أقلام حرة
ياس ناصر العبيدي .....رحيل المعلم
ومن بينهم الأستاذ ياس ناصر العبيدي الذي غادر عالمنا مؤخرا، فقد كان مثالا للمعلم الأنموذج الذي يستحق أن يحمل هذا التاج العظيم ..تاج المعلم، ورغم إنه لم يعلمني داخل قاعات الدرس الا أنني أخذت منه الكثير الكثير في لقاءاتي معه في منزله حيث مكتبته الكبيرة التي تعرفت بها على أعمال يوجين يونسكو وسارتر وكامو وصاموئيل بيكت وتولستوي ودوستويفسكي وعشرات الأعمال المسرحية والشعرية والروائية الخالدة لنجوم لامعة في سماء الأدب العالمي وكنت حينها في مرحلة الدراسة الثانوية حيث عرفني به أصدقاء شعراء درسهم في إعدادية (العدالة) في مدينة الحرية ومنهم الشاعران الراحلان صباح أحمد حمادي وعلي المشهداني وحين كنا نقبل على بيته المتواضع وأحيانا يكون معنا الشاعر فضل خلف، كان يهب مرحبا بنا محتفيا بمقدمنا، ليقودنا الى غرفة الضيوف المزدحمة بالكتب والنفوس، رغم إننا لم نكن سوى تلاميذ مدارس يبحثون عن المعرفة هنا وهناك !!
وكان الأستاذ ياس الذي له نصوص مسرحية وشارك في مقتبل حياته مجموعة من الشباب السينمائيين المتحمسين لسينما عراقية في فيلم عراقي ظهر به ممثلا، وكاتبا، يسعد حين نطلب منه أن يعيرنا كتبا،ناسفا المقولة السخيفة"أحمق من يعير كتابا" بل كان يبدو في منتهى السعادة عندما نستعير منه كتابا، لم نكن نكتفي في كل زيارة الا بمجموعة من الكتب، ولم يسأل عن كتاب تأخرنا في إعادته الا إذا طلبه آخر، و كان يمضي وقتا طويلا باحثا عن كتاب أختبأ في زاوية ما من زوايا مكتبته التي نهل منها الكثير من الأدباء والفنانين العراقيين من بينهم الشاعر شوقي عبدالأمير والفنان عبدالستار البصري والفنان ضاري العامري والشاعر عبدالستار نور علي الذي كتب ذات يوم من عام2003 نصا أسماه (أبو وائل) وهي كنية معلمنا ياس وأهداه لي فكان عربون صداقة لاتزال مستمرة رغم إننا لم نلتق لكن القاسم الأعظم الذي كان بيننا هو الأستاذ ياس حيث تتلمذ كلانا على يديه
يقول في نصه:
(ياس) يرفع خيمته
فوق الكتب المصطفة في مكتبته
عبر العينين المثقلتين
بالضعف
وبالقوة
بالحب
بطيبة نخل النهرين ....
هل تذكر أبا وائل
شيخ أدباء الحرية ...؟
تذكره ؟
في صومعة الدفء
بين الكتب المصطفة ....
بين الطلاب .... يناجي الشعراء
والعلماء
عبر دروس اللغة
تذكره ؟
ام أن الزمن رحيل الأنهار؟
......
لكني أحفظ وجهك
في الشاشة
في الصحف
في ألسنة الناس
وأبو وائل يحفظ ...
في زاوية من وطن مذبوح
كان الطلاب يسمون الأستاذ ياس "كلكامش" لكثره إستشهاده بأمثلة من هذه الملحمة الخالدة، وكان يضحك حين يسمع هذه التسمية ويقول " أين جسمي النحيل من كلكامش الذي كان ثلاثاه من الآلهة وثلثه بشر ؟"
والأستاذ ياس الذي تتلمذ على يديه على مدى أكثر من 40 سنة أمضاها في التدريس مئات الطلبة الذين أصبحوا أطباء ومهندسين وأدباء وأساتذة جامعيين كما وصفه الصديق الشاعر عبد الستار خيمة من الكتب والدفء الإنساني و"عينان ضعيفتان "لكنهما تمتلئان بالمحبة والقوة والشعاع الروحي، والطيبة والتواضع، لم نره غاضبا أبدا، كان يتكلم بهمس مبتسما على الدوام، عطوفا وحنونا، وينبوع معرفة، يعطي بلا حدود ولا يأخذ شيئا !
وللأسف فإن الوطن الذي أهداه نور عينيه بخل عليه ب(قرنية) لإحدى عينيه بعد أن إنطفأت عين، تجعله يواصل مشاريعه العلمية وكان في مقدمته إعراب القرآن الكريم بطريقة مبسطة وحديثة وأذكر إنه كان قد إنتهى من إعراب (سورة البقرة) لكن تهتك (القرنية) جعله لم يكمل الكثير من المشاريع، وأستاذ ياس لم يكن معلما تقليديا كان يعتبر المنهج مصدرا من المصادر ولابد للطالب أن يفتح آفاقه على مصادر أخرى عديدة وحين يتذرع الطلاب بعدم وجود الكتب لضيق ذات اليد يفتح مكتبته لهم ويمدهم بكل ما يحتاجون اليه، وكان يصغي بإهتمام كبير لمحاولاتنا الأولى في الكتابة ويعطينا ملاحظاته مشفوعة بإبتسامة لم تكن تفارقه أبدا، حتى في أحلك الظروف التي مر بها كغرق ولده ذي الثلاث سنوات في ساقية عندما كان مستغرقا بالقراءة وهو يلعب جواره حتى إنزلقت قدمه وغرق ليخلف جرحا عميقا في روحه !! ومن ثم إضطراره للإنتقال من بيت الى آخر لعدم إمتلاكه بيتا وهو المعلم الذي أفنى عمره في التدريس ولم يجد سوى الهجرة الى كركوك ليعمل في معهد المعلمين هناك من أجل تأمين سكن لعائلته الكبيرة وكتبه !! وهناك كان لقاؤنا الأخير عام 1993 حين جاء الصديق فائق حسن نعمة من رومانيا في زيارة للعراق فطرح علي فكرة الذهاب الى كركوك لإلقاء التحية على أستاذنا فوافقت على الفور وذهب معنا الصديق سمير العاني، وجدناه محاطا بالكتب والأصدقاء الذين ظلوا الى جواره الى آخر يوم في حياته حيث أخبرني أخي محمد أنه خرج مع أصدقائه فشعر بوعكة لم تمهله طويلا حيث أسلم الروح صباحا
لكنه سيظل في قلوبنا وذاكرتنا يتبختر بتاج :المعلم وما أعظمه من تاج !!
مسقط - عبدالرزاق الربيعي
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1179 الجمعة 25/09/2009)