أقلام فكرية
حيدر عبد السادة: من العقلانية الأداتية إلى العقلانية التفاعلية

هابرماس والفعل التواصلي
يقصد (يورغن هابرماس) بالتواصل، جعل الشيء مشتركاً، أي الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية عبر الفعل. وقد أصبح هذا المفهوم من المفاهيم المركزية المتداولة في الفلسفة المعاصرة. اذ لم يعد الاهتمام بالتواصل منحصرا في المجال التداولي المرتبط بتبادل المعلومات وتقنيات تبليغها وايصالها، بل أصبح يشكل نظرية علمية وفلسفية مستقلة بذاتها. وتعد مرجعية (هابرماس) الفلسفية دليلا على هذا التحول. انها مرجعية استفادت من نظريات العلوم الاجتماعية التي كانت سباقة الى التمهيد لذلك التحول عندما ركزت على أن الأنا أو الهوية الذاتية هي حصيلة تفاعل رمزي مع الآخرين.
يعتقد (هابرماس) ان الفكر ما بعد الميتافيزيقي هو مفتاح الانعطاف نحو الاهتمام باللغة والتواصل، كما أن التحول من فلسفة المعرفة الى فلسفة التواصل ينطوي على تجاوز لفلسفة الذات والوعي بمختلف اشكالها ووجوهها رغبة في بناء فلسفة تواصلية، تعد اللغة أحد مكوناتها الاساسية؛ وفي هذا السياق كان اهتمام (هابرماس) بالتداولية ونظريات الأفعال اللغوية. وبالتالي يتجه (هابرماس)، تحديداً في اهتماماته الأخيرة في نظرية فعل التواصل إلى فلسفة اللغة، وذلك بهدف إثراء المساحة المعرفية للنظرية النقدية، حيث يدعو إلى ضرورة التحرر بما يدعوه بفلسفة الوعي، وهي تلك التي ترى العلاقة بين اللغة والعقل كعلاقة الذات بالموضوع. وبالتالي فإن اهتمام (هابرماس) بالمعنى والحقيقة لا يخرج عن نزوعه نحو تحديد جديد لمفهوم العقل، يتخلى عن ادعاءات الفكر الميتافيزيقي، ويُبرز أهمية الجانب التكاملي للخطاب الجدلي البرهاني، فالعقل يمتلك قدرة هائلة على التبرير ومُراجعة أساسياته وأحكامه.
كما ويسعى إلى إخراج العقلانية الأداتية إلى الأنوار العقلانية التواصلية، وهذا لا يكون إلا عن طريق تأطير العقل بمقاييس العقلنة التي ترتكز على الحجة والبرهان الأقوى والأفضل، والاعتراف المتبادل بين المشاركين في النشاط التواصلي إنه عقل تواصلي يتجاوز الذات ليكون نسيجاً من الذوات المتواصلة التي تتجاوز ذاتيتها. وتتمثل دعواه في إمكانية الإفلات من العقلانية الوظيفية التي تمارس التقنية، والتي أطبقت سيطرتها على الاقتصاد، وتحكّمت بيروقراطيتها في الدولة، لكي يعود الاقتصاد والدولة وضيفتها الطبيعية، إذ لا يمكن أن يؤدي الاقتصاد والدولة مهامها إلا باعتبارهما نسقين متداخلين، فلا يجوز من هذا المنطلق أن يحتكر السوق وحدة مهمة لإعادة التوازن. وأراد (هابرماس) تغيير الوضع القائم على السيطرة تقديم البديل الممكن للعقلانية الأداتية التي أحكمت قبضتها على الإنسان، لقد قام بإعادة التأسيس النظرية النقدية على ما يسميه العقلانية التواصلية المرتبطة بعملية التنشئة الاجتماعية التي لا تتحقق إلا بواسطة التوافق والتفاهم.
العقلانية الأداتية في نظر (هابرماس) وبعض أقطاب النظرية النقدية تمثل السيطرة، وتستلزم المستوى الشكلي في الإجراءات، لأن عرضها الأساسي عملي ونفعي، وهذا لا يخدم في نهاية الأمر سوى مشروع السيطرة لأنها أضعفت أواصر العلاقات الاجتماعية. وقد حدد (هابرماس) العقلانية بقوله: إنَّ ما نسميه العقلانية هو أولاً الاستعداد الذي نبرهن عليه ذوات قادرة على الكلام والعمل وعلى اكتساب وتطبيق معرفة قابلة للخطأ. أما العقل الأداتي أو العقلانية التقنية فهو من المصطلحات الأساسية والجوهرية في قضايا النظرية النقدية، فقد ظهر في كتابات (هوركهايمر)، تحديداً في كتابه عن (جدل التنوير)، وظهر كذلك مع (ماركيز) من خلال مؤلفه (الإنسان ذو البعد الواحد)، وهو –أي العقل الأداتي- منطق التفكير وأسلوب في رؤية العالم. ولقد استطاع (هابرماس) أن يستخلص السمات العامة للعقل الأداتي من حيث هو استراتيجية للاختزال والنظرة التماثلية للواقع وعدم اهتمامه بالخصوصية.
وبحسب (هابرماس)، فأن العقلانية الأداتية قد اختزنت دلالة السيطرة والهيمنة، وهذا ما دفعه إلى إيجاد بديل، لأن العقلانية الأداتية رسخت عقيدة الذات بقدرتها على توفير السعادة الموهومة التي جعلت الفرد تابع لإرادة الآلة، حيث نقلت الإنسان من الذات المفكرة إلى الذات المدركة حسياً، وفي هذا المجال تمدنا الملاحظة العلمية باليقين وتتراجع الوظائف التلقائية للفكر. فهي نوع من التفكير من خلاله يستبعد القرارات الأخلاقية والسياسية، وهو بذلك عقل سيء، عقل ناظم لأفعال الإنسان في إطار إنجاز غاية عملية محددة. هو نتاج انشطار واغتصاب أي نتاج سيرورة اجتماعية، فقد وصفها (أدورنو وهوركهايمر وفوكو) بأنها سيرورة الذاتية بوصفها تتجاوز قواها وتتشيأ. لذلك فهي أداة للسيطرة والهيمنة، كونها رسّخت عقيدة الذات من خلال توفير السعادة الوهمية التي جعلت الفرد تابع للآلة، لذلك شدّد على وظيفة التفاعل والحوار كبديل، ولقد أراد أن يعيد تشكل النظرية عن طريق إعادة بناء العقلانية الاجتماعية، فقدم ما أُطلق عليه بـ(العقلانية التواصلية) في مقابل (العقلانية الأداتية)، لذلك وجد (هابرماس) في الفعل التواصلي الوسيلة القادرة على الخروج من الانحراف والسقوط في التطرف. على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار إنّ (هابرماس) لا يتجاوز العقلانية الأداتية بإلغائها نهائياً، لأن هدفه هو ربط تصورات العقل الخاصة بالتصور والتواصل في إطار النظري للبحث.
ويعتقد أن التفاعلية الأداتية، والتي يعتبرها سمة من سمات الفكر ما بعد الميتافيزيقي؛ قد تجاوزت الطبيعة، لتحاول أن تهيمن على الإنسان بعوالمه الذاتية الخاصة وتجاربه مع الآخرين، والتي تهدف إلى التفاهم بشكلٍ رئيس، لا إلى الربح والنجاح والسيطرة، لذلك يؤكد ضرورة تصحيح المسار باتجاه التواصل بين الذوات الفاعلة، أو ما يُعرف بـ(النقاش التداولي)، والذي يهدف إلى فهم السلوكيات المتحصلة بين أفراد المجتمع.
والفعل عنده يقع على صورتين، الفعل الاستراتيجي الذي يتصف بالغائية، في حين يرمي فعل التواصل للوصول إلى الفهم. وإن الفعل التواصلي قد وُلد في الأساس للخروج من هيمنة العقل الأداتي، والذي يقوم على تنشيط التواصل وتمكين قيمة الإنسان في المجتمع وقد وجد فيه، أي العقل التواصلي، الوسيلة القادرة على إنقاذها –أي الحداثة-من الانحراف والسقوط في التطرق والتعصب الأعمى الذي مردّه عند الأوربيين هو عدم الثقة بالقادمين الجدد والأصل في ذلك يعود إلى انعدام الثقة بالذات، وانعدام الثقة هذا يرجع إلى التجارب التي مرَّ بها الأوربيين مع أنفسهم.
***
د. حيدر عبد السادة جودة