أقلام فكرية

محمود محمد علي: السهروردي المقتول.. رائد المنطق الإشراقي

محمود محمد عليذهب شهاب الدين يحي بن أميرك السُّهْرُوَرْدِىّ في كثير من كتاباته؛ وبالأخص كتابه "حكمة الإشراق" إلى نوع من العلم لا يأتى عن طريق التجريد الذهنى، أو تمثل صورة الموضوع فى الذهن، كما هو عليه الفلسفة الأرسطية، بل إنه يرى أن هذا علم لا يزيد شيئاً على الذات العارفة؛ بل العلم عند السُّهْرُوَرْدِىّ تَكشُف يتحد فيه الموضوع بالعارف، لأن الذات العارفة نفسها من نوع الموضوع، فهى نور وشعور بهذا النور، ثم إن موضوع المعرفة هى الأنوار العقلية .

فالمعرفة عند السُّهْرُوَرْدِىّ لا تقوم على تجريد الصور كما يقرر المشاؤون، بل تقوم على الحدس الذى يربط الذات العارفة بالجواهر النورانية … فعندما يكون الموضوع معروضا للنظر، وترفع الحجب يحصل للنفس إشراق حضورى على المبصر فتراه النفس بحضوره عندها، وليس عن طريق صورة صادرة عن الموضوع، ومرتسمة فى النفس، فالنفس عندما تضاء جوانبها بالإشراق تدرك الموضوع الحاضر، وهذه القدرة للنفس على استحضار الموضوع تختص بالنفس وحدها فى حالة مفارقتها للبدن وتجردها عن علائقه … ويتدرج هذا الإدراك حسب درجة النفس فى التسلط على قوى الجسد أو تسلط الجسد على قوى النفس، فمن أنوار مشرقة إلى ظلمات غاسقة، وليست هناك شروط خاصة للمعرفة المباشرة عند السُّهْرُوَرْدِىّ إلا فى خلاص النفس من البدن .

وبناء على هذه النظرية فى المعرفة، وبناء على أن العالم الحسى وهم، والوجود الحقيقى هو وجود النفس والروح، ومن ثم يرى السُّهْرُوَرْدِىّ أن الإدراك الحسى أقرب إلى إدراك المعقول منه إلى المحسوس، إذا أن موضوعاته ليست المحسوسات فحسب، بل أيضاً الإشراقات، وهو أبسط وأول مراحل اتصال النفس بالعالم الخارجى.

أما الإدراك العقلى فقد قبل السُّهْرُوَرْدِىّ آراء المشائية فيما يختص بمشكلة العقل التى تقسم العقل إلى عقل هيولانى، وعقل ممكن، وعقل بالملكة، وعقل مستفاد، والروح القدس، إلا أن السُّهْرُوَرْدِىّ  يزيد على هذا الموقف اتجاهه الإشراقى، فموضوعات المعرفة ليست المحسوس الذى يجرد العقل منه الصورة المعقولة، بل الموضوع يستثير الذهن العارف فيحل للذهن إشراق حضورى هو فعل المعرفة، وعملية الإشراق تربط بين المحسوس ومثاله حسب نظرية المثل.

إذن السُّهْرُوَرْدِىّ يري شأنه شأن كثير من المتصوفة، أن وراء طور الحس والعقل طوراً أخر ينبغى اللجوء إليه، والاعتماد عليه وهو الكشف أو الذوق.

من هذا المنطلق قام السُّهْرُوَرْدِىّ بمحاولة جادة وصريحة لجذب أرسطو العقلى صاحب البحث والبرهان إلى ميدان الكشف والذوق، ومحاولة استنطاق أرسطو بالمبادئ الإشراقية، ثم الوقوف ضد ابن سينا كثيراً مستخدماً، كل أنواع المذهب الإشراقى سواء عند الفرس أو الصابئة وغيرهم  .

ومبدأ هذا المذهب وأساسه الأول أن: ” الله نور الأنوار، ومصدر جميع الكائنات، فمن نوره خرجت أنوار أخرى هى عماد العالم المادى والروحى . والعقول المفارقة ليست إلا وحدات من هذه الأنوار تحرك الأفلاك، وتشرف على نظامها؛ فالمذهب الإشراقى على ما يذكر الدكتور إبراهيم مدكور يعتمد إذن على نظرية العقول العشرة الفارابية مختلطة بعناصر مزدكية ومانوية .

وإذا كان العالم فى جملته قد برز من إشراق الله وفيضه، فالنفس تصل كذلك إلى بهجتها بواسطة الفيض والإشراق . فإذا ما تجردنا عن الملذات الجسمية، تجلى علينا نور إلهى لا ينقطع مدده عنا . وهذا النور صادر عن كائن منزلته منا كمنزلة الأب والسيد الأعظم للنوع الإنساني، وهو الواهب لجميع الصور ومصدر النفوس على اختلافها . ويسمى الروح المقدسة أو بلغة الفلاسفة العقل الفعال، كما يذكر السُّهْرُوَرْدِىّ فى هياكل النور؛ ومتى ارتبطنا به أدركنا المعلومات المختلفة، واتصلت أرواحنا بالنفوس السماوية التى تعيننا على كشف الغيب فى حال اليقظة والنوم . وليس للتصوف من غاية إلا هذا الارتباط، والإشراقيون يسعون إليه ما استطاعوا وكثيراً ما ينعمون به . أما الأنبياء فهم فى اتصال دائم وسعادة مستمرة يقول السُّهْرُوَرْدِىّ: ” إن النفوس الناطقة من جوهر الملكوت، وإنما يشغلها عن عالمها هذا القوى البدنية ومشاغلها، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر، تتخلص أحياناً إلى عالم القدس، وتتصل بأبيها المقدس، وتتلقى منه المعارف، وتتصل بالنفوس الفلكية العالمة بحركاتها وبلوازم حركاتها، وتتلقى منها المغيبات فى نومها ويقظتها، كمرآة تنتقش بمقابلة ذى نقش” .

وقف السُّهْرُوَرْدِىّ من المنطق الأرسطى موقفاً خاصاً، فهو يخصص فى بعض رسائل؛ وخاصة رسالة ” اللمحات في الحقائق ”، قسماً طويلاً لمباحث المنطق الأرسطى، وهو حين يعرض هذه المباحث يبدأ أولاً، فيذكر آراء أرسطو وغيره من الفلاسفة المشائين، ثم يعقب لهذه الآراء، وذلك في القسم الأول من كتابه ” حكمة الإشراق ”. وهو ينتمى إلى إثبات بطلانها بالقياس إلى مذهبه فى الإشراق الذى يؤمن إيماناً قوياً، ويسيطر عليه في كل مجال من المجالات التى يعرض لها بالبحث .

وهكذا يحاول السُّهْرُوَرْدِىّ أن يختصر المنطق الأرسطى اختصارا مبتكراً، ويسمى كثيراً من آرائه المبتكرة مباحث أو ضوابط إشراقية؛ بحيث يمكننا نحن أن نطلق على مجموع تلك الآراء ” المنطق الإشراقى ”، ويرجع السُّهْرُوَرْدِىّ مصدر هذا المنطق إلى نظريته في المعرفة القائمة على الذوق، فيصرح بأنه توصل إلى إبتكار هذا المنطق بواسطة الذوق، حيث يرى أنه في حكمة الإشراق يبدأ على سياق المشائين الذى يبتنى على البحث الصوفى . ويصف هذا السياق الصوفى بأنه: ” سياق آخر وطريق أقرب من تلك الطريقة وأنظم وأضبط وأقل إتعاباً في التحصيل ” . وفى ذلك يقول قطب الدين الشيرازى في شرحه لحكمة الإشراق للسهروردى أن: المنطق المذكور في حكمة الإشراق موجز محذوف عنه الفروع الكثيرة القليلة الاستعمال بَين فيه أشياء كانت في طريقهم غير محصلة ولا مهذبة، ولهذا قال: ” وأنظم وأضبط وأقل إتعاباً في التحصيل لانضباط هذه الطريقة لتحديد قواعدها، وتهذيب مطالبها وتلخيص زبدها عن زبدها .

ويصف تارة أخرى: ” بأنه الآلة الواقية للفكر جعلناها مختصرة مضبوطة بضوابط قليلة العدد كثيرة الفوائد ” .

وفي ذلك يقول قطب الدين الشيرازى في شرحه لحكمة الإشراق: ” الآلة المشهورة الواقية للفكر يعنى المنطق يصون الفكر من الخطأ في انتقالاته من المعلوم إلى المجهول جعلناها مختصرة مضبوطة بضوابط قليلة العدد لتقوى الذهن من التبديد والخاطر عن التبلد، كثيرة الفوائد لكونها لباب ما يُحتاج إليه في هذا الفن مع تصرفات لطيفة وتنفيحات شريفة منه أنه رد الأشكال (القياسية)، بل الضروب المنتجة من كل شكل إلى ضرب واحد والمركب من موجبتين كليتين والسالبة موجبة بالعدول، وإما أن السالبة إنما يمكن جعلها موجبة معدولة إذا كانت مركبة لا بسيطة، وجعل غير الضرورية ضرورية بجعل الجهة جزء المحمول، وهى أن هذه الضوابط يكفيها أقل إشارة، وأدنى إيماء بخلاف البليد، فإنه لا يفهم القليل ولا ينفعه الكثير لطالب الإشراق كافية له أيضاً، لأنه إذا تفطن لما هو سبيله من شروق الأنوار ولمعان البوارق، فيصير القليل لذلك أكثر المطالب ومهمات المسائل، لأن النور السائح هو إكسير المعرفة والحكمة، وما لم يتهيأ الجزم به لتوقفه على الفكر فيكفيه من المنطق الضوابط النورانية لاشتمالها على ما لا بد منه فى هذا الفن وإن كان على سبيل الإجمال .

ويرجع السُّهْرُوَرْدِىّ مصدر المنطق إلى طريق آخر غير العقل فيقول: ” ولم يحصل لى أولا بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر، ثم طلبت الحجة عليه مثلاً ما كان يشككنى فيه مشكك .

ويعلق قطب الدين الشيزارى على هذا النص، فيقول: ” ولم يحصل بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر؛ أى بالذوق والكشف لما ارتكبته من الرياضيات والمجاهدات، ثم أى بعد حصوله لى بالذوق والكشف، ثم طلبت الحجة عليه، أى البرهان بالفكر حتى لو قطعت النظر عن الحجة مثلاً ما كان يشككنى فيه مشكك، لأن حصوله اليقين كان بالعيان لا بالبرهان ” .

وما يؤيد ذلك أن السُّهْرُوَرْدِىّ في مبحث المعارف والتعاريف بغير بعض أسماء الألفاظ المنطقية المعروفة في المنطق الأرسطى، ويضع مكانها أسماء أخرى تمل بُعداً إشراقياً، فيسمى مثلاً دلالة اللفظ على المعنى: التطابق والتضمن والالتزام – يسميها القصد والحيطة والتطفل . ويسمى اللفظ الخاص اللفظ الشاخص والمعنى الخاص المعنى الشاخص أو المنحط .

كما إنتقد السُّهْرُوَرْدِىّ التعريف الأرسطى، وبين استحالة حصول العلم عن طريقه، فقد رأى أن المشائين يأخذون الذاتى العام، أى الجنس، والذاتى الخاص، أى الفصل، فى تعريف الشئ . ولما كان الذاتى الخاص هذا غير معلوم عند من يجهله، فإقحامه في التعريف يناقض القاعدة المشائية بأن المجهول لا يتوصل إليه إلا بالمعلوم، ثم لو افترضنا أنه إتفق الإلمام بهذا الذاتى أو الخاص أو الفصل فكيف يأمن ألا يكون قد غفل عن ذاتى آخر لا يعرف الشئ إلا به، فتكون المعرفة بالشئ آنذاك ممتنعة، وكذلك تعريف الشئ .

وهذا النقد للتعريف الأرسطى حاول السُّهْرُوَرْدِىّ توضيحه، وذلك بمحاولة إيجاد طريقين للتعريف:

أولاً: طريق الإحساس فالأمور المحسوسة تدرك تمام الإدراك .

ثانياً: طريق الكشف والعيان وهو أدق الطرق وأوثقها. ومن هذين الطريقين يضع السُّهْرُوَرْدِىّ التعريف الكامل لديه ويسميه التعريف بالمفهوم والعناية ويحدده: ” بأنه التعريف بأمور لا تختص آحادها الشئ ولا بعضها، بل تخصه للاجتماع ” .

وهذا التعريف عند السُّهْرُوَرْدِىّ وإن أخذ صورة الرسم الناقص، إلا أنه يحمل بُعداً إشراقياً، وهذا يدل على إيمان السُّهْرُوَرْدِىّ بحقيقة الجمع بين الحكمة البحثية والحكمة الذوقية.

أما فى مبحث القضايا والقياس: فنجد السُّهْرُوَرْدِىّ يختصر كثيراً من أشكال القضايا والقياس، لأنها متشعبة يستغنى عنها بأقل منها ويستبدل بها ضوابط للفكر قليلة العدد، مختصرة كثيرة الفوائد تكفى للذكى، وهو ما قاله ابن تيمية بعد ذلك من أن ” المنطق الأرسطى لا يفيد الذكى ولا ينتفع به البليد” .

وهذا يعنى أن السُّهْرُوَرْدِىّ يرفض كل ما هو زائد عليه أو متشعب منه لا دلالة له . فمبادئ العقل هى المبادئ الكافية، وقد يكون هذا التشعب والتفريغ أحد معانى الصورية، أى الصورية الفارعة.

ففى القضايا يقسم القضايا من حيث الكم إلى كلية وجزئية، ثم يحذف القضايا الشخصية لأن الشواخص لا يطلب حالها في العلوم، وحتى تكون القضايا أضبط وأسهل، ثم يرد القضايا الجزئية كلها إلى قضايا كلية، فالكل هو الأصل والجزء فرع عليه، والمعرفة الإشراقية كلية لا جزئية وفى العلوم لا تطلب البرهنة على القضايا الجزئية، بل على الكلية، والجزئية لا تكون شرطاً في التناقض، ومن ثم فهى لا تدخل في أصول القضايا والكلية لا بد أن تكون محيطة أو حاصرة .

ثم يقسم القضايا من حيث الكيف إلى موجبة وسالبة، ثم يرد القضايا كلها إلى قضايا موجبة، وهذا يعنى الفرع إلى الأصل . فالسلب فرع والإيجاب أصل . والسُّهْرُوَرْدِىّ يبحث عن الأصول لا عن الفروع، والمعرفة الإشراقية أصل المعرفة الإنسانية .

وإذا كان السلب جزء للموضوع أو للمحمول لم يكن قاطعاً للنسبة، فالإيجاب قطع والسلب ظن . والإيجاب ثابت عينى .أما السلب في الذهن فقط وليس في الخارج، يقول السُّهْرُوَرْدِىّ:” والحكم الموجب الذهنى لا يثبت إلا على ثابت ذهنى والموجب على أنه فى العين لا يكون إلا ثابت عينى .

فالمعرفة الإشراقية إذن لا سلب فيها بل كلها إيجاب، وهى لا تسلب صفة عن الوجود بل تعطيه صفات الإشراق إيجاباً لا سلباً . ثم يقسم السُّهْرُوَرْدِىّ القضايا من حيث الجهة إلى ضرورية وممتنعة وممكنة، ثم يحذف المجهولة وكمية الموضوع، لأن المجهول لا يفيد العلم، ولأن الكيف هو الذى يميز شيئاً عن آخر .

ثم يرد السُّهْرُوَرْدِىّ القضايا الممكنة كلها إلى قضايا ضرورية أو بتاتة، وذلك لأن الممكن سلب للضرورى والمعرفة الإشراقية معرفة ضرورية وليست ممكنة ويجعل السُّهْرُوَرْدِىّ الإمكان والاقتناع جزءاً من المحمول، ولم يجعله شرطاً للتناقض . والقضية البتاتة هى الوحيدة التى تستخدم في العلوم . أما الممكنة أو الممتنعة فلا تستخدم على الإطلاق؛ ثم يرد السُّهْرُوَرْدِىّ كل أشكال القضايا إلى القضية الكلية الموجبة الضرورية، وهى القضية البتاتة كما يسميها . ولم يعرف بفائدة ما للقضية الجزئية إلا في بعض نواحى العكس المستوى والتناقض وبعض ضروب الأقيسة .

هذا بالإضافة إلى أنه خرج بآراء مبتكرة أيضاً . ففى التناقض يحذف السُّهْرُوَرْدِىّ عديداً من الأبحاث، لأنه لا يحتاج إليها في نقد المناطقة المشائين وتفريعاتهم .

وفيما يتعلق بالقياس الاستثنائى والاقترانى، يقول عن السلبى: ” إنه لا يتاج إلى تطويل والضابط الإشراقى فيه مقنع ومنه كثير من المختلطات . ويقول عن الشكل الثانى ” إنه ترك التطويل على أصحابه فى الضروب والبيان والخلط ”، ويقول عن الشكل الثالث: ” إنه قد حذف عنه التطويلات ”، أما الشكل الرابع ” فإنه يسقطه من حسابه لأنه شكل تابع للأشكال الثلاثة الأولى الأصلية ” .

فالسُّهْرُوَرْدِىّ يستبدل بهذه التعريفات القريحة أو الفطرة أو الضابط الإشراقى، وفى هذا يقول: ” ومن كان له قريحة لا يصعب عليه مثل هذه التركيبات بعد معرفة القانون؛ ويقول أيضاً: ” إن كفته سلامة القريحة فى معرفة حجة قياسيه فليقنع بذلك في جميع المطالب العلمية، فلا يحتاج إلى تطويل في قياس الخلف . ولكن عن التطويل في مثل هذه الأشياء استغناء.

تلك هى الإضافات التى أضافها السُّهْرُوَرْدِىّ للمنطق الأرسطى، وهى تعتبر من أعمق المحاولات في تاريخ المنطق العربى، والتى بدأت تنضج ثمارها اليانعة لدى ” عبد الحق ابن سبعين ”؛ حيث حاول وضع منطق إشراقى شأنه شأن السُّهْرُوَرْدِىّ . هذا المنطق يحل محل المنطق الأرسطى الذى يقوم على تصور الكثرة، كما أن هذا المنطق على حد تعبير أستاذنا الدكتور ” أبو الوفا التفتازانى ” رحمه الله  في رسالته للدكتوراه عن ابن سبعين، يمكن أن يسمى بمنطق المحقق عند ” ابن سبعين ”، وهو منطق ليس من جنس ما يكتب بالنظر العقلى، وإنما من قبيل النفحات الإلهية التى يبصر بها الإنسان ما لم يبصر ويعلم ما لم يعلم، فهو إذن منطق ذوقى أو إشراقى لا يقوم على التجربة والاستقراء، وإنما يقوم على أساس الفطرة والمشاهدة .

ويخصص ” ابن سبعين ” لهذا الغرض قسماً طويلاً من كتابه ” بُد العارف ” على نحو ما صنع السُّهْرُوَرْدِىّ في ” حكمة الإشراق ”، وأغلب الظن أنه متأثر به في هذا الصدد . ومباحث هذا المنطق الجديد على حد قول ابن سبعين: ” لا يمكن تصورها إلا بالمرشد، ولا تنالها النفوس بالجهد ولا بالتجلد، بل بالنفحات الإلهية، حتى يبصر (الإنسان )، ما لم يبصر، ويعلم ما لم يعلم، وتظهر أشياء لا من جنس ما يكتسب ”، وهذا يذكرنا بما قاله السُّهْرُوَرْدِىّ: بأنه ” لم يحصل لى أولاً بالفكر، بل كان حصوله بأمر آخر، ثم طلبت الحجة عليه حتى لو قطعت النظر عن الحجة ما كان يشككنى فيه مشكك .

تلك أوجه الشبة البارزة التى نجدها بين ” منطق ابن سبعين ”، ومنطق السُّهْرُوَرْدِىّ ”، وعلى الرغم من إعتداد ” ابن سبعين” الشديد بنفسه وعدم اعترافه لأحد من السابقين عليه من الفلاسفة والصوفية بأى فضل، إلا أنه فيما يبدو لبعض الباحثين المحدثين إذا صرفنا النظر عن الاختلافات بينه وبين السُّهْرُوَرْدِىّ في تفاصيل مذهبيهما، نجد أنه متأثر بهذا الأخير، وذلك على الأقل في محاولته التحرر من المنطق الأرسطى ووضع منطق جديد يبنى على الذوق والمشاهدة، وتوجد مباحثه في الخَلد (يعني العقل) قبل التصور والتصديق لا بعدهما، ومطالبه الأصلية خارجة عما يذكره الحكماء المشاءون؛ إذ لا نعلم أحد قبل السُّهْرُوَرْدِىّ حاول التحرر من سيطرة منطق أرسطو ووضع منطق جديد على أساس علمى منظم .

وأهم النتائج التى توصل إليها ” ابن سبعين ” فى منطقه أن حقائق المنطق فطرية في النفس الإنسانية، وأن الألفاظ المنطقية الستة، وهى الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض، والجوهر، والشخص – ونشعر بالكثرة الوجودية، فهى محض وهم، والمقولات العشر كذلك، وإن اختلفت وتباينت، فإنما تشير إلى الوجود المطلق، فهو إذن يحمل المقولات على الوجود المطلق، وبذلك يجعل المقولات جنساً واحداً أو تحت جنس واحد.

وهكذا يطبق ” ابن سبعين مذهبه في الوحدة في مجال المنطق الأرسطى ليثبت دائماً أن كل مباحث هذا المنطق التى تشعر بالكثرة في الوجود وهم على التحقيق أو يتبادل بعض هذه المباحث لتبدو متمشية مع مذهبه العام .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم