أقلام حرة

في ذكرى انتفاضة (17 آذار 1999) في البصرة .. شهداء ومواقف / عبدالكريم خليفة جابر

ليلة زفاف الزهراء .. سقطت اسطورة القوة الخامسة في العالم وتحررت البصرة ثاني اكبر مدن العراق لليلة وساعات نهارية ملتهبة ومتوترة يتطلع فيها الخيرون وغيرهم ممن التزموا بيوتهم ومساجدهم للخلاص من الظلم المتميز عبر التاريخ ولانطلاق الشرارة الى باقي المدن ليولد عراق الحرية والعدل وتنتهي حقبة الاعدامات والتهجير والسلب .. في ثورة انتصرت فيها دماء شهداء وعزيمة مرابطين على قوة هائلة وترسانة ضخمة واعداد غفيرة .. ثورة جعلتهم شراذم لايميز احدهم طريقا الهروب من الهلاك.

ثورة اذهلت الصديق قبل العدو .. فالصديق في الداخل والخارج لم يكن يتوقع او لم يكن يرغب في هكذا انتصار لامع يحسب لشباب ابطال رباهم السيد الشهيد محمد الصدر وزرع فيهم انبل الصفات الحميدة الرائعة وفي مقدمتها الشجاعة الفائقة والتضحية والايثار . اما العدو فقد كانت خسائره الفادحة وهروبه من معاقله ضربة قاصمة اسقطت كل اجهزته واستعداداته وتسليحه الكبير.

هذه الانتفاضة لم يكتب لها ذلك النجاح الملحوظ لولا تضحيات ابنائها الذين ارتحلوا شهداء مضحين بأنفسهم وكل مايملكون تاركين الدنيا وملذاتها . المواقف والبطولات التي سطرها هؤلاء الشهداء لايمكن حصرها مهما حاول الكاتب او الباحث ومهما صرف من جهد ووقت .. فهم رحمهم الله كانوا يتسابقون الى الموت متأبطين اكفانهم رافعين رؤوسهم وهم يتطلعون الى الجنة والرضوان . ومن المواقف الكثيرة اذكر هنا بعض الامثلة وحسب ما تسعه المقالة وذوق القاريء.

- الشهيد السيد أسامة الموسوي رحمه الله تعالى كان صابرا شجاعا ذا حكمة وهمة عالية.. عندما كان في سجون مديريات امن السلطة الظالمة كان يعلم ان مصيره الاعدام ولاخلاص من ذلك الا بمشيئة الله تعالى ولكنه كان يصبر ويشجع الشباب الذين كانوا معه في السجن عند اخذهم للتحقيق والذي كان تعذيب قاس جدا وذلك لكي لايعطوا اي معلومات او اعترافات عن الآخرين .. وكان يوعدهم خيرا ويتبرع لهم بقسم من طعامه والذي كان قليلا جدا لايكفي الا للبقاء على قيد الحياة وحسب مانقل ممن كان معه في السجن كان يعطي قسم من حصته من الماء الى باقي المعتقلين معه ويكتفي بالقليل.

- الشهيد حسين جمعة .. كان رحمه الله تعالى نشطا شجاعا قولا وفعلا وله مواقف كثيرة ومنها موقف يتذكره اغلب ابناء منطقته حيث ان البعثيين وعناصر الأمن عندما جاؤوا لاعتقاله لم يجدوه فاعتقلوا زوجة اخيه وحينما عاد الى بيته اخبره الجيران ان يغادر المنطقة وتوسلوا اليه كثيرا لكنه رحمه الله رفض الانسحاب قائلا ( انهم يريدوني انا فلماذا يعتقلون النساء .. وسوف اذهب اليهم بنفسي ) فاعتقلوه بعد ذلك وكان له مااراد حيث افرجوا عن المرأه وهو خلاف ماكانوا يفعلون مع عوائل الشهداء والمشاركين حيث اودعوهم جميعا ..رجالا ونساء واطفالا في سجن البصرة المركزي.

- الشهداء مهند زهراوي جاسم وعدنان عبدالحسين العبودي وحسن خلف طيب رحمهم الله تعالى .. لم يستطيعوا المشاركة مع الشباب الثائرين ليلة الانتفاضة ولم يلتحقوا ليلتها بركب الشهداء ، جاؤوا في اليوم التالي واغتسلوا واستعدوا للشهادة فاقتحموا مقرا امنيا بعثيا فيه الكثير من البعثيين وخاضوا معركة بطولية امتدت طويلا لأنهم لم يكونوا يخافون الموت وكانوا يطلبونه بينما اعدائهم كانوا يختبئون خلف المتاريس والدروع .. وبعد ان نفد عتادهم ساروا نحو الموت اشتياقا فعانقوا الشهادة واحتضنتهم بحرارة .

هكذا هم الشهداء .. بهم تبقى حياة الشعوب وبدمهم تخضر الأرض وينبت الزرع وتورق الأشجار .. وبتضحياتهم تتوالى الأجيال وينالون كرامة في العيش وعزة في النفس .. بهم تقام الأوطان ومنهم تستمد استقلالها وكرامتها وحريتها .. بهم تسترد الحقوق وتخلد المبادئ وتستثمر الثروات. بهم يباهي الله تعالى الملائكة لأنهم حفظة الدين وأمناء العقيدة وشريان الصلاح والخير والرحمة .. هم رسل الإنسانية لأنهم ضحوا من اجل القيم النبيلة العليا وفارقوا أحبتهم لأجل الخير ورفاهية الأبناء .. تركوا الأولاد والأموال والجاه وضحوا بها جميعا لأجل الحق ومساره الواضح .. هكذا هم الشهداء .. أنشأت دول وشعوب بفعل تضحياتهم وسجلت صفحات من التاريخ بفضل مواقفهم ..

هل تفي بحقهم الكلمات والكتب والمجلدات ؟ لايمكن الايفاء بنسبة قليلة من تضحيات الشهداء عبر كلمات وجمل وكتب .. مهما حاول الكاتب ان يغطي مافعله الشهداء فانه يبقى قاصرا عن الوصول الى كل المعاني السامية العظيمة التي استشهدوا من أجلها .

 

عبدالكريم خليفة جابر

البصرة / آذار 2012 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2061 الجمعة 16 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم