أقلام فكرية

محمود محمد علي: لماذا وضع نصر حامد أبو زيد التأويل في تضاد مع التفسير؟

محمود محمد عليالتفسير والتأويل مفهومان تطورا عبر التاريخ الإسلامي، وكان لكل منهما دلالالته المختلفة في كل مرحلة من مراحل هذا التاريخ . من هنا جاء اهتمام الدكتور نصر حامد أبو زيد بدراسة التأويل، وأعاد الاعتبار له مؤكداً أنه يمثل ممارسة مشروعة في الثقافة العربية المعاصرة، ومعتبراً أن تجديد الخطاب الديني يجب أن يستعيد فريضة التأويل الغائبة، وفي خضم تحديد نصر حامد أبو زيد لمفهوم التأويل المنشود لبناء خطاب ديني جديدة لم يفته نقد التأويل المعاصر متهماً إياه بالتلفيقية وبالنفعية الإيديولوجية وغيرها من التهم .

 وقد قرأ نصر حامد أبو زيد النص القرآني انطلاقا من رغبته في بناء جدلية بين الماضي والحاضر من جهة، والبحث عن الخصائص اللسانية العميقة للغة الدينية التي توفر لها الإنفتاح الزماني والمكاني من جهة أخرى. فهو يسعى من خلال تأويله لمختلف آي القرآن إلى تحقيق الفهم الدقيق لها بفك شفرات النص والحصول على دلالات للعلامات النصية التي تشكله، وهذه القراءة وجب أن تتجاوز كل القراءات السابقة، خاصة التاريخية منها أو تدحضها نهائيا، ولا سبيل لذلك إلا باعتبار هذا النص نسيجاً لغوياً متماسكاً لا تظهر معانيه إلا بجعل المناهج التى تتصل بنظريات ما بعد الحداثة وسيلة وإجراءاتها سلاحا لا غىني عنه (1).

 والسؤال كيف نظر نصر حامد أبو زيد إلي التأويل؟ .. ولماذا وضع التأويل في تضاد مع التفسير؟ .. ولماذا نقد التأويلات المعاصرة ؟ وما هي المرجعيات الفكرية التي وجهت تأويله للنص القرآين؟ .. وما الإجراءات النقدية التي توسل بها لفك شفرات هذا النص؟.. وهل استطاع فعلاً أن يتجاوز ما يطلق عليه اسم التفسري التاريخي للنص الديين؟ وما علاقة التفسير بالتأويل في نظره ؟.

 وللإجابة علي تلك التساؤلات يمكن القول بأن مشروع نصر أبوزيد قد جاء في وقت شهد صعود نجم التيارات السلفية في مصر وخفوت مشاريع تنويرية مثلتها كتب محمد عبده "الإسلام دين العلم والمدنية"، وطه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي"، وعلي عبد الرزاق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، حيث تناول كتاب نصر "مفهوم النص" النص القرأني بالنقد والتحليل بصفته "منتجًا ثقافيًا" أنتجه واقع العرب التاريخي والإجتماعي خلال عهد النبوة، وأبعد النص القرأني عن أي بُعد ديني مطبقًا عليه الشروط النقدية كأي نص أدبي، ولا شك أن مشروع نصر حامد أبوزيد ذا روؤية عميقة لمفاهيم قراءة وتأويل النص القرآني (2).

  وربما كان اشتغال نصر حامد أبو زيد في التأويلات منجزه الأهم، وعموده الأساسي لمشروعه الفكري، وفي الوقت نفسه السبب نفسه في حملة الهجوم الشعواء التي تعرض لها، وانتهت بتكفيره، ودخوله في محنته المعروفة، وقد ضمن نصر حامد أبو زيد كتابه الشهير " مفهوم النص دراسة في علوم القرآن"، نظريته الخاصة في التأويلات، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يطورها وينقدها ذاتيا حتي السنوات الأخيرة من حياته، وامتلك الشجاعة الأدبية والفكرية ليراجع بعض طروحاته، لا بل أن يغير منطلقات نظرته للنص المقدس نفسه .

  قدم نصر حامد أبو زيد قراءة تحليلية تفكيكية للتراث، داعيا إلي تجاوز القراءات السابقة للقرأن التي كان تنظر إليه كنص، وإعادة قراءته كخطاب محمول علي نص، كما شجع علي تعدد التأويلات، ولم ير ضيرا في دخولها في سجالات .

  لقد انتقد نصر حامد أبو زيد التأويلات المعاصرة، واتهمها بالتلفيقية، وقدم نظريته للتأويل، وللمفارقة تعرض هو ذاته بالنقد نفسه، من بعض الكتاب والباحثين العرب، حتي أن هناك من اتهمه بأنه انطلق من الأرضية الأصولية نفسها، التي انطلق منها خصومه، وبين مؤيد وناقد بنصر حامد أبو زيد سيستمر السجال ولن ينتهي، لكن تبقي نظرية نصر حامد أبو زيد في التأويلات واحدة من محركات الفكر العربي المعاصر في هذا الحقل (3).

   ونصر حامد أبو زيد في إطار تأسيس مشروعية للتأويل كما نجده في كتابه النص، السلطة، الحقيقة، لم يكن ليرتضي هذه النتيجة، فراح يبحث في تطورها التاريخي، وعلاقتها بالسياسي والاجتماعي، تماشيا مع نظرته في أن القراءة الواعية للتراث لابد أن تهتم بالجوانب الثلاث: الشرط الاجتماعي، الممارسة السياسية، والتراث الفكري (4).

  إنّ النص القرآني في تقدير نصر حامد شأنه شأن أيّ نصّ آخر قُدّ من لغة مخصوصة تعبّر عن المجتمع المُشكّل له، وبهذا المعنى فالنص القرآني "منتج ثقافي" أي أنّه تشكل في الواقع الجاهلي خلال عشرين سنة (تقبّل الرسول محمّد للوحي)، وفي ذلك تقويض للطرح التقليدي المهيمن على الفكر الإسلامي القائل بأنّ للنص وجودا ميتافيزيقيا غيبيا سابقا لوجوده في عالم الشهادة، وبخصوص هذه المسألة حرص "أبو زيد" على التمييز بين مصدر النص وطبيعة النص، فأنْ يكون القرآن الكريم وحيا إلهيا فإنّ ذلك لا ينفي عنه أنّه نص بشري بالنظر إلى أنّ الوحي قد تأنس عندما تجسّد في اللغة والتاريخ، مما يجعل "القرآن الكريم" محكوما بجدلية الثبات والتغيّر، فالنصوص ثابتة في المنطوق مُتحركة مُتغيّرة في الدلالات، فالقول بألوهية مصدر النص لا ينفي واقعية محتواه، ولا ينفي انتماءه إلى البشر، وعلاقته الجدلية مع الواقع (5).

  لقد انطلق نصر حامد في فهم لماهية "النص" من مقدمة مؤدّاها أنّ النص صنو الواقع الذي نشأ فيه، ذلك أنّ اللغة لا تكون مفارقة لثقافة الجماعة المُستخدمة لها، وبناء على ذلك ذهب إلى أنّ النظر في النص القرآني يقتضي الإلمام بنظام اللغة العربية ومنظومة القيم والأعراف والتقاليد الجاهلية (6).

   ثم يختار نصر حامد أبو زيد "منهج تحليل الخطاب" آلية لمقاربة التراث مقاربة تأويلية. وسواء قرأنا التراث أو اكتفينا بتحليل النص الديني، الذي يعتبره أبو زيد الخيط الناظم لجميع المعارف التراثية لما يقدمه لها من أفق فلسفي ورؤية للعالم، فإن على التأويل أن يتفاعل معه وفق الخطوات التالية: الكشف عن الخطابات الظاهرة والمضمرة في النص، تعيين دلالات المفهوم، ودلالات المنطوق، تحليل بنية الخطاب السردية والأسلوبية، اكتشاف السياق، وتحديد نوعه، اكتشاف دلالات سيميولوجية أو غيرها (7).

واستقبال مشروعه من طرف الباحثين في الدراسات الإسلامية لم يخل هو الآخر من نقد حاد، فعلي حرب مثلا، يؤكد أن «خطاب نصر حامد أبو زيد يناهض الأصولية ولكنه يقف على أرضها»، لا على أنه يفككها من داخل، بل على أن الفرق بينه وبينها فرق في الدرجة لا النوع. ويعيب عليه بعض التلفيق المنهجي، وقلة الجدة والإبداع، وأنه وهو يناهض الأيديولوجية التي صبغت الفكر الإسلامي، كان خطابه أيديولوجيا بالأساس (8)، ويدلل حرب على رأيه أن نصر استمر في نفس النهج من بحث وتوليد للمفاهيم الإجرائية في الشرح والتفسير، كالتأويل والنسخ وأسباب النزول، وبالتالي أبقى نصر على نفس اللغة الماورائية الغيبيبة للأصوليين في حين أن مشروعه الفكري يقوم على الدعوة للتحرر منها.

  ونستطيع أن نفهم أيضًا ما دفع محمد أركون لكي يصف قراءة نصر أبوزيد للنص القرآني بالقراءة "العادية (9)- مثلها مثل القراءات الماركسية لطيب تيزيني وحسين مروة، والأبستمولوجية مثل قراءة محمد عابد الجابري. والتي لم تسطع أن تصل إلى مساحات "اللامفكر فيه" في الثقافة العربية وهذا ما يجب الإلتفات إليه بعيدًا عن الضجة والجدل. ولعل فكرة الضجة والجدل التي ينبه لها أركون تشير إلى أن الفكر الزيدي قد شغله في بعض الفترات الكبت السياسي والتشويش الصوفي، ولعل هذا ما جعله يقدم على الوقوف على حقل بحثي يخص "ابن عربي"، وهذا الحقل لم يكن "لا مفكر فيه"، بل كان حقلاً قدمت فيه العديد من الأبحاث والدراسات الاستشراقية، على الرغم من كل الآليات التي أتيحت لنصر لمحاولة قراءة النص من السيميائية، والاركولوجية، والتحليل السوسيولوجي، والنقد التاريخي (10).

  ومع هذا التقدير لمشروع نصر حامد أبوزيد لكنه يبقى مشروعاً جدلياً لا يلقى قبول الجميع حوله، وتظل قيمة العمل الفكري لنصر أبوزيد أنه يفتح لنا المجال لإعادة البحث والتنقيب حتى في مناهج النقد والتأويل للدين عمومًا وليس الإسلامي فقط. فالعقلانية تقتضي نقدًا مستمرًا لا ينقطع. ولعل ما أوردناه من نقاط قليلة ومختصرة حول محورين فقط هما إشكالية قراءة النص وتفسير الوحي داخل مشروع ضخم لقراءة النص القرآني، تدفعنا للتنويه إلى وجود أوجه نقد أخرى للقراءة الزيدية مثل "هدر كيونة النص، وإستقدام الإيدولوجيا التي هاجمها ولكنها ظهرت لديه في كتابه "مفهوم النص" وخصوصًا مقدمة الكتاب التي كانت أشبه ببيان سياسي موجه ضد خصومه داخل التيار الديني" (11).

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...............

1-عثماني آمال: تأويل نصر حامد أبو زيد للنص الديني (القرآني)، مجلة فتوحات، العدد الثاني، جامعة تيسة، الجزائر، جوان 2013، ص 332..

2- عبد السلام يوبي: " المسكوت عنه في نقد نصر حامد أبو زيد"، رسالة ماجستير غير منشورة، الجزائر، جامعة مولود معمري، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، عام 2011 .

3- التأويلات عند نصر حامد أبو زيد | برنامج يتفكرون – قناة الغد- الحلقة الخامسة - الموسع الرابع.

4- نصر حامد أبو زيد: النص، السلطة، الحقيقة، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1995، ص 48.

5- محمد إدريس: قراءة في مشروع نصر حامد أبو زيد الفكري (1943 ـ 2010)، مؤمنون بلا حدود، 20 أبريل، 2015.

6- المرجع نفسه.

7- نصر حامد أبو زيد:المصدر نفسه، ص 8.

8- عبد السلام يوبي: المرجع نفسه.

9- مصطفي شلش: نقد الناقد: قراءة نقدية في فكر نصر حامد أبوزيد، أنظر الرابط: https://www.jadaliyya.com/Details/39801

10- المرجع نفسه.

11- المرجع نفسه.

 

 

في المثقف اليوم