أقلام حرة

نبوءة الشاعر عائمة في نهر "ميلو"

به العمل في الصين كلها ليومين إحياء لذكرى شاعر قضى منتحرا في نهر ميلو في اقليم هونان قبل الفي عام وهو أمر لم أستوعبه فما من دولة في العالم تحتفي بولادة أو رحيل شاعر من شعرائها بحيث تجعله عيدا وتمنح مواطنيها عطلة رسمية !

حتى نحن الأمة التي يعد الشعر ديوانها وكانت القبائل العربية تنحر الذبائح عند بروز شاعر يصد عنها فلول ألسنة المغيرين من شعراء القبائل الأخرى لا نكاد ننذكر  المتنبي في يوم ولادته أو يوم جندله سيف فاتك الأسدي في "دير العاقول !!

فكيف يحصل هذا في دولة بدأت تدحر أمريكا صناعيا موفرة بدائل صناعية جيدة بأسعار مناسبة ؟

قلت لعل في الأمر بعض اللبس أو المبالغة ,لذا تجاهلت الأمر حين التقيت أخي في مدينة "ووهان " التي يشقها نهر"اليانغتسي" مثلما يشق نهر "دجلة" قلب بغداد  ولم أسأله عنه حتى قررنا السفر الى مدينة شنغهاي التي وصلناها بالقطار السريع من "ووهان" بعد رحلة دامت حوالي سبع ساعات   حيث توافق وصولنا  الى مدينة شنغهاي مع عطلة رسمية مكنت إحدى الطالبات العراقيات من إستقبالنا في المحطة,  وحين لاحظت حركة ليست عادية في الشوارع من حيث بروز مظاهر إحتفالية غير عادية تمثلت بإنتشار بيض البط المصبوغ بالأسود وبالونات على شكل مكعبات , هذه البالونات كانت تتخذ شكل أكلة شعبية إنتشرت بكثافة ذلك اليوم تسمى طعام (تسونغ تسي) وهي تتألف من الرز والسكر وحبات الكشمش التي توضع بورق الخيزران و تلف بالخيوط , هذه الأكلة تشبه الملفوف او "الدولمة " عندنا , إقتربت من أحد الباعة محاولا تصويرها فإعترض ذلك البائع!!إستفسرت من أخي فقال  : كل شيء مباح لك تصويره في الصين الا المقدسات !! تذكرت إعتراض  حارس أحد المعابد في ووهان على محاولتي تصوير مافي المعبد من أصنام  وطقوس تعبد !

سألت أخي : وهل الطعام مقدس ؟

قال:لا , لكن طعام  (تسونغ تسي) هو المقدس , لأنه مرتبط بذكرى الشاعر الصيني (تشيوي يوان)  الذي مات منتحرا في ماء النهر ,  عندها تذكرت ماكان قد أخبرني به

أضاف : يقوم الناس في هذا العيد بأكل طعام تسونغ تسي لكنهم في السابق كانوا يلقونها في النهر لإغراء الأسماك والتنانين لأكلها عوضا عن جثة الشاعر في مثل هذه المناسبة

*أية مناسبة؟

- مناسبة هذا العيد

 *واي عيد؟

- إنه عيد "سباق قوارب التنين " الذي يحتفل به الصينيون سنويا  إحياء لذكرى ذلك الشاعر

* وماعلاقة سباق القوارب ؟ بأكلة شعبية ؟ وانتحار شاعر؟

انها ثلاثة عناصر غير متشابهة تزيد الأمر غموضا

خلطة عجيبة من الرموز في أمة تتفرد في العالم بجعلها مناسبة إنتحار شاعر عيدا سنويا تقليديا ,أضافته الحكومة الصينية الى أعيادها  علما بأن للصينيين أعيادا  متعددة وكثيرة أهمها عيد الربيع (عيد رأس السنة الصينية) وعيد الفوانيس وعيد الموتى أو كنس القبور وعيد قوارب التنين (أو عيد الخمسة المزدوجة لأنه يصادف اليوم الخامس من الشهر الخامس من التقويم الصيني) وعيد منتصف الخريف وكثير من أعياد القوميات الصينية

  ولكي نفهم علاقة تلك الرموز ببعضها  لا بد أن نعرف أولا من هو الشاعر تشيوي يوان؟

في يومياته دوّن اخي "  كان وزيرا وشاعرا كبيرا في مملكة (تشو) - مقاطعتي (هوبى وهونان) بوسط الصين حاليا خلال عصر الممالك المتحاربة (عام 475 ــ عام 221 قبل الميلاد) تتلخص معاناة ذلك الشاعر الكبير بأنه كان يدعو إلى مواجهة ضغط مملكة (تشين) ومقاومة إعتدائها على دويلته ، مما وضعه في مواجهة مع الأرستقراطيين في البلاط الملكي فأقاله الملك من منصبه ونفاه من العاصمة وفي المنفى نظم قصائد عظيمة هي (الشكوى) و(سؤال السماء) و(الأغاني التسع) وغيرها من القصائد المشهورة التي تركت تأثيرا كبيرا وممتدا على الأدب الصيني . في عام 278 ق.م استولت دويلة (تشين) على عاصمة بلاده فألقى هذا الشاعر نفسه في نهر (ميلو) الكائن في ما يعرف اليوم بإقليم (هونان) في اليوم الخامس من الشهر الخامس حسب التقويم الزراعي الصيني ، وتسابق أبناء مملكة (تشو) الى المكان بالقوارب للبحث عنه وأحدثوا ضوضاء عالية لإخافة الأسماك وأسقطوا كرات الأرز والبيض في النهر لإغرائها بالإبتعاد عن جثة تشيوي ، فيما شرع طبيب مسن بصب إناء من الخمر في النهر لتسكر الحيوانات في النهر فلا تؤذيه ... منذ ذلك ظهرت عادات سباق قوارب التنين وتناول طعام (تسونغ تسي) عند حلول ذلك العيد "

قلت له:ان حكايته تشبه الى حد كبير حكاية زرقاء اليمامة في تراثنا العربي حين رأت ببصرها الحاد غابة من الأشجار تزحف بإتجاه اليمامة وحين أخبرت قومها وحذرتهم سخروا منها وهي الواقعة التي استقى منها الشاعر أمل دنقل رائعته  "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"ورددت قوله :

قلت لهم ماقلت عن قوافل الأشجار

فاتهموا عينيك يازرقاء بالبوار"

حتى وقع المحذور

لكننا نسيناها كأي ذكرى مؤلمة نحاول تنحيتها ,بينما شعب حي كالشعب الصيني يحتفي بشاعر قضى منتحرا لأنه نبوءته ذهبت أدراج الرياح !

 

بكين / عبدالرزاق الربيعي

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1083  الجمعة 19/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم