أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: السوفسطائية والسوفسطائيون الجدد

كان السوفسطائيون في الأصل حركة فكرية ضمت في صفوفها فلاسفة ومعلمين في اليونان القديمة في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد. كانوا متخصصين في واحد او أكثر من الموضوعات مثل الفلسفة، البلاغة، الموسيقى، الرياضيات. هم علّموا الفضيلة للشباب من رجال الدولة والنبلاء.

اعتقد السوفسطائيون بكمال الانسان، فجعلوا الانسان مقياسا لكل شيء. هم نشروا النسبية الأخلاقية والمعرفية، ذلك ان ما هو جيد ومفيد لأحد ربما هو شرّير ومؤذي للآخر. تعاليمهم تقضي بان لا وجود للأشياء. بالنسبة لهم الدين اختراع خادع من جانب الأقوياء للسيطرة على الضعفاء. هم شككوا بقيمة وبإمكانية المعرفة، وبدأوا بشك فلسفي متكامل. بدلا من التركيز على الحقيقة، هم كانوا اكثر اهتماما بالفوز في الجدال ضد المخالفين ومهما كلّف الثمن. هؤلاء السوفسطائيون كانوا فخورين في قدرتهم على تحويل الحجة الأضعف الى حجة أقوى. اعتمدوا على طريقتهم المقنعة والمضللة المرتكزة على المنطق والبلاغة وعلوم اللغة في إفحام الخصم وكسب الجدال. كان بإمكانهم مناصرة أي جانب يحقق مصالحهم او يدفع لهم الكثير.

حاليا، تشير كلمة سوفسطائي الى شخص ما يحاجج بشكل متعمد مستعملا حججا خاطئة او مضللة لكي يضلل الآخرين. بروتوغوراس كان من أبرز السوفسطائين القدماء، هو علّم التلاميذ فن المحاججة من كلا وجهتي النظر لأنه اعتقد ان الحقيقة لا تقتصر على جانب واحد من النقاش. هو القائل "الانسان هو مقياس كل شيء".

موقف افلاطون من السوفسطائيين

هاجم افلاطون السوفسطائيين بشدة لأنهم كانوا مهتمين بجمع الثروة والشهرة والمكانة الاجتماعية العالية. لاحظ افلاطون ان السوفسطائئن ليسوا فلاسفة. هو ادّعى ان السوفسطائيين يبيعون تعليما خاطئا للناس الأثرياء. هو وصفهم بـ "صيادو الشباب والنقود"، و"تجار المعرفة الزائفة" و"خبراء في رياضة الكلمات". كانت طريقة التعليم التي اعتمدها السوفسطائيون في اثينا في تضاد مع مدرسة افلاطون الفكرية. طبقا لحجج افلاطون، السوفسطائون لم يعلّموا "المعرفة الحقيقية" لأن اهتمامهم لم يكن حول بناء معرفة او المشاركة بها مع الآخرين. بدلا من ذلك، هم ارادوا ملأ صفوفهم بالطلاب الأغنياء لجمع النقود. تعليمهم كان مرتكزا على "آراء في الأشياء". افلاطون اعتبر هذه الطريقة بلاغية وليست فلسفية. طبقا لافلاطون ان السوفسطائيين ارادوا ان يجعلوا طلابهم يؤمنون بالرآي العام بدلا من تزويدهم بالمعرفة. تعليم البلاغة من جانب السوفسطائيين كان في تصادم مع فلسفة افلاطون. هذه القضية شكّلت الأساس في كراهية افلاطون للسوفسطائيين. رؤية افلاطون كانت ان البلاغة لها امكانية خلق كل من "الخير والأذى". هو اعتبر ان هناك مسؤولية أخلاقية. الأخلاق هي المظهر الأهم والأساسي في الحياة. الأخلاق هي خير كوني يجب ان يكتشفه الانسان من خلال اللغة. ارتكز نقد افلاطون للسوفسطائيين على ثلاثة اسئلة:

1- هو تسائل عن هوية البلاغة.

2- جادل ان البلاغة تضلل المجتمع لأنها لا ترتكز على المعرفة.

3- هو اعتقد ان أخلاق المجتمع تحطمت بالقناعات التي صنعها السوفسطائيون.

لمعالجة تلك الأسئلة، لاحظ افلاطون ان السوفسطائيين كانوا يستعملون اتجاها بلاغيا بدلا من الفلسفة، ولذلك هم فشلوا في توفير رؤية كافية وحقيقية للعدالة. فمثلا، السوفسطائيون علّموا الناس الـ "Doxa" او (الرأي العام والسمعة حول الناس والاشياء). غير ان الرأي العام يرتكز على الإقناع. وهكذا، كان هدف السوفسطائيين الإقناع بدلا من العثور على العدالة.

ثانيا، السوفسطائيون فشلوا في تطبيق المعرفة الحقيقية (episteme). جل اهتمامهم كان اقناع طلابهم بالإرتكاز على الرأي العام، ولهذا فشلوا في اكتشاف الحقيقة الإبستمية التي توفق بين القانون والعدالة. يمكن القول ان الفرد لايمكنه استعمال الرأي العام لتوفير العدالة. بدلا من ذلك، المعرفة يجب ان تُستعمل لتوفير العدالة.

كذلك افلاطون كره السوفسطائيين لانهم ادّعوا انهم يعلّمون العدالة بينما هم لا تتوفر لديهم المعرفة المطلوبة للتعليم. طبقا لإفلاطون ان العدالة هي معرفة، تتحقق فقط عبر التفاني والدراسة الشاملة. اكتشاف العدالة يتطلب استخدام فضائل وتفكير عميق . هو أعلن ان السوفسطائيين لم يهتموا بهذا المظهر للعدالة. بدلا من ذلك هم فبركوا أشياءً تُعرف بـ "kairos" وهي (تعريفات ملائمة نسبيا للسياق). ايضا انتقد افلاطون الفن البلاغي للسوفسطائيين. هذا الفن كان بمثابة "knacks" (طريقة ماهرة للعمل) بدلا من ان يكون فنا حقيقيا. الفنان السوفسطائي طبّق وعلّم مهارات وُجدت في الطبيعة وليست معرفة فنية مرتكزة على البحث.

السوفسطائية الحديثة

بعض المفكرين الحديثين رفضوا إدانة افلاطون للسوفسطائيين، واعتبروهم كثوريين طموحين. هنا يبرز السؤال ماذا يمكن ان يقدم السوفسطائيون للتعليم وللخطاب في القرن الواحد والعشرين؟ وهل السوفسطائيون هم حقا الشعار القديم لما بعد الحقيقة post truth (الموقف الذي يقبل فيه الناس الحجة وفقا لعواطفهم وعقائدهم وليس على اساس الحقيقة)؟ ومع ان السوفسطائيين لم يدّعوا الحقيقة لكن السياسيين من الشعبويين المعاصرين مثل الرئيس الامريكي السابق ترامب كان مهوساً في الحقيقة، وحتى أطلق على منصته الاجتماعية اسم "الحقيقة الاجتماعية" Truth social". ترامب طوال حملته الانتخابية رفض استخدام وسائل الاتصال الحديثة لنقل آراء الناس في محاولة لخلق انطباع بانه ناقل للحقيقة. الحقيقة كانت صفة مركزية في بلاغة ترامب. كانت لدى ترامب ثقة مطلقة وحصرية في الوصول الى الحقيقة. بالنسبة له، يرى نفسه هو المقياس الوحيد لكل الاشياء. عبارة "الحقائق البديلة" التي ظهرت لأول مرة في ادارة ترامب قد تبدو وبشكل مضلل أشبه بالطريقة السوفسطائية التي تسمح بادّعائين متعارضين اثنين ليظهرا في كل موقف. العبارة استُخدمت لتبرير البيانات الزائفة التي وفرها سكرتير البيت الابيض للاعلام Sean Spicer حول عدد الحاضرين في الحفل الافتتاحي لترامب. الفكرة جرى نقدها لأنها شكّلت تحديا خطيرا وسخيفا للحقيقة. الحقائق العددية لا جدال فيها، واذا أمكن التحقق منها فلايمكن ان تكون هناك بدائل. هذا الخطاب للحقائق البديلة والأخبار الزائفة هو في تضاد مع الممارسة السوفسطائية للحجج المتعارضة. اذا كان السوفسطائيون رغبوا في إثارة الانتباه لضرورة وجود ادّعاءات متنافسة في الديمقراطية، فان ترامب قدّم موقفا احاديا فيه مكان واحد فقط لحقيقة واحدة – حقيقته هو.

هناك من رفض الخلط بين السوفسطائية والكذب، فهي ليست لها علاقة بـ "الحقائق البديلة"، وان ترامب وأشباهه ليسوا سوفسطائيين. السوفسطائيون الأصليون الحقيقيون مقابل الديماغوجيين، كانوا بعيدين عن ترسيخ ثقافة الخداع والإستغلال. في الحقيقة، هم استخدموا أساليب يمكن ان تساعدنا في التعامل مع الحقائق المتنافسة في عصر المعلومات الذي يسعى فيه مزيد من الناس الى إسماع أصواتهم للعامة. تلك الطرق لم يُقصد بها إستبدال التحقق من الحقائق (fact-checkng)، انها تساعد في فحص معقولية الحجج ضمن سياقاتها. انها تتعامل خصيصا مع المواقف التي تكون بها الحقائق الواضحة جدا لايمكن بلوغها، حيث في تلك اللحظات لايمكن ان يساعدنا التحقق من الحقائق والمنطق الصوري في تقرير ما اذا كنا جرى التعامل معنا بإنصاف، او تعرّضنا للتضليل اوالخداع . يقول السوفسطائي جورجياس Gorgias، الناس لا يستطيعون تذكّر كل الماضي، ومعرفة كل الحاضر، والتنبؤ بكل المستقبل، لذا فان قدرتهم للوصول الى استنتاجات نهائية هي محدودة. هذا ربما يجسد الموقف اليوم عندما تكتسحنا الكميات الهائلة من البيانات، والتي رغم خدمة الانترنيت السريعة لكن لايمكن لها استبدال الأحكام الذاتية للانسان وعملية اتخاذ القرار في المواقف المعقدة.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم