلك من تطور العلم ويبدو أن ذلك أثار غضب إمري لاكاتوش، وقد إعتاد لاكاتوش أن يتهم هذه الرؤية بأنها قاصرة علي النخبة بشكل مفرط – حيث تتشابه مع الستالينية Stalinism (لانسنج 1972) أو أنها مشابهة لرؤية ديرشتورمر Dersturmer (مؤتمر كوبر نيقوس 1973 ) أو أنها تصدق علي فكرة " شرطة الفكر " عند فيتجنشتين (في مقالته عن فهم تولمن) .

ويتعجب تولمن بشدة من موقف لاكاتوش، والذي بموجبه استفاد لاكاتوش من فكرة التغير المفاهيمي التي طبقها تولمن في العلوم الطبيعية، حيث أخذها الأول وطبقها في الرياضيات وبالذات في كتابه " براهين وتفنيدات " .

ومن جهة أخري يعيب تولمن علي الموقف السلبي الذي أخذه لاكاتوش إزاء تأثره بفيتجنشتين فيقول :"... وفي بعض الأوقات كل ما يمكن أن نخرج به هو أن رفضه لأي شئ يتعلق بلودفيج فيتجنشتين التقطه بالعدوي من خلال ارتباطه بكارل بوبر وليس مجرد فضول تاريخي – صدي متأخر لفيينا القديمة : أشياء منسية بعيدة .. ومعارك بعيدة . وحيث إنني تعلمت دروس فلسفية مهمة من كل من فيتجنشتين وبوبر وكولنجوود، فأنا لا أري فلاسفة فيينا منعزلين في صراع دائم .

وأعتقد أن تولمن علي حق حين وصف لاكاتوش أنه إلتقط بالعدوي النقد العنيف لفيتجنشتين، والذي أخذه الأخير عن بوبر، فموقف لاكاتوش من فيتجنشتين يكاد يشبه موقف كارل بوبر الذي كان قد انتقد فيتجنشتين أثناء نقده للوضعيين المناطقة مؤكدا أن الوضعيين يسيرون في متاهات التحليل اللغوي والبحث عن الدقة بهدي رائدهم فيتجنشتين الذي شبه الميتافيزيقيين بفراشة دخلت في زجاجة وأخذت تذهب هنا وهناك وتزن، وهو يزعم أن التحليل اللغوي سيوضح لهذه الفراشة طريق الخروج من الزجاجة لينتهي الزن الميتافيزيقي إلي الأبد، لكن بوبر يري أن فيتجنشتين هو الذي دخل الزجاجة يزن ولم يستطع الخروج منها لأنه نسي أن اللغة وسيط للتعبير، ربما هدفاً من تحليلاته إلي الوضوح إلي تلميع النظارات اللغوي كي يحظي برؤية واضحة للعالم . غير أنه أمضي العمر كله في هذا التلميع ولم يستفد منه، فاندفع في ممارسة التحليلات بطريقة مملة مللاً عقيماً لا يطاق، شأنه في هذا شأن نجار أمضي العمر كله في صقل أدواته وشحذها ببعضها البعض، وفاته أن يستخدمها في صنع شئ مفيد .

كما يوضح تولمن بعض الالتباسات التي غمضت علي لاكاتوش فيما يتعلق بفكرة النخبوية والتاريخية والاجتماعية والفاشيستية عنده ( أي تولمن) وعند بولاني، وفيها يرد تولمن علي لاكاتوش فيقول :" .. فتلك تحليلات غير مرضية، فكما يري إمري لاكاتوش هناك مبادئ اتفقنا عليها خطأ أنا وميشيل بولاني وتوماس كون فكلنا ملتزمين بالنخبوية والتاريخية والاجتماعية والفاشيستية، والجميع فشل في التمييز بين الأنشطة المادية (العالم الأول) و(العالم الثاني) الحكم العقلي للعلماء العاملين انطلاقا من العلاقات القضوية في (العالم الثالث) والتي في ضوءها يتم تقييم هذه الأنشطة والأحكام .

ثم يتساءل تولمن فيقول : كيف يتأتي إذن لإمري لاكاتوش أن يفسر ويؤول هذا التعارض بين الأنشطة والمعتقدات للعلماء والعلاقات القضوية للعلم بالشكل الذي قام به ؟ وما هو مصدر وجهة النظر تلك في تطوره الفلسفي ؟ وكيف يمكننا الجمع بين الأشياء التي قالها في بحوثه الكلاسيكية عن العلم مع الموقف التاريخي والنخبوي الذي اتخذه في كتابه " براهين وتفنيدات " ولو استطعنا الإجابة علي هذا السؤال بشكل مقنع لاستطعنا أن نضع حداً للشكوك الشخصية حول موقف إمري لاكاتوش المعارض لكتابي " الفهم البشري " وأبحاثي الأخرى المتعلقة بنفس الموضوع .

وأما فيما يتعلق بالاتساق والتغير في التطور الفكري للاكاتوش، فيقول يقول تولمن :" إن القضية الأساسية التى سأطرحها تتعلق بتلك العلاقة الأخيرة : أى العلاقة بين كتاب " براهين وتفنيدات " والذى يعتبر دراسة لاكاتوش المبدئية حول فلسفة الرياضيات وبين الرؤى حول فلسفة العلم الطبيعى والميثودولوجيا العلمية، والتى قدمها لاكاتوش فى منتصف وأواخر ستينات القرن العشرين، وكما سنرى فهناك تطابق فى وجهات النظر عنده حول هذين الموضوعين وأحيانا تبدو أحدث وجهات نظره حول العلم الطبيعى وكأنها نسخة من رؤاه حول الرياضيات – لكن هناك أيضا اختلافات بائنة فيما يتعلق بالمعاير الأساسية للحكم .

ثم يقسم تولمن حجة لاكاتوش عن الميثودولوجيا فى العلم والرياضيات لثلاثة مراحل تاريخية آملا أن يبين مدى ثبات واستمرارية وجهات نظره من خلال كتاباته بدءا من كتابه " براهين وتفنيدات وصولاً إلى آخرها :

1 – المرحلة الأولى وتبدأ بكتاب " براهين وتفنيدات " من الفترة 1963 إلى 1964 والتى تغطى نفس التفسيرات التى حصل عليها لاكاتوش من جامعة كمبرج " سنة 1961 " وأيضا أبحاث قدمها للمجلس المنعقد لجمعية أرسطو ورابطة العقل فى عام 1962 حول " الإرتداد وأسس الرياضيات ".

ويؤكد تولمن أن فى هذه الأبحاث يركز لاكاتوش انتباهه على ميثودولوجيا التغير النظرى فى الرياضيات . فالعالم التجريبى والعالم الإستقرائى المتمسكين بالنزعة الاقليدية يشغلون أنفسهم ببرامج البحث بتلك المرحلة حيث تمثل البرامج بالنسبة لهم تقدم فكرى فى الرياضيات والناس الذين خضع عملهم فى دراسة متأنية منه هم كانتور Cantor وكوتيرا Couturat وهلبرت Helbert وبروورBrouwer  . كما أتى على ذكر , جاليليو , ونيوتن كفيزيائيين رياضيين : إن أكثر ما كان يهمه هو الجدل المعاصر الدائر بين كل من كورت جودل Kurt Godel وتارسكي Tarski وجنتزين Gentzen واستيجموللر Stegmuller وما بعد الهلبرتية post Helbertians ومنذ عام 1965 نجد أن لاكاتوش يلعب دوراً مختلفاً من مؤتمر كلية بدفورد Bedford بلندن في صيف ذلك العام نجد أن:

2- المرحلة الثانية، وهي مجموعة من الأبحاث عن فلسفة العلم الطبيعي بدءً من عام 1965 وحتي1970 قد انتقلت من التركيز علي الرياضيات إلي الفيزياء والفلك... وللحديث بقية...

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم