أقلام فكرية

محمود محمد علي: التحولات الفلسفية في ظل جائحة كورونا (2)

محمود محمد علي3- كورونا والتصوف: ثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة وذلك من إثارة هذه السؤال الذي طرحه في هذا المقام الأستاذ "حسين لوكيلي" فقال: هل عزلة البشرية في زمن الحجر الصحي تشبه عزلة المتصوف وخلوته؟ وهل للمكان الذي يختلي فيه الصوفي نوافذ؟ وإن حصل وكانت له نوافذ هل هي نوافذ أرضية أم سماوية؟

وقد أجاب الأستاذ "حسين لوكيلي" قائلاً: بأنه من العسير على النفس الانزواء عن عالمها المشبع ضجيجا وصخبا، وعسير عليها الالتزام بضوابط العزلة في زمن تسيطر عليه الآلة والتقنية، والعلاقات الاجتماعية المتجذرة حد التواشج المصطبغ بجنون الثرثرة والفوضى. والأصعب من هذا كله أن تستفيق البشرية كل صباح على أرقام، ونسب لها علاقة بعدد المصابين والمتوفين جراء هذا العدو الفتاك بعد أن أرخت الجائحة بظلالها القاتمة السوداء على كل أقطار العالم. فتحتّم على الإنسان الرضوخ لضوابط الحجر الصحي كرها لا طوعا. حفاظا على حياته، وحياة أفراد مجتمعه. لقد فر الإنسان من الساحات التي كانت تحتضن خيولا تجري بلا هوادة في معركة الحياة اليومية، فما عاد يسمع وقع سنابكها، ولا حتى رفيف لهاثها المفزع. وحده صوت الخواء، يعوي في دروب المدن وأزقتها، محدثا أزيزا ذابلا. كما هو أمر مدينة ووهان الصينية، وغيرها من مدن العالم التي كانت تنبض بحياة الغادين والرائحين، فتحولت إلى مدن أشباح. فلا تكاد ترى أحدا يتجول في شوارع المدن المقفرة أو تكاد تسمع له صوتا. وفي أحسن الأحوال إن حدث وسمعت، فإنك تسمع تصفيق المحتجرين وهم يطلون من شرفات المنازل رضا بما تصنعه الأطقم الطبية المتصدية لهذا العدو المخاتل، ثم يعود الصمت ليخيم عليها من جديد (16).

وهنا نحب أن نشير إلى أن نوافذ الأرض التي لجأ إليها المحتجرون وقت الإقامة الجبرية في المنزل ليست كنوافذ الصوفي الذي يعتلي من خلالها صهوة المطلق. فهذا ابن عربي الصوفي والفيلسوف يؤسس لعزلة خاصة تنمحي معها حالة الوحشة والقنوط؛ لأن لها نوافذ مفتوحة على السماء وعلى اللامحدود. وقد سماها بعزلة العلماء بالله، لكونها تختلف عن عزلة عامة الناس لاصطباغها بالأنس، والنوال، والفتح. ففي الباب الثمانين من فتوحاته المكية عمد إلى التمييز بين العزلتين. يقول: "فمن اعتزل فلتكن هذه العزلة بغيته، فهي عزلة العلماء بالله، لا هجران الخلائق ولا غلقُ الأبواب وملازمة البيوت. وهي العزلة التي عند الناس: أن يلزم الإنسان بيته، ولا يعاشر، ولا يخالطَ، ويطلب السلامة ما استطاع بعزلته، ليسلم من الناس ويسلم الناس منه. فهذا طلب عامة أهل الطريق بالعزلة" (17).

ويستطرد الأستاذ حسين لوكيلي فيقول: " وقد أدرك المتصوفة الجدوى من العزلة، خصوصا فيما يخص الارتقاء بالسلوك، وتجديد للروح، وسمو بالأخلاق، فجعلوها كونية عالمية لا ترتبط بدين أو عقيدة. ذلك أنه إذا أمعنا النظر في تضاعيف ما دونه الشيخ الأكبر ابن عربي، وجدناه يقدم تصورا للخلوة يبدو على قدر كبير من الفرادة. فهو يسمها بالشمولية والإطلاق تارة، وتارة أخرى يقيدها. وهو في هذا وذاك، يعتبرها طريقة في الحياة، ومنهجا في التعايش، دون أن يجعل هذه الممارسة العرفانية حكرا على مذهب من المذاهب، أو ملة من الملل. ولنا في السفر السادس من فتوحاته جواب على هذا الأمر. يقول: "ولقد أفردنا لهذه الطريقة خلوةً مطلقة غير مقيدة في جزء، يعمل عليها المؤمن فيزيد إيمانا، ويعمل بها وعليها غير المؤمن من كافر وَمُعَطِّل ومشرك ومنافق. فإذا وفّي العمل عليها وبها، كما شرطناه وقررناه، فإنه يحصل له العلم بما هو عليه في نفسه. ويكون ذلك سبب إيمانه بوجود الله، إن كان مُعَطِّلاً، وبتوحيد الله، إن كان مشركا، وبحصول إيمانه إن كان كافرا وبإخلاصه إن كان منافقا أو مرتابا". (18).

وهنا يلمح الأستاذ حسين لوكيلي في كلام ابن عربي هذا إشارة خفية، مفادها أن طقس الخلوة يسهم في بناء عالم فاضل حر، مبني على الاختيار الطوعي لا الإلزام الإكراهي. وهذا المبدأ قد أعادت كورونا إحياءه من جديد، فالمكوث في البيت يجب أن يكون منبثقا عن وعي ذاتي، لا عن أمر إلزامي يكره الذات على البقاء في بيتها. ففي حالة الاختيار الطوعي تصير الذات شاعرة بنفسها، ومحسة بعالمها الباطن، نتيجة نشاطها الخاص الممثل في العزلة. حيث "لا يعتزل إلا من عرف نفسه، ومن عرف نفسه عرف ربه (19).

والذي يهمنا من هذا كله كما يقول الأستاذ حسين لوكيلي، أن الخلوة المطلقة غير مخصوصة بدين أو عقيدة، وإنما هي فضاء مفتوح على الآفاق، أبوابه مشرعة في وجه جميع البشر، يدخلها المسلم وغير المسلم. فهي خلوة روحية عالمية تتساوى فيها الألوان الأيديولوجية والطوائف والمذاهب. أو لنقل - بمنطق المخالفة - بدل المماثلة والتساوي-: إنها خلوة تعلو على كل التحديدات والتصنيفات الأيديولوجية الجاهزة، لتفصح عن هوية إنسانية عالمية تحتضن تجربة الإنسان وهو ينصت إلى البعيد القصي لينعتق من آلة الزمنية والعبثية، أو ليعلو على الكثيف والرتيب والمسكوك، وهذا هو السر الذي دعانا لوسمها بعزلة الروح. لأن الجسد يبقى في ركن البيت، لكن روحه تحلق في عوالم الطهر والكمال (20).

وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن العزلة أو الخلوة في نظر الأستاذ حسين لوكيلي هي المدخل الفعلي لتجربة الصوفي الروحية؛ لأنها تعتبر سلوكا ميتافيزيقيا متعلقا بالكائن البشري العرفاني، موسومة بالكونية، غايتها إيصال الإنسان إلى لحظة صفاء مشرقة يكتشف فيها نفسه، ويتحرر في الآن نفسه من أغلال العالم المتناهي، إذ بدخوله إلى حضرة الحق تفتح أمام ذاته آفاقا رحبة لا تعرف الانتهاء والمحدودية. ويصير سلوكه في الحياة مهذبا وخاضعا للمراقبة الذاتية، "فإذا انفصلت من عالم التكليف وموطن المعارج والارتقاءات حينئذ تجني ثمرة غرسك (21).

والحقيقة أنه إذا كانت جائحة كورونا كما يقول الأستاذ حسين لوكيلي قد فرضت قسرا تغيير السلوك اليومي للإنسان، فإن الخلوة علمت الصوفي أن يكون منضبطا للقيم الأخلاقية طواعية دونما إكراه أو إلزام. فالعزلة الواعية بهذا المفهوم هي درء لكل قبيح ومشين، وطريق لمعرفة الذات الإنسانية وهويتها الآدمية الحقيقة، المغمورة تحت ركام الغفلة والجهل (22).

5- كورونا وأطوارها الفلسفية:

عندما تداولت وسائل العالم العربية ومنصات التواصل الاجتماعي الأخبار المتعلقة بكورونا منذ ظهورها في مدينة ووهان الصينية، حيث بدأ التعاطي على الطريقة الاعتيادية، باعتبار هذه الأخبار مستجدا بهم الشأن الصحي، لكن ما فتئ المرض أن تحول إلى وباء Epidemie؛ بمعني الانتشار السريع لمرض معد في مركز معين أو جهة معينة وهي الصين، ثم إلى جائحة Pandemic التي تعني المستوى الأقصى لانتشار المرض المعدي في العالم بأسره؛ ليتحول العالم بطريقة دراماتيكية إلى فضاء موبوء لا يمكن التنبؤ بمكان الفيروس فيه، ولا منحى انتشاره وانتقاله بين الناس. وقد أحدثت جائحة كورونا منعطفا تاريخيا في حياة البشر على مختلف الأصعدة الخاصة والعامة، وبمختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية، بطريقة يصعب التحكم في وتيرتها أو فهم ظواهرها أو التنبؤ بمستقبلها؛ فرغم أن العالم يعيش على وقع ثورة معلوماتية حولت العالم إلى قرية صغيرة مرتبطة بقواعد بيانات ضخمة، إلا أن ذلك التدفق المعلوماتي لم يساهم في فهم الجائحة بقدر ما أحدث إرباكا طال مختلف المجتمعات والدول من خلال صدور أخبار كاذبة أدت إلى إشاعة الذعر والخوف بين الناس، حيث تتباين الآراء المتداولة حول جائحة كورونا بين اعتبارها غضبا إلهيا، أو مؤامرة حاكتها القوى الخفية التي تحكم العالم.

وهنا وجدنا الأستاذ عثمان سليوم في ورقة له بعنوان " فيروس كورونا: غضب الإله وذعر الإنسان وهيبة الدول"، يحاول من خلالها أن يقسم التحليلات الرائجة في السياق العربي عن جائحة كورونا على طريقة فرانسيس بيكون "، الذي قسّم العقل التحليلي إلى ثلاثة أطوار: الطور اللاهوتيين والطور الفلسفي، والطور العلمي؛ وذلك على النحو التالي:

1- الطور اللاهوتي:

يقول الأستاذ سليوم: في السياق العربي دائما ما كان العقل الفقهي هو العقل الأول، الذي يتصدر المشهد في فهم الظواهر الطارئة على المسلمين، واتخاذ موقف منها قبولاً أو رفضا، وتكثر الشواهد التاريخية على ذلك الانفعال الفقهي مع مستجدات كل عصر، ويكفي أن نضرب مثالا باستقبال العقل الفقهي للدراجة الهوائية التي تم تحريم الركوب عليها باعتبارها "حصان إبليس"، مما يوضح طبيعة انفعال العقل الفقهي مع الظواهر الطارئة الذي يتسم في الغالب بالرفض والعدائية. واستمراراً لتصدي العقل الفقهي في استقبال السياق العربي- الإسلامي للمستجدات، فما إن شاع خبر جائحة كورونا في البلدان المسلمة، حتى ظهر سيل من التحليلات التي توعز انتشار الجائحة إلى غضب إلهي حل علي الأرض، حيث يرد العقل اللاهوتي أسباب ذلك إلى الانتشار إلى شيوع الزنا، مصداقا للحديث: " الْتَقَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ، فَقَالَ كَعْبٌ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِذَا رَأَيْتَ السُّيوفَ قَدْ عَرِيَتْ، وَالدِّمَاءَ قَدْ أهرقت، فَاعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ قَدْ ضُيِّعَ، وَانْتَقَمَ اللَّهُ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِذَا رَأَيْتَ الْوَبَاءَ قَدْ فَشَا فَاعْلَمْ أَنَّ الزِّنَا قَدْ فَشَا، وَإِذَا رَأَيْتَ الْمَطَرَ قَدْ حُبِسَ فَاعْلَمْ أَنَّ الزَّكَاةَ قَدْ حُبِسَتْ، وَمَنَعَ النَّاسُ مَا عِنْدَهُمْ، وَمَنَعَ اللَّهُ مَا عِنْدَهُ (23).

ويؤكد أن هذا فيما يخص السبب الذي ارتآه العقل اللاهوتي لجائحة كورونا. أما فيما يخص التدابير الوقائية التي انخرطت فيها مختلف الدول بناء على توصيات منظمة الصحة العالمية المتعلقة بضرورة اتخاذ تدابير الحجر الصحي، فقد سارع العقل اللاهوتي إلى الكشف عن السبق الإسلامي فيما يخص ذلك الحجر من خلال الحديث النبوي: " " الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ، ابْتَلَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ نَاسًا مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ، فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَفِرُّوا مِنْهُ " (24).

هذا التفاعل الرائج في الأوساط العربية الإسلامية الذي يشيع تداوله في منصات التواصل الاجتماعي، يحيل إلى أن الإنسان العربي يبحث عن إجابات دينية لكل مستجد يطرأ عليه قبل أي إجابات أخرى قد تكون أكثر إلحاحا في الظرف الطارئ، كالحاجة للإجابة الطبية والعلمية فيما يخص جائحة كورونا (25).

2- الطور الفلسفي:

وهذا الطور في نظر الأستاذ سليوم يعول على نظرية المؤامرة، وهذه النظرية قد لقيت رواجا كبيراً في التعاطي العربي خاصة والعالمي عامة مع جائحة كورونا، إذ طالما تم الاعتماد على هذه النظرية لإيجاد تحليلات وتفسيرات للأحداث السياسية والاجتماعية، واعتبارها مؤامرة من تدبير الدول العظمى ضد الشعوب المستضعفة. النظرية نفسها تم إعمالها من أجل تحليل وتفسير هذه الجائحة التي انتشرت في العالم بسرعة مخيفة، وأثرت في مختلف ربوع المعمورة بشكل غير مسبوق، ليسيل كثير من الحبر يتحدث عن مؤامرة عالمية، لم يتم الاتفاق بعد على أطرافها، حيث يتحد القوى العالمية الخفية التي تحكم الأرض ضد الإنسانية جمعاء، من أجل إبادة كثير من البشر، وخصوصا الذين يعانون من أمراض مزمنة ما يجعلهم يثقلون كواهل الدولة بالنفقات الصحيةـ كما أنهم أقل مساهمة في إنتاجية الاقتصاد العالمي (26).

وهناك رأي آخر يتحدث عن مؤامرة أمريكية ضد الصين التي أصبحت تهدد الولايات المتحدة للاقتصاد العالمي، وقد زاد من رواج هذه الفرضية كما يذكر الأستاذ سليوم تصريح "تشاو لي جيان"، المتحدث باسم ة وزارة الخارجية الصينية، تمسكه براويته الأولي، معلنا عن وجود إثباتات تؤكد أن هذا الفيروس تم اختراعه وتطويره من قبل علماء أمريكيين عام 2015. ما يمكن أن نقوله بهذا الصدد، هو أن نظرية المؤامرة تبقى نظرية مائعة لا يمكن إثباتها إلا بقدر ما يمكن نفيها، ومن ثم تفتقد هذه النظرية لأساس علمي متين يمكن أن تقوم عليه، كما أن الجانب "الدرامي" فيها يبقى واضحا، خصوصا مسألة وجود يد خفية تعبث بالعالم ما يجعلها أقرب إلى أن تكون فيلم خيال شيق، أكثر منها بالعالم ما نظرية علمية معتبرة (27).

3- الطور العلمي:

وهذا الطور في نظر الأستاذ سليوم يعول على نظرية " تأثير الفراشة"، هي نظرية تنتمي أساسا إلى "الفيزياء الكمية"، التي يتم التعبير الأدبي عنها لتقريب المعنى أنها زفة جناح فراشة فوق أحد سهول سيبيريا قد تؤدي إلى أعاصير مدمرة في أمريكا، فتغيرات أولية طفيفة تقلب النتائج رأسا على عقب.. "(وقد تم استعارة هذه النظرية من الفيزياء المعاصرة من قبل مجموعة من العلوم الإنسانية، يأتي على رأسها، الدراسات المتعلقة بالعلاقات الدولية التي تحاول أن تجد مقتربا نظريا يساهم في قراءة وتحليل الأحداث الدولية المترابطة من قبيل: "نشوب حرب في الشرق الأوسط، أو مظاهرات أو احتجاجات، تؤدي بشكل مباشر في ارتفاع أسعار النفط أو انهيار البورصة في أي مكان من العالم". يمكن أن نجد لهذا المقترب النظري مصداقية معتبرة عند تطبيقه على جائحة كورونا: "أدي ترويج بائع صيني في سوق شعبي بمدينة" ووهان" للخفافيش والزواحف والقوارض، وتناول صيني آخر لوجبة من تلك الكائنات، إلى انتشار وباء تحول إلى جائحة انتشرت في مختلف أرجاء الأرض، وأحدثت تغييرا على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية" (28).

6- كورونا والنموذج الأخلاقي الجديد:

في دراسة للأستاذ عبد الصمد زهور بعنوان "واقعة كورونا أو في ضرورة أنموذج أخلاقي جديد"، أكد على أن العمل بقواعد الأنموذج الأخلاقي الكلاسيكي أحدث أزمة متعددة التجليات على رأسها الأزمة البيئية، بحيث تبخرت مقولات السيطرة على الطبيعة وأصبح المطلوب هو السيطرة على السيطرة ذاتها، لكيلا تسيطر الطبيعة على الإنسان وتؤدبه بآلياتها الخاصة، ومنها واقعة كورونا التي لا يجب أن تقرأ منعزلة عن هذا السياق العام، خصوصاً في ظل احتمال أن يكون الفيروس نفسه صنعاً بشرياً. لقد آمن الإنسان بقدرته على إخضاع الطبيعة إيماناً مطلقاً، وفرح بإنجازاته العظيمة، غير أنه تجاوز الحد المسموح به طبيعياً، محدثاً أشكالا شتى من الخراب في ظل رؤيته لنفسه بوصفه غاية ولبقي عناصر العالم بوصفها وسائل يفعل بها ما يريد (29).

وهذا التوجه في نظر الأستاذ زهور قد عزز منظومة أخلاقية أنانية تمحورت حول الإنسان فقط وترسخت فلسفياً منذ أرسطو إلى حدود كانط، ومن بين أشكال الخراب المقصودة: مشكلة التلوث العالمي، وارتفاع درجة حرارة الأرض بسبب تزايد انبعاث الغازات السامة، وتفشي الأمراض المزمنة في الدول الصناعية، وفي الدول الفقيرة، وثقب الأوزون...، وغيرها من أشكال الخراب التي تقلب الطاولة على الإنسان ليصير مُسَيطراً عليه بعد أن مُسيطرا (30).

وعلى هذا النحو يقول الأستاذ زهور: " ظهرت في الآونة الأخيرة مجموعة من الأصوات دعت الإنسان إلى التخلي عن طموح السيطرة وتعويضه بفكرة الانسجام مع الطبيعة، بحكم أن الإنسان جزء من الطبيعة ومحاولة سيطرته عليها، إنما هي على الحقيقة سيطرة عليه هو نفسه بشكل أو بآخر، فظهرت في هذا السياق توجهات بحثية رفعت شعار "حقوق الحيوان" قبل أن تتحول إلى نزعة إيكولوجية جذرية تطالب بتجاوز الأنموذج الأخلاقي الكلاسيكي الذي يقوم على مبدأ التراتبية بجعل الإنسان أفضل من الحيوان، والحيوان أفضل من النبات، وهذا الأخير أفضل من باقي العناصر الطبيعية، فقد صار هذا التوجه قبيحاً من منظور فلسفي- أخلاقي بيئي (31).

ويستطرد الأستاذ زهور فيقول: " إن تأخر ظهور هذه الأصوات الفلسفية- الأخلاقية جاء نتيجة تأخر اتخاذ المشكلات التي أفضى إليها نزوع الإنسان إلى السيطرة على الطبيعة طابعاً كوكبياً، بحيث انتقلت من كونها مشكلات محلية أو إقليمية، إلى كونها مشكلات عالمية تهدد وجود الجنس البشري على ظهر الكوكب، مثلما هددت أنشطته العديد من الكائنات الحية، وتسببت في انقراضها، أو وقوفها على شفا حفرة من الانقراض، فضلاً عن قطع الأشجار المبالغ فيه وتصحر العالم بالمعنى الأخلاقي على حد تعبير الفيلسوفة الألمانية- الأمريكية- "حنا أرندت" Arendt Hannah قبل أن يتحقق هذا التصحر فعليا بالمعنى البيئي الطبيعي (32).

وهنا يؤكد الأستاذ زهور فيقول: "لا بد إذن من تأسيس أنموذج أخلاقي جديد، وهو ما عبرت عنه (كما يقول) جاكلينروس Rose Jacqueline بسؤال استنكاري قائلة "فكيف لا تستلزم هذه الأخطار القاتلة أخلاقا نظرية جديدة إجرائية ومنيرة في السياق المعاصر؟؛ أخلاقا تفضح العدو الموجود داخلنا لا خارجنا، وترسخ وعياً بيئياً، وبيولوجياً، وطبيعياً، لا يُبعد الإنسان من الطبيعة بقدر ما يقربه منها، ليستعيد مناعته الطبيعية ضدا على كل أشكال التأديب التي يمكن أن يؤدي إليها بعده عنها واستعداءه لها، وعلى رأسها فيروس كورونا، بما هو آلية من آليات الطبيعة في الدفاع عن نفسها ضدا على جشع الإنسان، وهو الأمر الذي نلمسه اليوم من خلال أشكال تعافي الطبيعة خلال فترة الحجر الصحي، بحيث تحررت كثير من الحيوانات من سلطة الإنسان بأن تكاثرت وصارت تتجول في الأماكن التي كان الإنسان قد جعلها خالصة لنفسه، في الوقت الذي بقي يراقب هو ذلك من نوافذ المنازل، فيما يشبه تبادلاً للأدوار، حيث خروج الحيوانات من الأقفاص ودخول الإنسان إليها، هذا دون الخوض في اتهام الإنسان للخفافيش بنشر الفيروس فيما يشبه تشبثاً مبالغاً فيه بالأنموذج الأخلاقي الكلاسيكي الأناني الذي يوجه أصابع الاتهام لغير الإنسان حتى لو كان الإنسان هو المتهم الحقيقي (33).

إننا إذن بحاجة ماسة كما يقول الأستاذ زهور: " لتطوير وعي بيئي وبيولوجي يقرب الإنسان من مختلف الكائنات التي تتقاسم معه خاصية الوجود على كوكب الأرض، ولا بد من ترجمة هذا الوعي إلى قواعد ملزمة أخلاقياً، بل وسياسياً عبر نقل الطموح السياسي من التعاقد الاجتماعي إلى التعاقد الطبيعي، وهو ما دعا إليه فعلاً الفيلسوف الفرنسي "ميشيل سير Michel Serres، ودعت إليه الفلسفة الأخلاقية البيئية بما هي جزء من مبحث الأخلاقيات التطبيقية المعاصرة، من خلال تبنيها لترسانة مفاهيمية تجديدية منها على سبيل المثال: الحكومات الخضراء، الاقتصاد الأخضر، العدالة البيئية، الطاقات المتجددة، المساواة البيئية، الإنصاف البيئي، التعاقد الطبيعي... وغيرها من المفاهيم التي تروم إنصاف باقي الكائنات عبر تقريب الإنسان من أصله الطبيعي، وإعادته إلى أحضان الطبيعة، خصوصاً بعد أن بدأت هذه الأخيرة تؤدب الإنسان بأن تضعه في عمق الأزمة بوصفه، كما هو الشأن من خلال عجزه الظاهر أمام تفشي فيروس كورونا في جميع مناطق العالم، شأنه شأن مختلف العناصر المشكلة للأزمة البيئية التي يعيشها بشكل أكثر حدة منذ مطلع الألفية الجديدة (34).

ويستطرد الأستاذ زهور فيقول: " لقد ساهم فيروس كورونا في استعادة الطبيعة لعافيتها، فبالإضافة إلى التكاثر اللافت للانتباه لأسماك البحار وتحرر الكثير من الحيوانات وتوالدها على نحو غير مسبوق في الحقبة المعاصرة، هنالك أيضا حديث عن انسداد ثقب الأوزون من جراء تراجع النشاط الصناعي الإنسان الملوث للبيئة، وكأن الطبيعة تمنح من خلال فيروس كورونا الحياة من جديد للإنسان، خصوصا الأجيال المقبلة باعتبارها أجيالاً لم تسهم في خلق الأزمة، لكنها مطالبة بتحمل مسؤولية جشع إنسان العصر الحالي، لذلك فالأخلاق البيئية والأنموذج الأخلاقي الجديد هو أنموذج مستقبلي؛ بمعنى أن نتائجه الإيجابية ستظهر مستقبلا وهو ما يتطلب التحرر أولاً وقبل كل شيء من أنانية إنسان العصر الحالي، ليس في علاقته بغيره من الكائنات فقط، بل في علاقته بأبنائه وأبناء أبنائه، وهو الأمر الذي نبه إليه الفيلسوف الألماني "هانس يوناس" Jonas Hans في كتابه "من أجل أخلاق مستقبلية" (35).

ويخلص الأستاذ زهور فيقول: ليست الدعوة إلى العمل بقواعد منظومة أخلاقية جديدة تبعد الإنسان عن نزعة السيطرة على الطبيعة، دعوة إلى إيقاف وتعطيل النشاط الإنساني، بل هي دعوة إلى تطوير وعي بيئي قادر على تكييف النشاط الإنساني مع متطلبات الحفاظ على الطبيعة بمختلق العناصر المشكلة لها، سواء منها الحية أو غير الحية أو تلك التي تعد شروطاً ضرورية للحياة، وهذا هو ما سماه الفيلسوف والسيكولوجي "فليكس غاتاري Guattari Félix بالحكمة البيئية التي ينبغي أن تترجم إلى أخلاق سياسية بيئة (36).. وللحديث بقية,,

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.......................

هوامش المقال:

16-حسين لوكيلي: عزلة الروح وسلوك الأخلاق في زمن الحجر الصحي، مجلة روافد للدراسات والأبحاث العلمية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، المركز الجامعي بلحاج بوشعيب عين تموشنت، مج4 ,ع2، 2020، ص41-42.

17- المرجع نفسه، ص 47.

18- المرجع نفسه، ص 48

19- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

20- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

21- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

22- المرجع نفسه، ص 49.

23- عثمان سيلوم: فيروس كورونا: غضب الإله وذعر الإنسان وهيبة الدولة، باحثون: المجلة المغربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، عياد أبلال، العدد 12، 2020، ص 313.

24- المرجع نفسه، ص 314.

25- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

26- المرجع نفسه، ص 315.

27- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

28- المرجع نفسه، ص 315.

29- عبد الصمود زهور: واقعة كورونا أو في ضرورة أنموذج أخلاقي جديد، باحثون: المجلة المغربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، عياد أبلال، العدد 12، 2020، ص 305.

30- المرجع نفسه، ص 306.

31- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

32- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

33- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

34- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

35- المرجع نفسه، ص 307.

36- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

 

 

في المثقف اليوم