أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: علاقة اللغة بالتفكير..هل اللغة تشكّل التفكير؟

حاتم حميد محسنحين نتحدث بلغة معينة، نتفق على ان الكلمات هي رمز للأفكار والناس والأماكن والأحداث. اللغة التي يتعلمها الأطفال ترتبط بثقافتهم وما يحيط بهم. ولكن هل ان الكلمات ذاتها تشكّل الطريقة التي نفكر بها حول الأشياء؟ السايكولوجيون حقّقوا طويلا في السؤال عما اذا كانت اللغة تشكّل الأفكار والأفعال، ام ان أفكارنا وعقائدنا هي التي تصوغ لغتنا. باحثان هما ادوارد سابير Edward Sapir و بنيامين لي وورف Benjamin Lee Whorf حقّقا في هذه المسألة في الأربعينات من القرن الماضي. هما ارادا ان يفهما كيف يمكن لعادات اللغة لدى جماعة معينة ان تشجع أعضاء تلك الجماعة على تفسير اللغة بطريقة معينة (سابير، 1941، 1964). اقترح سابير و وورف ان اللغة تقرر الفكر. فمثلا، في بعض اللغات نجد هناك العديد من الكلمات المختلفة التي تعبّر عن الحب. لكن، في اللغة الانجليزية يتم استعمال كلمة حب واحدة (love) لكل انواع الحب. هل ان تأثير هذا على طريقة تفكيرنا حول الحب يعتمد على اللغة التي نتحدث بها (وورف، 1956)؟ الباحثون منذ ذلك الحين أشاروا الى ان هذه الرؤية هي تجريدية جدا، كونها تفتقر الى التجريبية في ما افترضه سابير وورف (البير، 2013، بورودتسكي، 2011). اليوم، يستمر السايكولوجيون في دراسة ونقاش العلاقة بين اللغة والفكر.

اللغة قد تؤثر حقا على الطريقة التي نفكر بها، وهي الفكرة المعروفة بالحتمية اللغوية linguistic determinism. احدى التجليات الحديثة لهذه الظاهرة تطلبت اختلافا بالطريقة التي يتحدث ويفكر بها الانجليزي والمانديريني الصيني حول الوقت. متحدثو الانجليزية يميلون للتحدث حول الوقت مستعملين عبارات تصف التغيير على امتداد بُعد افقي، مثلا، القول " انا اركض متأخرا عن الجدول الزمني" او " لا تفعل الأشياء بسرعة اكثر مما تتطلب". وبينما يصف متحدثو المانديرينية الصينية ايضا الوقت بعبارات افقية، لكنهم من الشائع ايضا يستعملون عبارات ترتبط بترتيبات عمودية. فمثلا، الماضي ربما يوصف كونه "أعلى" (up) والمستقبل كونه "أسفل"(down). ان هذه الاختلافات في اللغة تُترجم الى اختلافات بالآداء في اختبارات معرفية صُممت لقياس السرعة التي يستطيع بها الفرد تمييز العلاقات الزمنية. كان المتحدثون بالمانديرينية الصينية أسرع في تمييز العلاقات الزمنية بين الشهور. في الحقيقة، برودتسكي (2001) يرى هذه النتائج تشير الى ان "عادات اللغة تشجع عادات التفكير" (ص12).

ان اللغة لاتقرر كليا أفكارنا – افكارنا مرنة جدا – لكن الاستخدامات المعتادة للّغة يمكن ان تؤثر على عاداتنا في التفكير والفعل. فمثلا، بعض الممارسات اللغوية تبدو مرتبطة بالقيم الثقافية والمؤسسات الاجتماعية. إسقاط الضمير هو مثال جيد على ذلك. الضمائر مثل "انا" و "انت" تُستعمل بالانجليزية لتمثل المتكلم او المستمع للكلام . هذه الضمائر في الجملة الانجليزية، لا يمكن إسقاطها لو جرى استعمالها كفاعل في الجملة. لذا، مثلا، عبارة "انا ذهبت الى الفيلم الليلة الماضية" صحيحة، لكن "ذهبت الى الفيلم الليلة الماضية" عبارة ليست مألوفة في الانجليزية الشائعة. مع ذلك، في لغات اخرى مثل اليابانية، الضمائر يمكن إسقاطها من الجملة. اتضح ان الناس الذين يعيشون في هذه البلدان وحيثما يسقطون الضمائر فان لغاتهم تميل لإمتلاك قيم جمعية أكبر (مثل ولاء العمال لمدرائهم) من اولئك الذين يستخدمون لغات لا تُسقط الضمير مثل الانجليزية (kashima,1998). قيل ان الاشارة الواضحة لـ "انت" و "انا" ربما تذكّر المتكلمين بالفرق بين الذات والآخر، والى الاختلافات بين الافراد. مثل هذه الممارسة اللغوية قد تعمل كتذكير دائم بالقيمة الثقافية، والتي بدورها، تشجع الناس على اداء الممارسة اللغوية.

حاول عدد من الباحثين التحقيق في الكيفية التي تؤثر فيها اللغة على التفكير، فقارنوا بين الكيفية التي يتحدث ويفكر بها الناطقون بالانجليزية وشعب داني في غينيا الجديدة حول اللون. الدانيون لديهم كلمتين للّون: كلمة واحدة للخفيف وكلمة اخرى للمعتم. بالمقابل، اللغة الانجليزية فيها 11 كلمة للّون. الباحثون افترضوا ان عدد مفردات اللون قد تحدد الطرق التي يتصور بها شعب داني لـ اللون. غير ان الدانيين كانوا قادرين على تمييز الالوان بنفس القدرة كالمتكلمين بالانجليزية، رغم امتلاكهم لكلمات قليلة (Berlin&Kay,1969). وهناك مراجعة حديثة لبحث سعى لتقرير الكيفية التي تؤثر بها اللغة على ظاهرة الادراك الحسي ، خاصة في نصف الدماغ الأيسر – للتذكير ان الجانب الايسر مرتبط باللغة لدى معظم الناس. غير ان الجانب الايمن من الدماغ تكون فيه التأثيرات اللغوية على الادراك قليلة.

 

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم