أقلام حرة
أنعام كجه جي ...لقاء يتيم في الذاكرة
حصل إستفزاز لا إرادي لذاكرتي .. عدت للوراء سنوات وسنوات، لأصل الى محطة عزيزة في الذاكرة تتمثل بالموقف الوحيد الذي جمعني بالكاتبة إنعام كجه جي عام 1975 في الوزيرية بمبنى مجلة (المسيرة) ،
كنا مجموعة من الصغار المليئين بالطموح، وقد قادنا حب الصحافة من مدينة "الثورة " الى الوزيرية حيث مبنى مجلتي والمزمار، كانت الرحلة بالنسبة لي شاقة حيث كنت أعاني من الدوار حيث أصعد الحافلات وأشم رائحة "البانزين" لكنني كنت أضغط على نفسي وأتردد على ذلك المبنى الذي كان يمثل لنا في تلك السنوات مزارا مقدسا ندخله نحمل أوراقنا وقصاصاتنا ونخرج ونحن مثقلين بالأحلام وأعداد من "مجلتي والمزمار" وقصة "حيان ابن الذئب"
لكننا في ذلك اليوم الصيفي دخلنا ذلك المبنى متأبطين عددين من مجلة كتبناها ورسمناها بخط اليد، أسميناها (الفجر) وكانت المجلة الثانية لنا بعد مجلة (الأصدقاء) التي أصدرنا منها ثلاثة اعداد عام 1973
هناك التقينا كعادتنا في تلك الزيارات بالشاعر مالك المطلبي، كان رئيسا للتحرير والشاعر فاروق سلوم الذي كان مديرا للتحرير وعبد عون الروضان المسؤول عن صفحة "أدب الأصدقاء" وجبار ياسين والمرحوم جعفر صادق محمد وعبدالاله رؤوف وشفيق مهدي وسامي الزبيدي والكثير من الأسماء التي كان لها شأن في الحياة الثقافية العراقية، وبعد أن خرجنا من مبنى "مجلتي والمزمار" وعلى بعد خطوات شاهدنا لافتة تشير الى مجلة " المسيرة" التي كان قد صدر منها عدد واحد’ فعرجنا عليها، دخلنا وهناك وجدناها هناك ...
قالت مرحبة بنا: أهلا بكم، هل من خدمة أقدمها لكم ؟
فإرتبكنا، لم نعتد أن نتكلم مع النساء السافرات والجميلات
لوحت لنا بإبتسامة مشرقة بددت صمتنا وإرتباكنا
كان معها زميل، ربما كانت تزوره، قال: هذه أنعام كجه جي إستفيدوا من ملاحظاتها، كان لهذا الإسم رنين في تلك السنوات فقد كانت من أنشط الصحفيات العراقيات، قلت لها: أقرأ لك، ولم اكمل فإبتسمت، تلك الإبتسامة جعلتني مفوها فنطقت: لقد عملنا هذه المجلة بأنفسنا، ونحب ان نسمع آراءكم،
أخذت المجلة مني وبدأت بتصفحها، وسط صمت مرتبك، بعد دقائق، كانت اقدامنا قد أصبحت مثقلة بحمل أجسادنا النحيلة، من شدة الإرتباك، إنتبهت، قالت: تفضلوا، إجلسوا، جلسنا ثم طلبت لنا الشاي، بعد دقائق لم نكن نسمع سوى أصوات الملاعق وهي تجري داخل محيط "الإستكانات" لاهثة وراء حبات السكر لتنهي حياتها وسط ضجيج الملاعق المرتطمة بالزجاج -بقينا نضحك طويلا من تلك الاصوات التي كانت ترتطم بالصمت الذي غلف المكان طويلا كلما تذكرنا الموقف -
كان صديقاي - قاسم جبر وعباس ناصر- ينظران لي بعتب على هذه الورطة التي قذفتهما بها
فجأة رفعت رأسها، سألتني عن أسمائنا حيث دونتها، وصارت تسألنا عن المجلة ونحن نجيب بإستحياء
دونت كل ما قلناه ولأن المصور لم يكن موجودا أخذت منا صورا شمسية شخصية
فتشجعنا و طلبنا منها رأيا ننشره في العدد القادم من (الفجر)
لم تترد في ذلك
وهذا ما أدهشنا فكدنا نطير من الفرح !
فتحت صفحة جديدة وبدأت بالكتابة، وخلال ذلك كانت خصلة من شعرها الأشقر تباغتها وتسقط على الورقة فترفعها برفق وتأخذ نفسا ثم تواصل الكتابة، بعد إنتهائها من ذلك، سلمتني ما كتبت لكن عندما خرجنا وكنا في غاية السعادة طلب الصديق عباس ناصر أن يحتفظ بالرسالة’ قلت له: أخشى عليها من الفقدان، وكان متلافا، فأصر و ظل يلح حتى مد يده لجيبي ليخطفها مني فإنتبهت في اللحظة الأخيرة لكنه لم ينل منها سوى النصف وبقي النصف الثاني معي، فصرخت بوجهه وساد الصمت بيننا وتحول فرحنا الى حزن صامت ومرارة على تمزق الرسالة وخصام لم يلبث أن زال ولكن بقينا نتحسر على تلك الكلمات التي تمزقت في ساعة رعونة !
بعد أيام صدر العدد الجديد من (المسيرة) وكانت به صفحة عن مجلتنا حيث كتبت مقالا لا ازال أذكر عنوانه وهو (ثلاثة حملوا الينا الفجر)
بعد شهور إختفى إسم أنعام كجه جي من الصحافة، حين إستفسرنا عن ذلك الغياب علمنا إنها سافرت الى فرنسا، وكانت أخبار المسافرين الذين سلكوا طرق اللاعودة قد بدأت تكثر بعد إنهيار مشروع الجبهة الوطنية فعلمنا إنها لن تعود، مثل الآخرين، ثم صرنا نقرأ لها في المجلات العربية الصادرة من باريس، في عام 1996 قال لي الصديق الدكتور حاتم الصكر إنه التقى بها في عمّان وكنت معه في تلك الرحلة لكنني قطعتها فجأة وعدت لصنعاء فتأسفت لضياع تلك الفرصة، وبعد بروز إسم (شلش العراقي) حصل تواصل بيننا عبر البريد الألكتروني كنا نتبادل الآراء وذات يوم بعث لي (شلش العراقي) رسالة وصلته من الكاتبة إنعام كجه جي التي صارت روائية، معقبة على مقال نشره، فذكرت له إنها شهادة تستحق أن يعلقها على صدره من كاتبة عراقية معروفة، ثم ذكرت له ذلك الموقف اليتيم الذي جمعني بها في تلك السنوات، ولا أعرف إن كان قد روى لها الموقف فقد إختفى فجأة وإنقطع التواصل مثلما إنقطع خبر تلك الرسالة التي مزقها شدة إحتفائنا بأنعام كجه جي .
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1107 الاثنين 13/07/2009)