أقلام فكرية

محمود محمد علي: التحولات الفلسفية في ظل جائحة كورونا (3)

محمود محمد عليبعد هذه الجولة التي خضناها في المقالين السابقين يمكن لنا الوصول لأهم النتائج وذلك علي النحو التالي:

1- إن جائحة كورونا في الوقت الذي أقامت الحد على العولمة الليبرالية، وزلزلت أركانها، أطلقت عولمة من نوع جديد؛ هي عولمة التباعد بعد تواصل، والتشظي بعد وحدة، والخوف من الفقر والرفاه المرهوم. تلك هي الهواجس التي أخذت تعصف بدوائر الفكر والتخطيط على نطاق العالم كله. لقد انتهت العولمة بصيغتها النيوليبرالية من قبل أن تحكم عليها جائحة كورونا بالسقوط المبرم. لكن اليوم تبدو البشرية أمام أفق مفتوح على تغير هائل تجد نفسها مجبورة عليه. وهذا أمر عادي في قوانين فلسفة التاريخ؛ حيث نجد أن الطبيعة الصامتة تتدخل أحياناً وعلى حين بغتة في المصير البشري، وتفرض على أهل الأرض نمط حياة ما كان ليخطر على بال إنسان. ولذلك وجدنا من مفارقات كورونا أن الناس في زمن العولمة والضجيج الآلي، والصخب التسويقي، كانوا في غمة تلاصقهم الاجتماعي يعانون آلام الفردانيات المنعزلة، المنطوية، المنكفئة، فيما الناس اليوم في صميم عزلتهم الحجرية يعززون قيم التواصل البُعدي الشاسي، ويثمنون فضائل البوح العفوي المتلهف، ويستثمرون طاقات التعاطف الرحيم. وقد يأتي ذلك كله من العزم على أنسنة العمل وضبطه على إيقاع الطبيعة البليغة بصمتها، والزمان النابض بسكونه، والكائنات المهمة بخفرها. علاوة على أن جائحة كورنا ستقوي دور الدولة القطرية، وتعزز القومية، وستبني الحكومات، بجميع أنواعها، إجراءات طارئة لإدارة الأزمة، وستُكره الكثيرين على التخلي عن هذه السلطات الجديدة عند انتهاء الجائحة، والتي يَتَوَقَّع أن تسرع من تحول السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق؛ فعلى سبيل المثال استجابت كوريا الجنوبية وسنغافورا بشكل أفضل للجائحة، فيما ردت الصين بشكل جيد بعد تجاوز أخطائها المبكرة. لكن الاستجابة في أوربا والولايات المتحدة، كانت بطيئة وعشوائية بالمقارنة مع دول الشرق الأقصى، ما زاد من تشويه هالة " العلامة التجارية " الغربية.

2- لقد كشفت لنا جائحة كورونا أنها ليست منعزلة عن سياق التحولات الكونية الخطيرة، فكل عناصر الكون يقترن بعضها ببعض اقتران العلة بالمعلول، والحياة الكونية تمثل شبكة من الارتباطات العميقة تنشط من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، فتؤثر تأثيراً بالغاً في توجيه الحياة الإنسانية، وضبط تموجاتها، واستثمار تفاعلاتها، ومن المحزن أن أطوار الفكر الإنساني الراقي، وهو ما يُدْعَى بالإنسية المتجلية في جميع هذه البلدان ؛ ولا سيما في القارة الأوربية، خنقتها الانحرافات الاقتصادية، والسياسية التي أصابت الوعي الإنساني فرداً وجماعة. ومن المفيد في زمن الخلوة الكورونية أن نستذكر أقوال الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859-1938) في وصيته الفلسفية التي نُشرت بعد وفاته عنواناً بليغاً أورد الجزء الأول منه: أزمة (Krisis) العلوم الأوربية؛ وفي اعتقاده أنها أزمة ناشئة من التناقض بين علوم الطبيعة وعلوم الحياة الإنسانية. فالعلم الحديث لا يستطيع أن يشفي الوعي الأوربي؛ إذ هو سبب من أسباب الأزمة الأوربية، يجر في تطبيقاته التقنية على أوربا أبشع أصناف البربرية.

3-لقد ساهمت جائحة كورنا إلى إعادة الخطاب الديني إلى الواجهة، عدا عن أسئلة كثيرة تتعلق بالتجديد فيه إذ يعيش الخطاب الديني الآن في العالم بمختلف أشكاله، العودة السريعة إلى الحياة، خصوصاً أن المتعصبين والمتدينين ينظرون إلى جائحة كورونا على أنها تمثل عقابا علي الخطايا، وإن تفاوت ذلك بين مختلف التوجهات الدينية، إلا أن الرغبة البشرية في ثنائية الخير والشر، يجري التعبير عنها بمختلف التوصيفات، ولذلك فإن من جملة الأمور الذي يمكن إدراجها ضمن البعد الأيديولوجي، مسألة التجديد في الخطاب الديني الذي فرض نفسه على إثر الجائحة ؛ إذ اعتقد البعض أن جائحة كورونا بما تحمله، وما أدت إليه من إغلاق المساجد، وإيقاف النشاطات الدينية، ساهمت في إصدار الكثير من الفتاوي التي رآها البعض مستغربة ومستغربة لتعارضها مع العلم والقيم، وما شابه ذلك، عدا عن تضاربها وتعارضها فيما بينها، وهذا يدعو إلى الشروع بعملية تجديد الخطاب الديني، وهذا التجديد يجب أن يضع ضمن أولوياته فقه النوازل والمستجدات.

4-لعل من أوضح التحولات التي فرضتها جائحة كورونا هو التحول على مستوي القيم السائدة، وإذا كانت القراءات الحديثة للجائحة تتراوح في تحليلها بين الـتأكيد على الاضمحلال الأخلاقي والقيمي، وبين التأكيد على بروز قيم جديدة هي من مقتضيات المرحلة، إلا أن الإنسان قد يتأقلم مع الواقع القيمي الجديد على مستوى تعويم القيم التي تأخذ الإنسان إلى فهم جديد لضرورة تمتين العلاقات القيمية بين البشر، كونها المثال الأبرز لانتشار القيم. في مجمل الأحوال، ينحو بعضهم نحو القول بضرورة وحتمية التغيير في نمط الحياة الذي يحمل معه قيماً جديدة، قد لا تتنافى مع القيم الأخلاقية الإنسانية، بل تدعمها وتساندها، معتمدة في ذلك على ضرورة التضامن البشري للمواجهة ؛ علاوة على التغيير في نمط الحياة، إذ تبين للكثيرين أن التباعد الاجتماعي بين الناس قد جعلهم أكثر قرباً علي المستوي النفسي حول العالم، كما بات من الواضح أن التوجه نحو المعنويات والروحانيات هو الاتجاه المهيمن علي السلوك البشري بعد الجائحة، وهذا يعني أن العجز البشري قد دفع نحو البحث عن إجابات، هي ليست من إنتاج الحضارة المادية الجديدة، بل من إنتاج الأديان السماوية.

5- أعاد انتشار جائحة كورونا طرح أسئلة فلسفية مهملة عن مقدار معرفة العلوم الدقيقة بالظواهر الطبيعية، ومعرفة العلوم الاجتماعية، والإنسانية بالفرد والمجتمع والسياسة، بل قُدمت براهين على محدودية النماذج العلمية في استيعاب المتغيرات المطلوبة لاستشراف الظواهر قبل حصولها وفهمها عند الحدوث. وينم ادعاء قدرات تفسيرية فائقة وأبدية للنماذج والنظريات، ولا سيما في الحقول غير التجريبية، عن غرور العقل، ونقص في التواضع المعرفي، والإنسان مدعو إلى صرف جهد إضافي في تفسير التاريخ والوقائع الاجتماعية والتأقلم معها، عوضاً عن زعم امتلاك موهبة إخضاع كل شيء لسلطته. كما تبين لنا أن الدور الرئيسي للفلسفة السياسية هو إذا المساهمة في بناء مساحات مشتركة في المجتمع، بشأن الأسئلة العالقة كالمذكورة في مقدمة هذه الورقة، وهذا بالتكامل مع أدوارها الأخرى، المتمثلة في وضع أهداف سياسية " عقلانية" للمجتمع، تجسد التسوية بين تصوراتنا المطلقة عن الخير والجمال والقيم من ناحية، والأسس العقلانية التي تقوم عليها مؤسساتنا السياسية من ناحية ثانية، وهو ما يأتي في إطار استكشاف طوباوي لحدود الإمكان السياسي. فمما كشف عنه الوباء أن علوم الإنسان والمجتمع، لم تتطور بما فيه الكفاية لجعل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية قادرة على إقامة التسوية المرجوة ما بين العقلانية المؤسساتية ومنظوراتها المسبقة والمتفق لما خير وصحيح وعادل.

6-أعادت جائحة كورنا إلى الواجهة سؤالاً فلسفياً مهماً، يتمحور حول حقيقة الإنسان وماهيته الأنطولوجية وعلاقته بالطبيعة، بعدما اكتشف ضعف سيادته المزعومة وتهافت الأطروحة الفلسفية الديكارتية القاضية بمركزية الإنسان وسيطرته المطلقة علي العالم بفضل عقله الأداتي وتطوره التقني ؛ بعد أن تبين له أن جائحة كورونا لم تكن فقط فيروساً قاتلاً، بل امتحان طبيعي – كوني ليستعيد الإنسان علاقته الصحيحة والسلمية مع الوجود ومكوناته، وليدرك كذلك أنه كائن طارئ زائل يتحتم عليه أن يلتقط الرسالة جيداً، وأن يعرف موقعه في العالم ومعني وجوده ووظيفته الاستخلافية وغايته الوجودية، وهي محاور رئيسة تمثل حقيقة أسسه في زحمة الأيديولوجيات المائتة والفلسفات المادية التي اكتشف عورها كما يري موران في كتابه " إلى أين يسير العالم"، إذ اعتبر أن الإنسان المعاصر ما يزال يئن تحت وطأة العنف والدمار، ولم يقض بعد على الوحشية الاستهلاكية. وتهاوت مقولات العولمة وشعاراتها، بسبب الرأسمالية المتغولة كما يعبر موران دائماً، والتي خلقت مشاكل جمة يعانيها الكوكب الآن، وأهمها تدمير البيئة وتعميق الهوة بين الطبقات الاجتماعية، فضلاً عن تأزيم العديد من الأنظمة السياسية الديمقراطية كما تعطلت القيمة الإنسانية النبيلة، التي لا مناص منها لترسو سفينة البشرية على بحر السلام، وتثق في مستقبلها.

7- إن جائحة كورونا لحظة تاريخية مهمة ليصحح الإنسان علاقته بذاته؛ كي يؤمن بحقيقة وجـوده ويعترف بضعفه وعجزه ويقفل باب "سيادته" المزعومة ويرجع لنفسه منتقدا "جشعها الاستهلاكي" "وأنانيتها المستعلية" ومختلف "العادات الجارفة" الحاطة من قيمته. لذا فهو بحاجة ماسة إلى فلسفة جديدة تؤطر تعامله مع العالم المادي والرمزي المحيط به، ولا سيما الذي تعكسه أفعاله وأقواله وأفكاره ومختلف أشكال تفاعله. ثم أخيرا هي فرصة كذلك لتشييد عمران أخوي على أرضية أخلاقية كوكبية تتجاوز جغرافيا المعتقد وفجاج الفكر ومشوشات الأدلوجة. ففي ظل تصاعد المخاطر المهددة للوجود البشري والطبيعي، أصبح من الضروري الانكباب على رسم خارطة أخلاقية كوكبية تنقد السفينة من الغرق، في إطار من العدل والمساواة، وحينها يمكن للجميع أن يسلم من الحروب والصراعات المعكرة لصفو الأمن، والمهددة لأي تماسك منتظر. لا مناص إذاً من التعاون والتآلف والتآزر، فالجائحة بينت الحاجة إلى القيم الإنسانية الراقية، ونبذ كل مظاهر "الأنانية الاستهلاكية"، والجشع، والتهافت والصراعات السياسية والاقتصادية... إن العالم بعد جائحة كورونا، بلا شك سيكون مختلفاً عما قبلها، ونأمل أن يكون التغيير للأفضل، وتفكر "المنظومة الرأسمالية" في ذاتها بالمعنى الـمـزدوج للنقد، وتؤسس في ضوئها علاقات دولية تنتصر للمصالح الإنسانية المشتركة، بعيداً من المصالح السياسية المتقلبة والرهانات الأيديولوجية المتموجة. ولا يمكن أن يتحقق هذا الرهان إلا بإحداث قطيعة مع ماضي "الحداثة" البئيس، ومفارقاتها السوسيولوجية وتناقضاتها الثقافية الملتبسة.

8- أعادت جائحة كورونا الاعتبار إلى الفلسفة، بعدما تجددت المواجهة القديمة بين الإنسان والطبيعة، فقد كان هذا الصراع على مدى حقب زمنية مختلفة جوهر ديناميته. وأعاد الاعتبار إلى الفلسفة بدوره، وفي عز هذه الأزمة، تعريف علاقة الإنسان بالحياة بصورة معقدة، وبث الروح في الدهشة أمام الظواهر والموجودات، بشكل يدفع الإنسان إلى التوقف أمام معنى أو لا معنى ما يظهر على سطح العالم، للغوص في كنهه ومساءلة حقيقته. ولطفت من تشنج العلاقة القائمة بين الناس والفلسفة، فقد اقترنت في أذهان الأغلبية بالتعقيد والغموض، حتى إنهم يقولون عمن يتكلم بغير بيان بأنه يتفلسف، أي يقول كلاما لا يفهمه إلا خاصة الخاصة. فالفلسفة حتى في أنظار المتعلمين مادة عسيرة ومعقدة، أشبه ما تكون بكتلة مجردة، تستعمل خطابا ومفاهيم بعيدة كليا عن الحياة الفعلية واليومية للإنسان. فقد تابع الجميع كيف ساعدت الفلسفة، بأدواتها وطرائقها، العالم على المضي قدما، من خلال تحفيز التفكير النقدي في المشكلات الموجودة. وأزالت سوء فهم العامة للفلسفة والفلاسفة، بإتاحة الفرصة أمام الجميع لمعرفة حقيقة الأسئلة الفلسفية، لقد تحول التساؤل الذي تعاب الفلسفة بإثارته في كل وقت وحين إلى أعز ما يطلب في زمن كورونا، بعدما أيقنت الإنسانية أن الأزمات ما هي إلا أسئلة كبرى، تطرحها الطبيعة علينا، وتنقسم بدورها إلى أسئلة تحتاج إلى إجابات وافية، وأخرى تدفع بشكل أو بآخر نحو التأمل، لإعادة قراءة أوضاع العالم، في ظل الأزمات الملحة التي تجتاح حياتنا دون أسباب مسبقة. ودفعت الإنسانية إلى إعادة الاعتبار لمفاهيم طالما سأجل بشأنها الفلاسفة، دون أي عناية ولا اهتمام، حيث عد العامة كلامهم مجرد سفسطة. أدرك من عاش لحظة كورونا ما معنى الحرية والحق في الحياة.. وما مدى قوة الطبيعة وضعف الكائن البشري، فكلما اعتقد الإنسان أنه تقدم وتطور، وتبدّى له أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من الإمساك بالطبيعة والتحكم فيها، وتسخيرها لخدمته، تباغته مذكرة إياه بحجمه وقدرته، ومدى هشاشته وضعفه.

9- لقد كشفت لنا جائحة صدق قول أستاذنا الدكتور مصطفى النشار في مقالاته الأخيرة في جريدة الوفد المصرية الذي كثيرا ما أكد بأن العلاج بالفلسفة ربما يكون أشد نجاعة في مثل هذه الظروف التي يواجه فيها الفرد المنعزل المعزول أعراضا مثل هذه المخاوف المقلقة ربما لأنها تتعلق بمجهول لم يستطع الإنسان بكل تقدمه وجبروته العلمي أن يتعرف على هويته الحقيقية بعد! إن فلسفة كل هذه المخاوف والتخلص منها يكمن في أن ينظر الإنسان إلى هذه الجائحة وأمثالها مما يخفيه القدر على المستوى الفردي والجمعي نظرة أكثر شمولاً ورحابه وأن يحاول تغيير نمط تفكيره التشاؤمي هذا تجاه أي من الظواهر المقلقة والأحداث المؤلمة. لقد عاش البشر في الأزمان السابقة الكثير من الأزمات والجوائح وواجهوها بالصبر عليها وتغلبوا عليها في النهاية بسلاحي التأمل والعلم. وكم كان فلاسفة الرواق في العصر الروماني رائدين ومؤسسين لأهمية التأمل العقلي والنظرة الشمولية والعلاج بالفلسفة.. أنظر إلى "أبكتيتوس" أحد أعلامهم (توفى 135م) وهو يقول: إن العالم الذي ندركه يبدو أو يظهر لنا وفق أفكارنا ووفقا لما نتعرف عليه بوجه عام. إن هذه الجملة البسيطة تحمل جوهر ما ندعوه اليوم العلاج بالفلسفة، فإذا ما أراد الإنسان أن يغير حياته ويحولها من حال إلى حال فما عليه إلا أن يغير أفكاره ونظرته إلى هذه الحياة، ما عليه إلا أن يوسع من عقله وفكره فلا يقف عند النظر في الجوانب السلبية في أي ظاهرة أو أي مشكلة يواجهها، إذ إن أي ظاهرة من هذه الظواهر لها جوانبها الإيجابية بقدر بل ربما أكثر من جوانبها السلبية، وفي هذا الاعتقاد البديهي تكمن إمكانية إعادة صياغة التفكير في حل أي مشكلة يواجهها الإنسان حيث سيعيد صياغتها والنظر إليها من منظور أكثر شمولاً ليكتشف جوانب إيجابية ينفذ منها إلى شعور أكثر تفاؤلا وأكثر إيجابية إذ أنه لا مشكلة بلا حل. . وعن إعادة صياغة تفكيرنا إزاء أي مشكلة يمكننا أن نفكر فيها على النحو التالي الذي رسمه لنا (إدموند ج. بورد) وأمثاله من المعالجين بالفلسفة: علينا التسليم بأن المشكلة بكل تداعياتها ستأخذ وقتها وتمضي، كل ما هنالك أن علينا أن نأخذ وقتنا لحلها والتغلب عليها إذ إنه وكما قلنا سابقا لا مشكلة بلا حل. ولنعترف أنه من الجيد أن نخفف من وطأة الموقف علينا بأن نجد فيه بعض الطرافة والفائدة. وننظر فيما يمكن أن نتعلمه من هذه المشكلة ونحن نعمل على مواجهتها وحلها ونوسع دائرة تعاطفنا وشعورنا بالشفقة تجاه من يعانون من نفس المشكلة وعلينا دائما أن نعلم بأن المشكلة – أي مشكلة ليست بهذا القدر من السوء الذى تصوغه أفكارنا إزاءها، وعلينا أن ندرك أن ما يزعجنا أو يخيفنا أو يقلقنا ليس هو أسوأ شيء في الحياة على أية حال، وعلينا أن نثق في حتمية حل المشكلة وزوالها أيا كانت ومهما كانت تداعياتها., وعلينا أن نثق عموما بأن المشاكل أيا كانت تحل نفسها بنفسها في النهاية على نحو أو آخر ومهما كانت الأضرار التي تترتب عليها. وعلينا التسليم من البداية إلى النهاية بأن كل شيء بإرادة الله الخالق وأنه القادر دوما على مساعدتنا وشمولنا برعايته وفضله. وهذا الأمر الأخير أيا كانت الديانة التي يؤمن بها المؤمن ستجعله أكثر قدرة على التكيف مع أي مشكلة مهما كانت خطورتها وتداعياتها، كما ستجعله أكثر ثقة في أن الله كما ابتلاه بالمشكلة سيساعده على حلها.

10- ليس من المبالغة في شيء القول اليوم بأنّ جائحة كورونا المستجد أخذت المشتغلين بالفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية على حين غرّة، وأرغمتهم على التفكير أو إعادة التفكير في العديد من الظواهر، من قبيل المرض والصحة، والسياسات الصحية والعمومية، والاقتصاد النيوليبرالي، والعلاقات بين الدولة والمجتمع، ومؤسسات الرعاية، ومستقبل المؤسسات التعليمية، والعمل، والأيديولوجيا التقنية، وأشكال التضامن، والبيئة وتغيراتها، والتقنية ومخاطرها، والأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة؛ أي في المصير الإنساني عمومًا. واختلفت أشكال التفكير والنظر في الجائحة، فمنها ما تحلّى بالحذر، مدركًا أن علينا تجنب إغراءات "التفلسف السريع"، لأن التفكير يحتاج إلى كثير من الوقت، سواء أكان فلسفيًا أم علميًا، من أجل معالجة كل المعلومات التي نتوصل إليها، وخصوصًا في أوقات الكوارث، ومنها ما انساق في تفكيره إلى نظريات المؤامرة وشعبويات اليمين المتطرف ووجدها فرصة لمهاجمة الديمقراطية، وصولًا إلى تلك "البكائيات" المرتبطة بأمراض الحضارة المادية، التي في نحيبها ونشيجها تؤكد مرة بعد أخرى ما ذهب إليه مارتن هايدغر من أننا لم نبدأ بعد في التفكير. علاوة على أن غموض الحاضر والشك في المستقبل، وما ستكون عليه الحياة بعد هذه الجائحة، هي العلامات الأساسية لهذه اللحظة الفارقة في تاريخ البشرية، وهي ما يتردد في جميع التعليقات والتحليلات والتنبؤات التي تتدفق كل لحظة في جهات الأرض الأربع. فلا أحد لديه جواب مقنع يشفي الغليل على ما سيكون عليه شكل الحياة بعد أسابيع، أو أشهر، أو سنوات، في غياب معرفة يقينية بصفات فيروس كورونا، أو طرق انتشاره، أو السبب الحقيقي لسرعة انتقاله، أو طرق الوقاية منه، أو علاجه، أو إمكانية اكتساب المناعة ضده إذا أصيب المرء به، أو انتقل إليه من غيره ولم تظهر عليه أعراضه. لا أجوبة لدى السياسيين أو المتخصصين في علوم الاقتصاد أو المفكرين وعلماء المستقبليات. والأهم من كل هذا أنه لا أجوبة يقينية لدى العلماء والأطباء، الذين يسابقون الزمن للعثور على علاج ناجع أو لقاح يقي من هذا المرض الذي يهدد حياة البشر جميعاً.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم