أقلام حرة
عندما فقدنا ادوات الحب بفعل التكنولوجيا / طلال معروف نجم
كلها كانت ادوات تعين المحبين على التخاطب . فرسائل الغرام غنى لها مطربون على مر التأريخ . الا ان وجود الكومبيوتر ورسائل الايميل، قد ألغت الى حد ما دور الرسائل المعطرة بعطر الحبيب . كما ان المحارم الورقية " الكلينكس " . قد قضت على مناديل العشاق . فكانت مناديل الفتيات اغلى شئ يمكن ان يحظى به الفتى . فبالمنديل يستطيع ان يتضوع بعطر الحبية .
اما التلفون الارضي، فهو أداة من اقوى ادوات الحب . وقد يظن البعض ان "الموبايل " قد حل محله . وهذا خطأ . لان التلفون الارضي لم يكن بمتناول المحبين بسهولة . فأما بعيد عن غرف نومهم . او عند الجيران فقط او عند البقال . ويعني هذا معاناة للوصول الى الطرف الاخر . فرنة جرسه تبهج العشاق . اما الموبايل فصار بمتناول الجميع . تحت الوسادة . قرب السرير. لامعاناة البتة في الوصول الى صوت الحبيب .
ولعل الكاسيت لعب دورا كبيرا في توصيل رسائل الوهج الى المنازل . وأذكر حادثة اسجلها فقط للمصريين، بقدرتهم على ابتداع ادوات للحب . ورومانسيتهم المتناهية . كنت جالسا يوما ما في مكتبي بحي الكرادة داخل ببغداد الخالدة . ايام عزها ومجدها . ايام كان المصريون يشكلون أكثر من 5 ملايين مواطن في العراق . كان عجوزا يعمل في بلدية بغداد يكنس وينظف ارصفة الكرادة الانيقة . يأخذ مني أكياس القماقة وكنت أجزل العطاء عليه . طلب مني يوما ان يستعير جهاز التسجيل . فقلت له :
- وماذا تعمل به ؟ اتستمع الى ام كلثوم ؟
فرد بأدب جم
- اريد ان اسجل رسالة الى زوجتي وبصوتي وارسل الكاسيت الى مصر.
اقسم بأنني لم أهتد الى هذه الوسيلة في كل صولاتي وقتذاك . ولم يعرفها أحد من قبل غير المصري.
وهو نفسه طلب مني مرة الحصول على دفتر رسائل مورد وانيق . فأعطيته ورقة ما وقلت اكتب عليها رسالتك . فأستغرب مني وقال :
- انها رسالة لزوجتي . ويجب ان يكون الورق جميلا وفواحا بالعطر
حقا ادوات للحب افتقدناها اليوم .. وذلك بسبب هجمة الحضارة والاجهزة البديلة .
وزمان غريب يا زمان .. مع الاعتذار للفنانة فايزة احمد .
*
وتواصل الحضارة سلبنا كثيرا من ادوات الحب . لا بل افقدتنا ربما جل ادوات الحب . كالتلفون والرسائل الورقية ومنديل الحبيب . فحل" الموبايل" محل "التلفون" والمناديل الورقية محل منديل الحلو والرسائل الالكترونية محل رسائل المحبين المعبقة بالعطور كما اسلفت.
واليوم تذكرت ان الحضارة، ألغت وبالمرة قصص ابن الجيران وبنت الجيران . بفعل انحسار الاحياء الشعبية . وانتقال الناس الى الاحياء الحديثة. حيث البيوت الفارهة التي تحجب الجار عن جاره . فلم يعد ابن الجيران يستطيع كفاية ان يرصد جارته . ولاهي ايضا تستطيع ان ترقب زوج المستقبل . نعم زوج المستقبل، فأن أنجح الزيجات هي التي كانت تبرم بين ابن الجيران وبنت الجيران للاسباب التالية :
1 البيوت متلاصقة فالوجوه تتلاقى كل يوم .
2 تتوطد العلاقات بين الاهل فيتم التخطيط للتقريب بين الجارة والجار .
3 بنت الجيران صورة مكشوفة لابن الجيران يراها ابتداءا من صباحات السطوح . فتسقط العيون على العيون . فالوجوه عارية من مساحيق التجميل والشعور لم يمر بين ثناياه المشط بعد . ولا عطور تضوع السطوح عندما يقفز ابن الجيران لحبيته عند سطح بيتها . كل شئ طبيعي يتم شمه من قبل الاثنين عندما يتعانقان كل صباح . إذن وكل شئ مكشوف ولايحتاجان انذاك إلا الى الارتباط على سنة الله ورسوله . وهذه انجح طرق الزواج والتي تعمر طويلا ونادرا ما يفترقان . وهنا عصفت بذاكرتي مقولة لطالما رددتها أمي قائلة " أكتشف حقيقة المرأة وهي تستيقظ في الصباح وقبل ان تغسل وجهها" .
أذكر قصة حب ترعرعت على السطوح البغدادية الشعبية . كان هو على بعد أكثر من بيت عن بيتها . الا ان هذا لم يمنع من قراءة لغة العيون بينهما. كنت صغيرا الا انني امتلك كثيرا من الوعي، الذي يمكنني من رصد حالات مثل هذه . كان الرجل يمتلك مواهب شعرية . يسمعني كثيرا من غزلياته بحق جارته هذه . كنت انقل لها بعض هذه الابيات الا انها بحكم كونها لم تدخل المدارس . كانت تضحك عندما اقرأ لها الشعر فتطلب مني توضيحا وهي تقول : ترجم لي مايقول . وتزوجا وانغمسا في حياة الاولاد، وعندما كبرت عرجت عليه متسائلا : وهل مازلت تكتب الشعر ؟ .. فرد ضاحكا : "نحن نركض لنؤمن لقمة العيش" . وقد شاهدت مؤخرا أحد احفادهما . أيقنت وقتذاك ان مشاريع الزواج التي يتمخض عنها حب ابن الجيران لجارته . هو من أنجع طرق الزواج، و أطولها عمرا .
أعتقد ان قصص الحب من هذا النوع قد أختفت بأختفاء الاحياء الشعبية . وقد تكون موجودة في الاحياء الشعبية المزدحمة . الا ان شخصا مثلي لم يعد نزيل مثل هذه الاحياء، فقد كثيرا ايضا من ادوات رصد مثل هذه الحالات، التي يوظفها في كتاباته . ولعل احسان عبد القدوس او نجيب محفوظ . عندما انتقلا الى الاحياء الراقية والميسورة . انتقل قلمهما ايضا، الى مدرسة جديدة في الكتابة .
انها الحضارة تفقدنا كل يوم، مزية جميلة من مزايا الحياة البسيطة . نحن فقط من يحن اليها لاننا عايشناها.