أقلام فكرية
عبد الكريم رحموني: هانز ريشنبارخ لغز الفيلسوف وجواب العالم
تنصب أبحاث مدرسة فينا على دراسة الفلسفة في مجموعها أو مختلف فروعها، فأقطاب الوضعية المنطقية يقومون بتحليل التصورات والقضايا والآراء والنظريات الفلسفية بعيدا عن التطورات التاريخية وبمنأى عن الأفكار المجردة والتصورات المثالية، وعهود التفلسف التأملي الذي يحجب كل معرفة عن أعين الذين لم يتدربوا على أساليب التحليل المنطقي؛ فالمتأمل لتاريخ الفكر الفلسفي عبر تعاقب الحضارات الإنسانية يجد الاختلاف الشديد بين الفلاسفة والحكماء إلى درجة الجدل حول حقيقة الفلسفة من حيث المفهوم والوظيفية والقيمة وأغراضها في الحياة البشرية، بين المهاجم المنكر للفلسفات التقليدية ولغز ذلك الحكيم العاشق للوغوس، المتفرد بالحكمة والمؤيد المدافع عنها لما قدمته من نظريات ساهمت في رقي الفكر وتبديد الغشاوة ومخاوف الريب والظنون.وفي رحلة البحث عن لغز الفيلسوف ومُنقِذ العالِم من مزالق الخطأ وجب علينا طرح السؤال:
ما هو موقف هانز من النظريات الفلسفية ولغزها التي ظلَّت مُستغلِقة عن الأفهام؟
هل يرفض الفلسفات التقليدية أم يحاول تقديم تصورا جديدا لها؟
يعالج الفيلسوف الألماني هانز ريشنبارخ، المتخصص في فلسفة العلوم ( 1891- 1953 ) مشكلة الفلسفة التقليدية المغرقة في التجريد، البعيدة عن التجريب، المعتمدة على النزعة التاريخية، معتمدا فلسفة متميزة حقا بالموضوعية والواقعية، والوضوح المنطقي في طرح المشكلة ثم حلها، والدفاع عن رأيه اتجاه الخصوم، دعاة التفلسف، حيث وضح هانز أن الفلسفات المجردة من مثالية وعقلانية عبارة عن آراء لا طائل منها، لا تنصب على الواقع. :« فالفيلسوف يتحدث لغةً غير علمية؛ لأنه يحاول الإجابة على الأسئلة في الوقت الذي تُعوِزه فيه الإجابة العلمية. ومع ذلك فإن صحة التفسير التاريخي محدودة النطاق؛ فهناك فلاسفة يظلُّون يتحدثون بلغة مجازية في الوقت الذي تتوافر فيه بالفعل وسائل الوصول إلى حل علمي. وعلى حين أن التفسير التاريخي ينطبق على أفلاطون.»[1]، كما يرى الفيلسوف هانز عدم تمجيد الفلسفات الماضية لأنه تمجيد لتاريخها الذي يعتبر جمعا عرضيا لأفكار وآراء مختلفة، فإنه يكون عديم النفع، لا قيمة له إلا في جمع المعلومات وتكديسها، ماذا نصنع بهذه الأكداس من الفلسفة القديمة؟
إن الاهتمام بآراء الآخرين لا يمكن أن يعود على فكرنا بفائدة، مادامت الفلسفة التقليدية متعددة المذاهب والآراء جعلها نسبية ليست يقينية، عاجزة لا تقدم الحلول الفعلية، أدى إلى إضعاف المقدرة ورح التفلسف لدى فلاسفة عصره، ونظر الطلاب للحكمة الفلسفية على أساس أنها نسبية خالية من كل نفع حقيقي، تضع لنا مذاهب وآراء في هذا وذاك. « وعرض مختلف المذاهب كما لو كانت صيغا مختلفة للحكمة، لكل منها الحق في أن يوصف بهذه الصفة، فإنه أدى إلى إضعاف المقدرة الفلسفية لدى الجيل الحالي وهو قد شجع الطالب على أن يأخذ بالنسبية الفلسفية.»[2]
ولكي يقنع القارئ بذنب الفيلسوف ولغزه في تقديم الإجابات المتخمة باستجابةً إغراء الكلام المجازي، استدل بأدلة واقعية تبين حقيقة رفض الفلسفة التقليدية المتعددة المذاهب والآراء، فضرب لنا مثلا بإضعاف المقدرة على التفلسف بالنسبة لفلاسفة عصره، كما تشجع الطلاب بالأخذ بالنسبية في الفلسفة.
اعتمد الفيلسوف هانز حجة البرهان المنطقي، إذ انتقل من مقدمات حول الفلسفة التقليدية وعرض قضايا هذه الأخيرة وما تعتمده من نزعة تاريخية، ومدى تنوع مذاهبها، ليصل إلى نتيجة مفادها التأسيس للفلسفة العلمية «فالعالم يعرف الصعوبات التي كان عليه أن يذلِّلها قبل أن يُثبِت نظرياته، وهو يعلَم أن الحظ قد حالفه في كشف النظريات التي تُلائم ما لديه من ملاحظات، وفي جعل الملاحظات التالية تُلائم نظرياته، وهو يدرك أنه قد تظهر في أية لحظة ملاحظات متعارضة أو صعوبات جديدة، ولا يزعم أبدًا أنه قد اهتدى إلى الحقيقة النهائية. »[3]
كذلك فإن هذا الأصل يعلل موقفه من تصور فلسفة علمية، على شاكلة العلم رافضة للفلسفة التقليدية ونزعتها التاريخية، معناه تأسيس الأرضية الصلبة على متن الأبحاث العلمية، وتطهير الفلسفة من التفسيرات الميتافيزيقية التي أفسدت الفلسفة الماضية، ثم بعده الفكري وأهميته القيمية لما فتحه من أفاق فكرية واسعة حول الفلسفة العلمية مثل التفكير المنتج للمفكر المصري الوضعي المنطقي زكي نجيب محمود الذي حاول وضع فلسفة علمية تتبع مناهج العلماء.
***
رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر.
................................
قائمة المراجع:
[1] هانز ريشنبارخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة: فؤاد زكريا، ص:38.
[2] المرجع السابق، ص: 282.
[3] هانز ريشنبارخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا،ص:51.