أقلام فكرية

اسعد شريف الامارة: لغة النفس

(ما يقبع في اللاّشعور هو ما تنحني أمام سلطانه رقاب النّاس)... فتحي بن سلامة

هي لغة التحليل النفسي .. اللغة هي مفتاح معرفة النفس وفي ذلك يقول "هوفمان" بالكلام نجد الحلول ولذلك الكلمة تبقى هي الوسيط بين البشر، ولعلنا نتفق مع القول الذي يرى أننا سنكتشف يومًا ما أنفسنا من خلال هذه اللغة، وهي لغة النفس ويرى "جاك لاكان" وظيفة اللغة في الكلام، ليس أن نخبر، ولكن أن تثير، ويرى أيضًا إن اللغة تتحرك دومًا داخل الالتباس بحيث إنكم، في أغلب الأحيان غير دارين البته بما أنتم به ناطقون، إن قيمة اللغة في حديثكم المعتاد، محض اعتبارية إذ لا تفعلون بوساطتها سوى أنكم تعيرون مخاطبكم الإحساس بأنكم دومًا ها هنا، بمعنى أنكم قادرون على إعطائه الإجابة المتوخاة والتي لا علاقة لها بما يمكن التعمق فيه " لاكان – الذهانات، ص 135" وعلى هذا الأساس فإن   كل علاج نفسي هو حوار مع النفس .. لغة بلغة، بها مقاومة من داخل النفس، وللنفس عدة مداخل ولها ايضًا عدة مخارج، أول تلك المداخل هي الفكرة، هي لغة الفكرة، هي التفكير الذي يمتلك القدرة على نسج هذه الافكار بلغة مفهومة تارة، وتارة أخرى غير مفهومة، هذا هو اللاشعور " اللاوعي يقلقنا يقض مضاجعنا، نتكلم في الحلم أشبه بالذهان، لا أنه الذهان ولو أنه قصير الأمد، لا يلبث أن يزول، لا أعتقد أنه يزول وإن حاولنا نسيانه، أو تناسيه، رغم أن التغيرات العميقة التي تطرأ على الحياة النفسية في الحلم تتلاشى وتستعيد النفس حالة السواء كما عبر عن ذلك سيجموند فرويد.

 لغة النفس هي الهفوات، هي زلات اللسان والقلم وأخطاء الكتابة والأفعال الخاطئة والعارضة. ومن لغة النفس هي إيماءات تصدر عنا، هي في الحقيقة إشارة محرفة مشوهة لفعل غاب في غياهب اللاشعور " اللاوعي" صاغته النفس بعدة أشكال مقبولة تارة، وتارة أخرى مخجلة ولكننا لا نستطيع اخفاءها، أما بحلم أو هفوة أو زلة لسان، وقول العلامة مصطفى زيور يطلق سراح اللاشعور "اللاوعي" إذا ما تدثر بالجمال، ونرى أن القصة والقصيدة والأدب والشعر الذي كلما تعمق صاحبه في رمزية عميقة أظهر لنا لغة النفس .

ويقول سيجموند فرويد نجاح العلاج مرهون بما يبذله من جهد ربما يبديه من استبصار ومثابرة وقدرة على التكيف، وسؤالنا أين المبتدأ، وأين المنتهى ؟ وهل من المعقول أن يؤدي الحوار مع النفس إلى العلاج من الحالات التي استعصي على حكماء الطب والمعرفة بهذا العلم أن ينجح ونفس التساءل يطرحه فرويد بقوله: هل بإمكان الشفاء بمجرد الكلام، ويعرض دليل آخر وهو أليسوا هم أنفسهم من يوقنون بأن آلام العصابي مصدرها " خياله الخاص" ليس غير؟ فبالألفاظ يستطيع الفرد أن يسعد صاحبه أو أن يشقيه، أن يتيح له أوفر قسط من اليُسر، أو أن يزج به في أوعر مضايق العُسر.. هذا ما دونه لنا فرويد. ويقول علماء التحليل النفسي هناك نوع من النفس صعب تخيله، يتميز بصفة النفي الكامل، لا يقبل أي نقاش، العلاقة بوساطة اللغة والكلام واللسان الناقل لهما ربما انقطعت وتاهت في غياهب المجهول. 

علمنا التحليل النفسي أن لغة النفس ليس لها حدود، تغوص في عمق اللاشعور – اللاوعي، ينبش بأبرة أصغر من النانو غير المدرك، في عالم خبرات كانت مداخلها أعمق مما يعرفه أي منا، أما مخارجها فهي أصعب إن أفلح البعض تكونت منها القصيدة برمزية عالية، أو رواية عكست ما يجري في النفس في كل سطورها، أو نكتة لاذعة، أو فكاهة برسم كاريكاتوري عميق الأبعاد، أو قصة، وأزاء ذلك فإن " فرويد" يرى أن الألفاظ تستثير الانفعالات، وهي الوسيلة العامة التي نؤثر بها فيمن يحيطون بنا من الناس. 

وإذا لم يفلح البعض فكانت البداية بالصمت يتوسمه الخيال الواسع ونحن نعرف أن الخيال أكثر أهمية من كثرة المعرفة، وأعمق من الواقع، وربما هذه الكثرة الكاثرة هي سبب البداية، وربما يحق لنا أن نقول أن المدخل للنفس يسبب التفتت الخيالي ويقودنا "جاك لاكان" بقوله لا أفعل سوى التعبير عن تواجد صراعات بين النزوات وبين الأنا، وهذه الصراعات تحتم ضرورة القيام بأختيار ما، فهناك من النزوات ما يتقبلها الأنا، وهناك ما لا يتقبلها . وهذا ما تمت تسميته عادة، ولست أدري لماذا، كما يقول لاكان بوظيفة التوليف لدى الأنا، وبما أن هذا التوليف، عكس ما هو متوقع، لا يتحقق أبدًا، فمن المستحسن القول بوظيفة السيطرة بدل وظيفة التوليف، ويضيف "لاكان" إن كل توازن خيالي مع الآخر هو دومًا موسوم بتذبذب في الأساس " جاك لاكان، الذهانات، ص 109" . ويزداد تساءلنا عن السوية ومكانها في النفس، فضلا عن زمنها في الإنبثاق أين تقف بين المداخل والمخارج ؟ في داخل النفس وفي هذه الحالة نتفق مع العلامة "صلاح مخيمر" بأن السوية خرافة،  لا ينبغي أن يغيب عن ذهننا أن السوية خرافة، أو مثل أعلى نقترب منه بدرجة أو بأخرى.

أما "باسكال" الفيلسوف الفرنسي فيرى  إن الإنسان مجنون بالضرورة حتى ليصبح مجنونًا على نحو آخر من الجنون إذا لم يكن مجنونًا. ويرى مصطفى زيور: أن في الجنون عقلًا. ويرى "أبو ليت" إن ماهية الإنسان أنه مجنون، أي أن يكون هو في الآخر.  فلو أننا فحصنا الفرد السوي في أثناء يقظته فحصًا دقيقًا ناقدًا، لبان- لظهر  لنا أن حياته السوية، كما نسميها تزخر بأعراض لا تحصى، لكنها ليست ذات بال من الناحية العملية.. وفي النهاية نقول تزخر بأعراض وهي مدخل للأمراض كما نحن نختار ما يناسبنا،  فالمرض في بدايته اختيار، والاختيار ملازم للحرية، وفي ذلك فنحن نختار المرض الذي يناسبنا وبعد ذلك نبحث عمن يساعدنا في التخلص بما أخترناه من آلام المرض النفسي والعقاب الذي ندفعه لإختيارنا سبيل المرض.

***

اسعد شريف الامارة

استاذ دكتور في علم النفس وباحث في التحليل النفسي

في المثقف اليوم