أقلام فكرية

مساوئ العلم النظري في عصر أفلاطون وأرسطو

محمود محمد عليفي الوقت الذى أخذت فيه عملية الجمع بنن النشاط الفكري النظري والنشاط العلمي الآلي تتطورت شيئا فشيئا فالعلم اليوناني منذ طاليس حتى ديموقريطس، إلا أن هذا التطور المتوقع لم يحدث، وظل العلم اليوناني نظريا لا تطبيقيا.

فلقد ظهر في الفترة منذ (470 الى 330ق.م) بعض الفلاسفة من أمثال (سقراط) يدعون إلى تثبيط العزائم، والعزف عن البحث عن أسرار الطبيعة، واستبدال العلم التطبيقي بالعلم النظري، وفى هذا يقول (بنيامين فارتن): (أم سقراط نبذ النظرة العلمية عن الطبيعة وعن الإنسان التي انماها مفكرو المدرسة الأيونية من طاليس إلى ديموقريطس، واستبدل بها صورة متطورة عن النظرة الدينية التى انحدرت من فيثاغورث وبارميندس، ‘نه لم ينزل الفلسفة من السماء إلى الأرض بقدر ما كرس نفسه لاقناع الناس بأن عليهم أن يحبوا فوق الأرض، بحيث تعود أرواحهم الى السماء فور موتهم)(12).

ويقترن أسم سقراط بالانتقال من الاهتمام بالفسفة الطبيعية الى الاهتمام بالسياسة والأخلاق، وكان هذا الانتقال يمثل تغيرافى ظروف المجتمع: إن الصورة القوية للإنسان وهو منهمك فى هجومه على بيئته الطبيعية وصلت الى نايتها نتيجة لأزمة اجتماعية، وكان سبب هذه الأزمة هو نمو نظام العبودية، إذ بلغت السيطرة الفنية على الطبيعة إذ ذاك حداً جعل أقلية من الإغريق تجد فراغاً تكرسه للدراسة، وفى نفس الوقت هيأ لهم توسعهم الجغرافى فرصة استبعاد الشعوب الضعيفة والأكثر تأخرا . وتحولت العبودية من نظام منزلى لا ضرر منه الى محاولة منظمة لإلقاء عبء الأعمال الشاقة، مثل حمل الأثقال والتعدين، وكثير من العمليات الزراعية والصناعية على اكتاف العبيد الأجانب الذين كان الإغريق ينظرون إليهم نظرتهم إلى ملكيات منقولة، وأصبح المثل الأعلى للمواطن اليونانى أن ينفصل عن العمل اليدوى كلية، وانتشرت النظرية الت ىتقول بأن الطبيعة قد خصت – عن عمد – أجناسا من الإنسان بالعمل اليدوى بالذات، وهى أجناس غير جديرة بأن تتخرط فى سلك المواطنين (14).

وكانت أهم النتائج السيئة لهذا التغير أن أنصرف معظم اليونانين عن الكشوف العلمية التطبيقية، فقد ترتب على نطاق الرق (الذى أخذت دعائمه تتوطد فى تلك الفترة) ظهور قيم معينة معادية للكشف والاختراع التطنولوجي، وكان ارتباط العبيد بالعمل اليدوى مؤديا إلى نفور الأحرار منه وابتعادهم عن كل ما له صله بالسيطرة على الطبيعة المادية .

وقد عمل كبار فلاسفة اليونان فى تلك الفترة على تبرير نظام الرق ولو تأملنا كتابات فيلسوفى اليونان الكبيرين وهما أفلاطون وأرسطو، لوجدناها تتضمن دفاعا حاراً عن نظام الرق، وهو دفاع إن دل على شئ فإنما يدل على مدى تأصل هذا النظام فى حياة اليونانيين فى ذلك العصر، ففى محاورة (الجمهورية) يعدد أفلاطون مساوئ الديمقراطية وهى نظام الحكم الذى كان بغيضا لديه، ويرى أن أبرز هذه المساوئ هو التطرف فى الحرية فى مثل هذه الدولة، هو أن يغدو الأرقاء من الرجال والنساء الذين يشترون بالمال متساويين فى حريتهم مع اسيادهم الذين اشتروهم)(15).

فالمساواة بين العبد وسيده فى النظام الديمقراطى هى فى رأى أفلاطون من أكبر عيوب هذا النظام .

ويساير (أرسطو) أستاذه (أفلاطون) ؛ حيث يناقش فى كتابه (السياسة) آراء المؤيدين والمخالفين لنظام الرق، وينتهى من خلال هذه المناقشة الى القول: (ويمكن بالبديهة إذن أن نسمو بهذه المناقشة، ونقرر أنه يوجد بفعل الطبع عبيد وأناس أحرار . ويمكن أن يؤيد أن هذا التمييز يبقى قائما كلما كان نافعا لأحدهما أن يخدم باعتباره عبداً وللآخر أن يحكم باعتباره سيدا، بل يمكن أن يؤيد آخر الأمر أنه عادل وأن كلا يجب عليه، تبعا لمشيئة الطبيعة، أن يقوم بالسلطة أو أن يحتملها . وعلى هذا فسلطة السيد على العبد هى كذلك عادلة ونافعة)(16).

يتضح لنا مما سبق أن (ارسطو) ومن قبلة (أفلاطون) كانا متحمسين لنظام الرق، وكلاهما حاول أن يقدم له أقوى أساس ممكن من الميزات العقلية، وتلك ف واقع الأمر كما يقول استاذنا الدكتور (فؤاد زكريا) ظاهرة غريبة حقا عند هذين الفيلسوفين الكبيرين: ذلك لأنها لم يتركا صغيرة ولا كبيرة إلا وقاما بتحليل وتشريح دقيق لها، وقد بلغ تفكيرهما درجة من التجريد والقدرة على التحليل لم يبلغها الفكر طوال تاريخ البشرية إلا فى حالات ناريدرة، وكان كل منهما ناقدا لعصره، ولكل منهما أبحاثة العميقة فى الأخلاق والسايسة وأمور المجتمع . وكم تحدثا عن الفضلية والعدالة وكرامة الإنسان وبلوغة كماله وتحقيقه الغابة المقصودة منه، فكيف بعد هذا كله تغيب عن نظرهما ظاهرة واضحة الظلم كالرق ؟! وكيف يتحدث أرسطو عن الرقيق بوصفه (ذلك الذى هو بالطبيعة شخص لا يملك ذاته، بل يملكه شخص أخر ؟!) كيف يتحدث على هذا النحو دون أن تدفعة حاسته الأخلاقية (المرهفة) الى الوقوف عند هذا الوضع الشائن للإنسان ؟! . لا شك أننا هنا تناقضا أساسياً بين القدرة التحليلية الدقيقة التى لم يفلت من قبضتها شئ وبين التغاضى العجيب عن نظام مضاد تماما لكل نزعة إنسانية فى الأخلاق (17).

وعلى أيه حال، إذ كان (أفلاطون) و(أرسطو) قد عملا على تبرير نظام الرق، فقد عملا أيضا على تأكيد مجموعة القيم التى ترتبت عليه، وهى أن العمل اليدوى لا يليق بالأحرار، وإنما ينبغى أن ينصرف هؤلاء الى التأمل العقلى المحض، أى ال ىنشاط روحى صرف لا تربطه بالمادة أدنى صلة، وهكذا، وضع اليونانيون الفنون الميكانيكية فى مقابل الفنون الحرة، وأكدوا أن الرجل الحر لا يليق به ممارسة الأولى، وكان أرسطو حاسما فى تعبيره عن هذه القيم حيث قال: (أن المدينة المثلى ينبغى ألا تجعل من الصناع مواطنين فيها، وجين أكد أن المرء لا يستطيع أ نيمارس الفضيلة إذا كان يحيا حياة صانع)(18).

وبالمثل كا (أفلاطون) من قبله من اٌقوى أنصار القيم التقليدية التى تؤكد الفوارق الحاسمة بين أعلى الطبقات وأدناها، وتتخذ من التفلسف النظرى أشرف مهنة تليق بالأحرار، بينما نترك كل عمل له صلة بالطبيعة المادية للعبد، وعل ىعكس ما كان سائدا عند اليونانيين الأوائل من تكريم الصناع والمخترعين، فقد رأى أفلاطون أن الحرفى او الصانع لا يستطيع اختراع شئ إلا بعد يتأمل صورته أو مثاله كما صنعته الآلهة، وبذلك انتزع افلاطون الفضل من كل مكتشف ومخترع، ونسبة الى الألهة فحسب . ولم يقتصر عل ىانكار مكانة الصانع: إذ برهن – بمنطق خداع – على أن من لديه معرفة حقيقية بأى شئ ليس هو من يصنعه، وإنما هو من يستخدمه، وأن الثانى هو الذى يصحح معلومات الأول، ويضفى عليه علمه، ولقد كانت لهذه الفكرة دلالة واضحة فى مجتمع قائم عل ىنظام الرق، إذ لم يكن من الممكن أن يعزى الى العبد الذى يصنع الأشياء علم السيد الذى يستخدمها (19).

وكانت نتيجة هذه النظرة الخاصة ال ىالقيم، أن أصبحت كلمة الصانع والعامل اليدوى مرادفة عند اليونانيين القدماء لمعانى الانحطاط والتدهور الأخلاقى، وأصبح كل حرفى محتقرا بحكم مهنته ذاتها لا بحكم شخصة، وأصبح اليونانيون ينفرون من كل ما له صله بالعمل المادى لأنه كما يقول أفلاطون لا يشوه البدن فحسب، بل يشوه الحاجات المنحطة لدى الإنسان (20).

ومن ناحية أخرى فقد بلغ من تأصيل هذه القيم فى نفوس هؤلاء الفلاسفة أنهم كانوا يزدرون العلوم العقلية ذاتها، إذا كانت تستهدف فى أبحاثها أى نفع عملى، فقد روى عن أفلاطون أ،ه غضب من العالم الرياضى (أرخوطاس) لأنه عمل على حل مسائل هندسية معينة مستعينا بأجهزة ميكانيكية، واتهمه بأنه يحط من مكانه علم الهندسة ويشوه جلاله إذ يهبط به م الأمور العقلية ال ىالأمور الحسية المادية، ويستخدم فيه مواداً جسمية ينبغى أن يلجأ الإنسان من أجل معالجتها ال ىالعمل اليدوى الذليل (21).

ومعنى ذلك أن علم الهندسة، كما يراه (أفلاطون) كان ينبغى أن يظل منفصلا تماما عن الميكانيكا والعمارةو، وأى فن آخر من الفنون الهندسية بمعناه التطبيقى الحديث، وأن عالم الهندسة النظرية يسمو على المهندس أو المخترع التطبيقي بقدر ما يسمو الفيلسوف على الصانع اليدوى، فالعلم بمعناه الصحيح يستهدف إرضاء العقل، لا تحقيق منافع أو ضرورات وأفضل ما يسعى إليه هو تحقيق التناسق والجمال، لا تليية الحاجات الفعلية، والقوة الدافعة إلى العلم الحقيقى هى الرغبة الحرة فى التفكير والـامل ،لا الضرورة الملحة أو السعى إلى حل وإذا كان هؤلاء الفلاسفة اليونانيون، قد ازدروا الغاية الت ىيسعى إليها كل كشف أو اختراع تطبيقى، فقد احتقروا أيضا المنهج التجريبي المتبع فى هذا النوع م الكشف . ذلك لأن المخترع يحتاج ال ىتطبيق منهج المحاولة والخطأ، وإلى السير ببطء وتجربة طريقة بعد الأخرى، غير أن مثل هذا المنهج فى نظرية الفلاسفة العقليين لا يؤدى الى معرفة حقه، وإنما إلى معرفة وسط بين العلم والجهل، أو ما يسمى بالمعرفة الظنية . والمنهج الذى يفضلونه هو منهج التبصر المباشر الذى يحتاج المرء للوصول الى نتائجه الى استنارة وكشف خاطف، ولا يتردد فىاستخلاص هذه النتائ أو يجرب طريقة بعد الأخرى . وبعبارة أخرى ففلاسفة ذلك العهد لم يكونوا يطيقون صبرا على الملاحظة الدقيقة الت ىيحتاجها علم الفلك مثلا، أو عل ىالتجارب البطيئة التى يقتضيها أيه نظرية علمية من أجل حل مشكلة عملية أو التغلب عل ىعقبة مادية (23).

والنتيجة الحتمية لها الازدراء للمنهج التجريبي وللانفصال القاطع بين النظرية والتطبيق هى أن:

1- وجود الرق الذى أدى بهولاء العلماء ال ىالانصراف عن أية محاولة لتحقيق الشروط الكفيلة بالقضاء عل ىالرق .

2- إنه أخذت فى تلك الفترة تستشرى فكرة المعجزة اليونانية التى تنادى بأن اليونانيين تميزوا بالعلم النظرى والمعرفة العقلية ؛ فى حين أن الشعوب الشرقية تميزت بالعلم التطبيقى والمعرفة العلمية القائمة على الخبرة، ولقد كان لهذا أثر فى الاتصال العلمى بين اليونانيين والشرقيين فى تلك الفترة قد أخذ يتساءل إلى حد ما.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم