أقلام فكرية

حسين علاوي: تأويل أسئلة الميتافيزيقيا

حسين علاويتُعتبر الميتافيزيقيا بحث في أمور غيبية أو ما بعد الطبيعة، وقد كانت شغل الفلاسفة الشاغل منذ الإغريق.. وأعظم وأهم جانب في جميع أنشطة المعرفة البشرية.. والجزء الأهم في فلسفة العلوم الطبيعية والرياضية.. إلّا أنها تفتقد إلى تعريف محدد، فقد استعملت بمعانٍ متباينة لا حصر لها.. لأنها كانت تتغير وتظهر في رؤى وتأويلات جديدة وفقاً لكل عصر.. فعرفها أفلاطون  بعالم المُثُل، وأرسطو بعالم العلل.. والأفلاطونية الجديدة بعالم وحدة الوجود.. وديكارت بالعالم اللامادي.. وعرّفها سبينوزا بعالم الجوهر.. ومالبرانش بعلم الصور.. وليبتنز بعلم القوى والذرات الروحية.. وشبلنج بعلم المطلق.. وهيجل بعلم الفكرة الشاملة أو الحقيقة الروحية.. وإنها ذهنية تاريخية وتفكير بشري عند ماركس.. وفي العلم اعتبرها غاليلو دعوة لدراسة الفيزياء.. وإنَّ الكون مكتوب بلغة رياضية.. أي استخدمها في دراسة العالم.. وباعتقاده أنَّ الرياضيات هي المفتاح  لكشف أسرار الطبيعة ما بعدها..

وتبقى الميتافيزيقيا مسألة عقلية صرفة.. ينقسم أمامها الفلاسفة والعلماء إلى قسمين: الأول يتطرف في نصرتها والآخر يغلو في خصومتها.. لأنها محاولة شاقة في سبيل البحث عن الوجود والكشف عن الحقيقة النهائية الكامنة وراءه..

وسأتوقف عند ثلاث فلاسفة اهتموا اهتماماً كبيراً بمصطلح الميتافيزيقيا، وهم: سبينوزا وكانت وهيدجر.. وقد اعتمد هؤلاء على المنهج العقلي والاستنباطي وحده.. بخلاف الأديان السماوية.. وبعدها نتوقف عند رأي القرآن الكريم..

كانَت الفلسفة الميتافيزيقية في زمن سبينوزا والتي تناولها كانْت بالنقد، محاورها: الإله والحرية والخلود.. فالألوهية يناقشها اللاهوت العقلي.. والحرية مرتبطة بإفساح مجال لها في عالم حتمي عقلي.. وسؤال الخلود مرتبط بالنفس، وهي الخالدة في المذاهب السابقة.. ولذلك تناولها علم النفس العقلي.. وسبينوزا لا ينتمي إلى هذا التقسيم الثلاثي لأسئلة الميتافيزيقيا وعلومها الفرعية.. ومذهبه مختلف تماماً عن الميتافيزيقيا التقليدية التي انتقدها كانْت.. فاسبينوزا يؤكد على حرية النفس والبدن وعدم انفصالهما.. والخلود في الفلسفة الكلاسيكية هو بقاء النفس بعد فناء الجسد.. لكن سبينوزا لا يقول بذلك، بل بفناء النفوس الجزئية مع أبدانها، وللخلود عند سبينوزا معنىً آخر، إنه خلود جمعي للنفس.. إذ إنَّ شيئاً ما يبقى، ليس هو بالنفوس الفردية.. والعالم في الميتافيزيقيا التقليدية التي توقف عندها كانْت هو المميز في مكان وزمان، لكن الطبيعة عند سبينوزا لا متناهية من حيث المكان والزمان.. والألوهية غير منفصلة ومتمايزة عن العالم والطبيعة.. (أنظر: سبينوزا ونقد العقل الخالص، د. أشرف منصور، ص324-325).

إلّا أنَّ سبينوزا يؤكد على أنَّ الطبيعة خاضعة لقوانين كلية، وإننا جزء من هذه الطبيعة، فنهتدي بأفكارها المطابقة، ونصير فاعلين بعد أن كنا منفعلين.. ذلك أننا حالما ندرك بالفعل أنَّ أفراحنا وأحزاننا نتاج القوانين الطبيعية، نكفُّ عن محبة الأشياء وبغضها، وعن استشعار الحزن والخوف والرجاء واليأس والغضب والسخرية.. فلا نطلب شيئاً إلّا لاتصاله بميلنا الأساسي الذي هو حب البقاء.. بل ندرك أنَّ ذاتنا صادرة عن طبيعة الله.. ونرد السرور الذي يملأ نفسنا إلى الله علّة الحقيقة ومبدأ القوانين السرمدية.. وكلما ازدادت معرفتنا حظها من الخلود، فإنَّ الخير الوحيد الذي يدركه عقلنا.. والخير الخُلُقي ما أنمى العقل.. والشر ما انتقصه وأفسده.. وذلك هو الدين الحق الذي نجده في أنفسنا.. (أنظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، ص115-116).

ويصرّح كانْت في مدخل كتابه "نقد العقل الخالص" أنَّ نقده يمارس حماية ضد أخطاء الميتافيزيقيا.. لأنها كانَت هي المجال الذي يتنازع فيه العقل الخالص مع نفسه.. إذ يقع في تناقضات لا سبيل إلى حلّها النهائي.. ويقصد بذلك التناقض الذي ساد المذاهب الميتافيزيقية التقليدية بين قِدم العالم وحدوثه.. وبين خلود النفس وفنائها.. وبين بساطة تكوين العالم وتركيبه.. والحتمية المطلقة التي تصل إلى حد القدرية من جانب، والحرية من جانب آخر.. ويُرجِع كانْت هذه النزاعات الميتافيزيقية إلى تناقض يقع فيه العقل الخالص مع ذاته..

ورغم اعتزاز معاصريه من الفلاسفة بقيمة العقل والعلم، وأنَّ تقدّم الإنسان مرهون بمدى تقدّم المعرفة العقلية والعلمية.. إلّا أنَّ كانْت انتقدَ معاصريه بمغالاتهم بوصول العقل إلى معارف يقينية، وتجاوز هذا العالم المحسوس ليصل في معارفه إلى ما وراء هذا العالم.. وبيّنَ تهافت هذا الأمر، واعتقدَ أنَّ للعقل الإنساني حدوداً ينبغي أن لا يتجاوزها.. وإلّا غاب اليقين وضاعت الحقيقة.. إلّا أنه يؤكد من جانب آخر أنَّ العالم الطبيعي ليس كما يتصوره غالبية الفلاسفة العقليين خلو من القوانين العقلية الضرورية والكلية.. بل إنه مليء بهذه القوانين التي تقع على العقل مهمة اكتشافها.. وفي نظرِهِ إننا نسكن جزيرة يكتنفها من جميع الجهات محيط لا حدود له، تعوزنا فيه معالم الطريق.. والميتافيزيقيا تسبح في هذا المحيط مدّعيةً أنها سالكة سبيلها.. وهذا الادعاء في مجاوزة التجربة في نهاية الأمر عند كانْت هي نحن أنفسنا.. هي تمثلاتنا.. هي لأشياء كما تبدو لنا.. هي العالم الذاتي.. (أنظر: أميل بوترو، فلسفة كانط، ص148).

وقد ميَّزَ كانْت بين عالميْن: عالم التجربة، وعالم الظواهر.. وهو العالم الذي ينبغي للفيلسوف أن يتقيد بحدوده، وأن يُعمِل كل أدواته المعرفية للتعرف عليه وفهمه، ووضع نتائج محددة لهذه المعرفة.. وفي هذه الحالة تكون الميتافيزيقيا على حدود العقل الإنساني، ولا تستطيع مجاورة التجربة التي هي المعرفة الحقة.. إلّا أنه يعترف إنَّ هذا الذي يفوت علمنا ويُعتبر ضرورياً لتنظيم حياتنا الخلقية، هو عالَم الأرواح، الذي هو موضوع إيمان، لا موضوع برهان.. ويمكن تأويله بأنه وحي بعالم معقول تخضع فيه الإرادات الجزئية لقوانين خاصة، أو لإرادة كلية.. (أنظر: الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، ص212).

أما مارتن هيدجر، فقد حاول تقويض الميتافيزيقيا الغربية وموروثها الذي يعود إلى الإغريق وخاصة أفلاطون.. وتجاوزْ هيدجر للميتافيزيقيا الكلاسيكية، يعني عنده التفكير الجديد بتاريخ الوجود.. بعد أن أضحى الوجود منسياً، وقد جعله موضوع للتذكر والحضور.. فيقول إنَّ الضرورة الراهنة تستوجب استعادة المشكلات في البساطة، ومن خلال هذه البساطة وحدها يمكن للفلسفة أن تستعيد قوّتها.. ويعتقد أنَّ الفلسفة الكلاسيكية أفرغت الميتافيزيقيا من أسئلة الإنسان والوجود.. وإنها دائماً تنظر إلى الموجود الإنسان على أنه موجود فحسب.. ويعتقد أنَّ الوجود ليس هو الله؛ لأنَّ الميتافيزيقيا تجمع بين الوجود وما بعد الطبيعة.. وإنَّ الوجود أقرب إلى الإنسان من كل موجود سواء كان ملاكاً أو إلهاً.. لأنَّ الإنسان متعلق دائماً بالطبيعة والوجود.. فعلينا البحث عن معنى الوجود.. لا عن أسئلة الميتافيزيقيا.. التي جعلت الإنسان يغترب في هذا الكون.. (أنظر: محمود رجب، الميتافيزيقيا عند الفلاسفة المعاصرين، ص44).

ويفنّد هيدجر فلسفة كانْت العقلية أو كتابه "مقدمة لكل ميتافيزيقيا".. فيقول: إنَّ الميتافيزيقيا العقلية هي معرفة المفاهيم المجردة، وبالتالي تكون أولية.. وهذه الميتافيزيقيا وحدها ليست منطقاً، وهي لا تقوم بتحليل المفاهيم، ولكنها تعالج منطقة الغيبيات، الله والعالم والنفس الإنسانية.. وإنها تكتسب من المفاهيم والتفكير المجرد أولوياتها.. (مارتن هيدجر، الوجود والموجود، تأليف: د. جمال محمد أحمد سليمان، ص59).

وخلاصة فلسفة هيدجر للميتافيزيقيا ونقده لتاريخها: اعتبرها ميتافيزيقيا ذات نزعة ذاتية جعلت شغلها الشاغل ما بعد الطبيعة وهي لا تعرف عنه شيئاً.. وتركت البحث في الوجود والطبيعة، ومعاناة الإنسان واغترابه فيها..

أما الرؤية القرآنية، فتقسم العالم الذي يعيش فيه الإنسان إلى نصفين: عالم الغيب والذي تطلق عليه الفلسفة: الميتافيزيقيا.. وعالم الشهادة أي الطبيعة وما فيها.. أي المرئي واللامرئي.. والله تعالى يهيمن على كليهما كما يخبرنا القرآن في سورة الزمر: 46: (قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)..

وليس ثمة غيب من جانب الله تعالى.. لأنه كلي العالم مطلقه، كما يؤكد القرآن ذلك ويكرره في عدة آيات.. (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) الطلاق: 12.. وعندما يسأل الرسول محمد (ص) عن الساعة والغيب، يخبره الله: (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) الأحزاب:63.. و(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) الجن، الآية: 26.. والرسول لا يعلم الغيب.. (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ) الأعراف/ الآية: 188.

والسبب في ذلك كله أنَّ الإنسان قد خُلق ليعيش في عالم الشهادة وحده.. ولا تتعدى معرفته حدود مجاله الطبيعي، وبما أنَّ الميتافيزيقيا تتعلق وأسئلته وخلوده، فلم يكتفِ بما حُدد له في الأديان السماوية.. بل أخذ يستخدم عقله بأقصى حدوده..

 

حسين علاوي

 

 

في المثقف اليوم