أقلام فكرية

حضور التكنولوجي في الممارسة التشكيلية لفيرونيك جومار

حضور التكنولوجي في الممارسة التشكيلية لفيرونيك جومار

لقد منح التطور التكنولوجي جملة من المتغيرات المعيشية واقعا وأسلوبا، سواء في علاقة الفرد بذاته، أو الفرد بالفرد، كما من الفرد بالمجتمع. هذا التطور المرتبط بمفهومي "الحاجة" و"الضرورة" في معناهم الشامل، يمكن له أن يسهم في تغيير أسلوب التواصل والتفاعل مع الآخر، عاكسا في أصله مدى استيعاب هذا التطور سواء بشكل واع أو غير واع.

فهذه الإمكانات الممنوحة من التطورات التكنولوجية على اختلاف مجالها وأغراضها، تعكس شكلا ونمطا جديدا في الحياة، لتكون آلية تفتح أفق المعرفة وتتعدد عبرها أشكال التعبير والتواصل، فتكون بذلك منتجا لجملة من الوسائط التكنولوجية المساهمة إلى حد كبير في تحقيق هذه الأغراض.

عبر تكثف استعمال الوسائط التكنولوجية على اختلافها، وتدخلها في عدة ميادين، يمكن هنا أن نستقرئ دورها في عملية التشكيل، وخاصة منه في حضورها كوسيط تشكيلي أو كمكون للمنجز الفني، والذي يمكن أن يطرح جملة من المحايثات الدلالية والمفهومية، ذات الصلة بشكل حضور التكنولوجي في الممارسة الفنية، وهو الإطار الذي تتنزل فيه تجربة الفنانة الفرنسية "فيرونيك جومار".

فالوسيط  التكنولوجي يمكن أن تختلف فيه المميزات والخصائص، إلا أنه يمكن أن يكون آلية منفتحة على كل ما هو حسي ومادي، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بمواطن اشتغال وتفاعل الوسيط ضمن حلقة وجوده، في إطار واقع وتفاعل بين المادي الملموس والمرئي المحسوس. فهذه الإمكانات، يمكن أن تسهم إلى حد كبير في دعم التجربة الفنية المعاصرة، وتفتح لها أفقا جديدة في التعبير كما من إمكانية خلق لمفاهيم إنشائية، جمالية، فلسفية ...، من داخل هذه المنظومة المتغيرة.

 1- فيرونيك جومار وتطويع الوسيط التكنولوجي:

من الوسائط التّكنولوجيّة التي استدرجتها فيرونيك في منظومتها التّشكيليّة هي المعدّات الكهربائيّة التي لعبت دور أساسي في الشّبكة المفاهيميّة والفكريّة لديها، نتيجة حضورها المكثّف في أغلب أعمالها، أين نجد المعدّات الكهربائيّة بجميع أنواعها، حيث وقع تضمينها كمقوم من مقومات البناء التشكيلي. لقد أضحى الوسيط التكنولوجي كعمل إنشائي قائم بذاته، وذلك من خلال عرضه وتقديمه كشيء محسوس وملموس، شيء عيني يكون تارة على الجدران وطورا في الزّوايا وأخرى متدّلية، فهو وسيلة تأثيث، به يكتسب الفضاء دلالة .

إن اشتغال "فيرونيك" على مكوّنات متنوّعة من مصابيح وأنابيب النيّون، يمكن أن يعكس تركيز الفنّانة على ظاهرة المدّ أو مرور للتيار الكهربائي، أي مقومات ظهوره التي تعود بالضّرورة إلى الكبلوّات والأسلاك التي تحدّد حيز العمل فتشكّل إطاره.

كأنّ فيرونيك هنا تبيّن إمكانات الوسيط الذي اتّخذ دور المادّة القابلة للتّشكيل والتّحديد،  فهو الخطّ تشكيليّا والسّلك ظاهريّا.  فالضّوء ليس موضوع بحث بقدر ما هو مادّة قابلة للصّياغة والتّوظيف الإنشائي فهو محور العمل، وكما مثله فلافين في قراءة لعمل فيرونيك، وكأنّها تقول هنا الضّوء، ضوء القرن العشرين هذه مكوّناته ومقوّمات ظهوره، فهي تقوم بتفكيك هذا الوسيط كمادّة وكمفهوم ومحاولة لفهم الكيفيّات .

إذن فيرونيك تتجاوز حدود الإضاءة دون أن تتجاوز تركيبة الوسيط، لتدنو إلى إمكانيّة التّحوير ومحاولة الإضفاء على مستطاع المادّة عن طريق التّجربة وفتح مجال الاختبار، التّجربة التي تنوّعت بتنوّع الفضاءات والمصابيح، حيث اعتمدت على مجموعة متنوّعة منها نجد مصابيح الهالوجين: تستعمل لإضاءة الفضاءات الكبرى، بالإضافة إلى الفوانيس الكهربائيّة المتوهّجة، كما نجد أنابيب الفلوريسنت أو النيّون أحاديّة وثنائيّة التوهّج. هذه الخصائص كانت حافزا لفتح المجال على عالم الإلكترونيّات، عالم النيون الكهربائي الذي بان مع بدايات القرن العشرين مع الفيزيائي والكيميائي الفرنسي جورج كلود، ليلعب هذا الظّهور الدّور الأساسي في ولوج الضّوء إلى فضاء العرض أين أصبح وبالتّحديد في العشرينات، الوسيط الأكثر توظيفا نتيجة انجذاب الفنّانين إلى عروض الإعلانات التّجاريّة أين استدركوا أنّه وسيط يتميّز بمقاييس جماليّة تشكيليّة، ليظهر في فضاءات العرض في هيأة منشئ نابض بالدّلالات والمعاني التّعبيريّة تجمع بين الضّوء والحركة والكلمة والحرف التي تعكس من خلال إنارتها رسائل نقديّة سياسيّة وأبعاد فلسفيّة تدعو إلى التمعّن .

تسعى فيرونيك عبر المحايثات المفهومية والدلالية إلى إيقاظ فكر المتلقّي وتحفيز حواسه من خلال التّجربة، أيّ من خلال التّواصل والتّعامل مع الوسائط حسب خصوصياتها وفضاء تموضعها، والتي تزيد من فاعليّة التّجاوب الذي يرتبط بالحجم وقوّة الإشعاع أو التوهّج الذي يكون تارة خافتا وطورا قويّا إلى درجة انعدام الرؤية النّاتج عن تأثّر العين بقوّة الإشعاع، لتتأقلم بعد برهة من الزّمن، وهذا بدوره يطرح مسائلة تًعنى بفيزيولوجيا الرؤية ووسائطها.

يأخذ الضّوء مع فيرونيك دور تشكيلي استيطيقي فعّال، لأنّ المصابيح المكشوفة والعارية هنا هي العمل بذاته على المستوى الفكري والمادّي، فهو مصدر من مصادر الضّوء وهو تقنيّة من تقنيّات نشوئه الاصطناعي والمعاصرة لزمانها، كأنّها هنا تحاول أن تظهر طبيعة الشّيء في وجوده المادّي والحسّي. فأن تمسك بمصباح كهربائي مثلا يختلف على أن تقف أمام مصباح يبلغ نصف حجمك، بالإضافة إلى تبدّل الفضاءات والأمكنة التي تتيح بدورها فرصة الغوص في تجربة جديدة تحاول إعادة الاكتشاف والتّفاعل مع الخصائص الحسيّة، وتجاوز كلّ ما هو مرئي لينغمس في حوار مع المادّة، حوار تفاعلي لا يتطلّب الفهم أكثر ممّا يتطلّب الانتباه والتّواصل الحسّي. بالرغم من البساطة والوضوح مع أنابيب النيّون ذات الألوان العاديّة الروتينية التي اعتدنا عليها. فالضوء بالنسبة لفيرونيك جومار هي علاقات ومفاهيم تجمع بين الاستقطاب والبثّ والتدفّق والتفاعل... فهو منهج ومسار خاصّ أرادت من خلاله الباحثة أن يكون مادّة نظرا لما يتمتّع به من خصائص فيزيائيّة وصناعيّة، تختلف عن الوسائط الأخرى بالرّغم من التّشابه الذي يجمعها.

 فالضّوء وكيفيّات حضوره بحسب الصّياغات التي أوردتها والمواضيع المطروحة، لا يتمحور في الإنارة والإضاءة فقط، فهو يعتبر عمل تشكيلي ذو مكانة بارزة، وهذا ما ذكره النّاقد الفنّي ميشال جوثي  فهو العمل بذاته.  لقد عملت فيرونيك على توظيف الضوء كشكل من الوسائط البصريّة التّشكيليّة المتميّزة، بالإضافة إلى كونه مصدر إثارة انطباعية وإيحاءات مختلفة ذات قيمة جماليّة تكون من داخل المسار البنائي البصري وضمن مبدأ التبسيط والاختزال.

في هذا الإطار نتبيّن أنّ الفنّانة تشتغل على الاختلافات المفهوميّة والفكريّة والجماليّة التي قامت بطرحها بأساليب مختلفة، كما تهدف من خلال هذه الاختلافات إلى استدعاء المشاهد من أجل تجريب الفضاء فيزيائيّا وحسيّا. قامت فيرونيك باستفزاز المشاهد وحثه على الدّخول نتيجة اعتمادها الامتلاء الضّوئي في فضاء معتم، وهذا التناقض بين الضّوء والظّل يعكس القدرة على إعطاء الملمس البصري للشّكل والفضاء بكل أبعاده، و يقوم بجذب المتلقّي بكل مدركاته الحسيّة نتيجة القيمة الحسية للضوء.

تعكس أعمالها دقّة في التّرتيب والقياس، مصابيح متجاورة ومتراتبة بنظام تأثيثي، محدثة في تتاليها شكل هندسي، ذاك المربّع الذي ينبض بالإشعاع كصيغة للتّعبير عن مساحة الشّكل الحقيقي الذي يفرضه الضّوء، ومنه إلى المساحة الضّوئية المسقطة في الأسفل التي تعتبر من تشكّلات الضّوء، كأنّما بذلك بيان لمفهوم الثّقل أو الكثافة بالنّسبة للتجمّع الضّوئي.

إذن فالعنونة "سولاريوم" لا ترجع إلى العمل المثبّت فحسب بل تعود إلى مكان العمل ككلّ أيّ ذاك القبو وما يحتويه من فراغ، والحاوي بدوره للعمل فهو يتجاوز ذلك الإطار الظّاهري والمعدني ليكون حاو ومحتو للفضاء، وهذا يؤكده الصّحفي والنّاقد الفرنسي لورنس جومار في مجلة أرت براس .

2- الوسيط التكنولوجي والمدرك الحسي:

إنّ اكتشاف الكهرباء جعل من الضّوء مادّة قابلة للاستدراج كمادّة حقيقيّة ضمن المجال الإنشائي، ومنه إلى بناء المعنى التّشكيلي، وهو ما يتجلّى في تجربة الفنانة "فيرونيك جومار"،  ضمن اشتغالها على مفهوم الضّوء كمادّة حاملة للعديد من الإمكانات أين اهتمّت بالتدفّق غير المادّي وكيفيّة الامتداد والتحرّك. فهي تقوم بتفكيك مكوّناته الفيزيائيّة وتحويلها إلى مدركات حسيّة بسيطة كالكثافة والاهتزاز والصّوت والجاذبيّة والفضاء والزّمن والحيز كما تجلى في منجزها الفني "خطّ الضّوء".

هذا الأسلوب الذي قامت به الفنّانة، يعتبر طرحا في التعامل مع الوسيط بوصفه استمالة للمدركات الحسية. ففي تفعيل الضّوء الكهربائي ضمن شكل تراكبي، عبر تنظيم جملة من المصابيح الكهربائية، والمتكونة من اثنان وأربعون عنصرا من المصابيح المتراتبة بشكل عمودي، تتفاعل عبر رصد الصوت والحركات، لتكون بذلك شكلا تفاعليا مع المشاهد، عبر ترجمة الحركة أو الصوت في حركة ضوئية متبدلة  ومباشرة.

"خطّ الضّوء" إنّما هو مسار تفاعلي مكتمل بحضور المشاهد، ليضحى موضوع تأملي يرتقي به الوسيط ويحقّق اكتماله في التّحديث وامتلاءاته الماديّة والمفهوميّة، عبر استيعابه لمضمون الحركة بشتى أشكالها، وترجمتها ضوئيا، فيصبح بذلك المسموع مشكلا مرئيا ووسائطيا.

 هذه القيمة الفنيّة لإمكانات الوسيط أضحت الطّرف المساير لأفعال المشاهد كدلالة عن صيرورة زمانيّة وموقعيّة متحوّلة، بها يمكن إحداث نوع من الإثارة التي تستفزّ نوعا ما المشاهد بحسب عنصر المحاكاة التي يفرضها الضّوء على المدركات الحسيّة، والتي يفرضها الصّوت على الضّوء، وتُمثّل هي الأخرى بالضّوء ذاته.

إذن الضّوء وسيلة للتّعبير، وهو كمادة تشكيلية بحسب ما جاء في أعمال فيرونيك، ليحمل كوسيط تشكيلي إلى الخبرات الإستيطيقيّة والأبعاد الفكريّة المعاصرة، كلغة خاصّة تُحدّدُ بمدى تضمينه في التجربة التشكيلية كمنحى للتّعبير والتّبليغ عن معناها بأسلوب محسوس، يقوّمه الإدراك وتحدّده طبيعته على اختلافها، لتضحى خطابا والية في الإنشاء والتفاعل، فالانفتاح.

2062 الضوء 1

2062 الضوء 2 

منى صيود – تونسية

باحثة برمحلة الدكتوراه

.......................

الهوامش:

1- La lampe n’éclaire pas l’œuvre, elle ne fait pas même partie de l’œuvre, elle est l’œuvre. Michel Gauthier, article, www.veronique-joumard.tn.

2- «  Car le terme de solarium déborde le cadre de l’œuvre et s’applique a l’espace quelle travaille : c’est tout le cube du sous sole du Credoc qui est solarium, un monochrome de chaleur et de lumière ». Laurent Goumarre, article http://www.veronique-joumard.net/.

 

 

 

في المثقف اليوم