أقلام فكرية

الحداثة واستدعاء رموز التصوف والعرفان

من السمات الجمالية في الدين وأسراره، -ولا سيَّما الإسلاميَّ- هو تنوعه المعرفي، وتعدد أبعاد الرؤية فيه. فتطويق الدين في بعد معين مهما كانت قيمته، سيشطب مخزونات جمالية، لها القدرة على استيعاب المفارقات والتحديات التي يعيشها الإنسان. فمن زاوية فلسفية إلى أخرى كلامية، وثالثة بيانية، ورابعة قرآنية، وخامسة تاريخية، وأخيرًا عرفانية روحية. فالعقل الذي يتشكل على أساس ضفيرة من المعارف والمناهج، قدرته على فهم خصوصيات الفكر الديني ومنطلقاته، ستكون أعلى من غيره، بل وتفكيكه للبناءات المعرفية أدق. وهذه احد القضايا التي شغلت تفكير العديد من المفكرين والباحثين في قضية تجديد الفكر الإسلامي، فقد دعوا إلى فتح دائرة تواصل المعارف والعلوم على جدلية التخادم، وضرورة إزالة أغشية التزمت والقراءة الأحادية، أو العلم الأحادي.

في توصيف الدين يتم التركيز غالبًا على مفهوم النظام والنسق أي على البعد الجمعي للدين؛ فيهتم الفلاسفة ورجال اللاهوت بمسائل "العقائد" و"الوجود" بوصفها انساقًا معرفيةً أو بوصفها قضايا إيمانية، ويكون تركيز " الفقهاء" بصفة خاصة على الدين بوصفه نسقًا من الأوامر والنواهي، وعلى أساس طاعة "الأوامر" واجتناب " النواهي" أما علماء الاجتماع والانثربولوجي فيهتمون بالدين بوصفه ظاهرة اجتماعية إنسانية. أما الدين بوصفه تجربة "روحية" ذاتية فهو التصور الذي يمثل "بؤرة " اهتمام كل الروحانيين في كل الأديان والثقافات." (1)

ومن الظواهر الملفتة- معرفيًا- في العقود الأخيرة هو استدعاء الدراسات المعاصرة المتأثرة بالحداثة لرموز العرفان والتصوف كمحي الدين بن عربي، أو جلال الدين الرومي أو ابن الفارض وسحبهم من دائرة التهميش إلى فضاء المتن أو المركز. فهذا الدكتور نصر حامد أبو زيد في إطار مشروعه التأويلي يستحضر ابن عربي في سياقه الإسلاميّ، ليقدمه بوصفه بانورما الفكر الإسلامي، وهمزة الوصل بين التراث الإسلامي والتراث العالمي. وعندما نفتش عن بواعث هذا الاستحضار الأندلسي وماذا يمكن أن يقدمه لنا ونحن في القرن الواحد والعشرين نجده يعلل ذلك بأمور،(2) وهي:

أولًا: ان استدعاء ابن عربي يمكن أن يمثّل مصدرًا للإلهام في عالمنا الذي تتراكم مشكلات الحياة فيه. فالتجربة الروحية هي مصدر التجربة الفنية والأدبية، وهي الإطار الجامع للدين والإبداع. هذه أهمية استحضار ابن عربي في السياق العام. أما استحضاره في السياق الإسلامي، فمهمّ، وذلك بسبب سيطرة بعض الاتجاهات والأفكار والرؤى السلفية على مجمل الخطاب الإسلامي في السنوات الأخيرة. كما أن فكر ابن عربي يقدّم للقارئ غير المسلم صورة أخرى لروحانية الإسلام، وإسهاماته في التراث الإنساني.

ثانيًا: ترجع أهمية فكر ابن عربي إلى ما يمثله من نضج في الفكر الإسلامي في مجالاته العديدة: الفقه، اللاهوت، الفلسفة، التفسير، الحديث، علوم اللغة.. من هذه الزاوية تكشف دراسته في السياق الإسلامي عن "بانوروما" الفكر الإسلاميَّ في القرنين السادس والسابع الهجريين.

وهكذا نجد رواد "التنوير" الإيراني كعبد الكريم سروش، والشيخ محمد مجتهد الشبستري، ومصطفى ملكيان، إذ تلمح الاستخدامات الأدبية والجمالية العرفانية لجلال الدين الرومي واضحة بارزة في دراساتهم حول الوحي وحقيقته أو التعددية الدينية أو لغة الدين وهويّة الفهم وغيرها.

فهذا الدكتور عبد الكريم سروش يقدم مجمل قراءاته ومطالعاته وبيانه على لمسات عرفانية، غزيرة ومكثفة، ومنها نظريته في تفسير ظاهرة الوحي وحقيقة القرآن، والتي أسندها في إيضاح المعاني وتفتيحها على مقولات جلال الدين الرومي في المثنوي. فتجده وهو يعالج موضوع الوحي بين الفعل والانفعال يصرح بأن النبي كان له دور محوريّ في خلق القرآن. فالنبي يحس- مثل الشاعر تمامًا- أن قوة خارجية تستحوذ عليه، ولكنه في الواقع يقوم بكل شيء، وان هذا الإلهام ينبثق من (نفس) النبي ونفس كل شخص إلهية، إِلَّا أن النبي نفسه قد اتحدت مع الله، وهنا يأتي استحضار جلال الدين الرومي لتكشيف هذا المعنى الموهم للتناقضات، فيقول في أبيات شعرية مفادها: " إن اتحاد النبي مع الله مثل صبّ مياه المحيط في الدوق." ولتدليل على دور النبي في القرآن، وان لشخصيته وحالاته المتغيَّرة، وأوقاته السعيدة والعصيبة منعكسة في القرآن، يورد مقولة المولوي التي يقول فيها: " القرآن مرآة ذهن النبي" بل ويذهب إلى أبعد من ذلك، مستشهدًا بمقولة المولوي التي يرى فيها: " إن تعدد الزوجات إنما أجيز في القرآن، لأن النبي كان يحبّ النساء، ولهذا السبب أباح لأتباعه الزواج من أربعة نساء."

وعندما أشكل الشيخ جعفر سبحاني عليه في كثرة استحضار جلال الدين الرومي على حساب النص القرآني، ردّ سروش قائلًا: " من دواعي سروري أن أجدكم متفقين معي في أن الاستشهاد بأشعار مولوي استشهاد بتجارب وحكم له باع طويل وراسخ في العرفان الإسلامي، وأن الاستشهاد بشعره لا يعني الاستعانة بالشعر بما هو شعر، هذا مع أن المولوي في ديوانه المثنوي ناظم، وليس شاعرًا، ورجائي من الشيخ السبحاني أن يقرأ هذا السفر الشريف بدقة، وأن لا يكتفي ببعض الكلمات المشهورة عنه، فيكون انتقائيًا في أحكامه."(3)

أما الشيخ مجتهد الشبستري، وهو يعالج دور الدين في حياة الإنسان وتوقّعات الإنسان منه، ولا سيَّما في كتابه (الفهم البشري للدين) نجده يبلور قناعاته على رفض فكرة شمول الدين لتمام الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ليطرح في قبالها تاريخيّة الدين، بمعنى أن النظم والأحكام والتشريعات الإسلاميَّة، لم تكن سوى محاولة عقلانيّة من النبيّ والنصّ، لتنظيم حركة الحياة في ذلك العصر. ومن ثَّم، فكل هذا الفقه تاريخي. وان التغذية الدينية تقتصر في الأبعاد الروحية المعنوية القيمية، ولهذا تجد في كتابات شبستري التصريح بخلود الدين المعنوي، وفي الوقت نفسه إنكار مفهوم خلود الشريعة بالمعنى السائد لها.

لا جَرَم أن دراسة هذا الموضوع واستشهاداته الأدبية ليس بالأمر الهين، فمناطق الاشتغال فيها متعددة ومتداخلة، إِلَّا أننا سنضع ومضة نقارب من خلالها ما تلمسناه من استحضار عرفاني، أو تطويق لدائرة الدين في البعد المعنوي. فمن يقرأ مجمل الخطاب المتأثر بالحداثة، وما بعدها، يجده قد نظر إلى نجاحات التجربة الغربية، ودقق في عناصر النجاح ومقوماته، ومناطق الضعف فيها، وعندما أدرك أن هذا النجاح يعوزه البعد المعنوي الروحي، منح هذا العنصر للدين وركز عليه، بوصفه مكون الافتقار في التجربة الغربية، أو تجربة الإنسان المعاصر. نعم هذه الرؤية لا تعد نهائية أو حاسمة لمجمل خطابات الحداثة، إِلَّا انّه من المحتمل رجحانها عند محاولة فهم هذا الاستحضار الغزير في التغذية الدينيّة. وتستطيع تلمس هذا المعنى في عبارات نصر حامد أبو زيد، إذ يقول: " لقد حققت الحداثة إنجازاتها في شكل تقدم تكنولوجي مذهل، وصل إلى تحويل العالم الفسيح الممتد إلى فضاء مترابط الأجزاء، ولكن بفضل ذا التقدم نفسه وما حققه من وحدة العالم أمكن للتناقضات أن تنكشف وتظهر، بين الأغنياء والفقراء من جهة، وبين المستغِلين والمستَغَلين من جهة أخرى."(4)

وكما لا يخفى ما للخطاب السلفي ومدّعياته في امتلاك الحقيقة الدينيّة دون سواه من أثر في هذا الاستحضار، مما ولد حالة من الشوق للتفتيش والبحث عن همزة للوصل بين التراث والواقع، من دون اصطدام. وهذا المعنى متوفر في الخزين الروحي دون غيره من منظومات الدين.

بقي أن نتساءل: هل يمكن للدين اليوم أن يساعد على رتق الفتق وردم الهوّة وتَفتيت الاغتراب دون أن يضحّي بالفقه والقانون الشرعيّ؟ يرى البعض إمكانية ذلك من خلال الآتي(5):

أولًا: إعادة موضعة الشريعة ضمن منظومة الدين، وقراءتها بطريقة تلقي عن النص لباس التاريخ لاكتشاف روح المعنى اللاتاريخي فيه. ووقف تضخم الفقه وابتلاعه لسائر الجوانب الدينيّة الأخرى.

ثانيًا: إحياء معنويّة) الحبّ والتسليم (ويعنى بها صناعة التدين القائم على عشق الله تعالى، وفي الوقت عينه التلسليم له، ولكن هذا التسليم هنا ليس استلابًا في وعي المؤمن العارف، بل هو إحساس الفرد بتكامله الحقيقي في ظلّ الاندماج مع الوحدة المطلقة لله تعالى..  وعودة الكثرة إلى هذه الوحدة، فهذا الاندماج يحقق الرضا والطمأنينة بالقضاء التكويني والتشريعي لله سبحانه، وهو اندماج مستبطن في مفهوم (الإسلام) الذي ركز عليه القرآن الكريم.

 

الباحثة: سُميَّة إبراهيم الجنابيَّ

ماجستير/ كلية العلوم الإسلاميّة- جامعة بابل.

.................................

(1) ينظر: نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، الناشر: مؤمنون بلا حدود- بيروت، الطبعة الأولى- 2017م 24.

(2) ينظر: نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، 26- 29.

(3) د. عبد الكريم سروش وآخرون، الوحي والظاهرة القرآنية، الناشر: دار الانتشار العربي- بيروت، الطبعة الأولى،85- 86.

(4) هكذا تكلم ابن عربي، 17.

(5) الشيخ حيدر حب الله، شمول الشريعة، الناشر: دار روافد- بيروت، الطبعة الأولى – 2018م،679.

 

 

في المثقف اليوم