أقلام حرة

العودة إلى الأوراق المنسية...

وكذلك بضع صفحات كان التشويش والاضطراب هو قاسمها المشرك بي. كنت اكتبها في فترات متقطعة، وأنا أحاول في كثير من الحين أن أدفق فيها إحساسا عابرا أو أسجل فكرة ‏تعبرني كسحابة وما أكثر ما تعبرني.

‏‏ كثيرا ما كنت أصطلي بحرقه الكتابة، كالجسد المسفوح الذي ينتظر لفافات الطبيب ليضمد جروحا ‏غائرة بعيده. حاولت لسنوات أن أعود إلى الكتابة بعد أن أخذني الشغل إلى الهموم اليومية المتراكمة والالتزامات التي لم تكن تنته حتى رمتني أرضا، ولكم كنت أعرف إنها ستطرحني . ضلت الاختلاجات النفسية تفعل بي فعلا رهيبا، تعقد كل غريب الشعور وتصطفي كلاما معقودا ‏مركبا نائيا عن الكلام ونائيا عن الفهم أحيانا فاضطر للكتابة ملقيا الكلام على عواهنه  ليتسنى لي الرجوع إليه حينا آخر أعيد فيه الحياة.

‏قررت أن أتخلص من هذا المارد النائم وأنا أنفض عنه الغبار. لم أكن خائفا من لعنته، لكني قررت أن أستغله في مشروع كتابة جديدة .‏كانت الفكرة في حد ذاتها تحديا لي وملامسة لقدرتي على استيعاب ما لا أستطع استيعابه. فقد ‏كان علي أن أجعل وعاء كتابة مركبة، ومزدوجة، ومضطربة  حتى تستطيع ‏أن تستوعب كل هذا الزخم.

‏كان التحدي الرئيس أن أقوم بعميلة فرز متعبة، وأن أبوبها بقدر المستطاع لأدسها بين ‏تقلباتها. كان هذا الأمر يشاكل الغرق بقدرما يشاكل السباحة، ويشاكل الحقيقة بقدر ما يشاكل الوهم ويشاكل مكوثك أرضا بقدر ما يشاكل طيرانك ويشاكل وقوفك بقدر ما يشاكل سقوطك.

‏لست بحق متأكدا من نجاحي في هذا الرهان، ولا استطاعتي أن أغامر معها في بلاد عجيبة، لكني ‏كنت هذه المرة مصرا على الأمر لذلك قررت أن أختار بعض الحلول. الميسرة التي تمكن من الاهتمام بالكتابة بعيدا عنها وبالكتابة داخلها. كان على أول الأمر أن أعيد كتابتها على جهاز الكمبيوتر بنفسي حتى أكون قد أعدت قراءتها وكتابتها في آن واحد وهذا ما يمكنني فيما بعد من دسها بين الصور بتقنية النسخ والإلصاق.

‏كان الأمر يحق ملهما فالعودة بالخاطر إلى ذكريات صغيرة وملحوظات قد تعيدك ثوان ثم تتركك  يأخذك مثلما يأخذك جمال فتاة عابرة ثم تنساه. كان الأمر بحق بديعا مكتملا في نقصه وفي لغته التي تكون في بعض الأحيان منقوصة متشظية وكان تبويبها في شكل ‏جذاذات يقوي رصيد الأفكار التي أنا بصددها .

‏أن تبدع كان يعني دائما أن تطارح وتقارع امتدادك الفيزيائي في الفضاء وبين عالم الحلم الذي هو كتابة هنا وأن تهادن وتراوغ العالم المحيط أو أن تطب منه الصفح على عالم الغياب الذي تنغمس فيه لحين وتعود فيه لنفسك،وكان هذا الأمر يطالبني بالمثابرة والمجاهدة وتحمل نظرات العتاب وما أكثرها،وأن أنازع نفسي في علياءها حتى تعود إلى وحيها مثل صدفة ممهورة بالذهب .

‏أخذت مني إعادة الكتابة حوالي الأسبوعين الكاملين من المداومة والتعب ونقلها و‏وترصفها وتشذيبها . كان أصعبها  صفحات لا تحوي غير جمل صغيرة أو ألفاظا متناثرة. كان علي إما أن أعيد كتابتها محترما كل الخطوط التي تتعقب عباراتها المتناثرة والتي تصلها بالأسهم أو أن أتركها وكان الأجدى بعد تفكير أن أسحبها إلى داخل الحاسوب كما هي بتقنية السكنار

‏ كيف تعود إلى أوراقك القديمة وكيفا تقرأها كان هذا الأمر محيرا حقا. وممتعا في صعوبته وفي انزياحه كانت هذه المسألة اعتبارية بحتة بمعنى أنه كان علي اما أن أعتبرها لحظات إبداع أو أعتبرها تسجيلا ولخبطة قلم لم يكن يستطيع أن يرسم جملة واحدة.كان هذا مهما لأن الزمن قيد مثلما هو انفلا ت، فلحظة الإبداع تضل مصدرا بالمعنى اللغوي غير خاضعة للزمن وغير مقيدة إلى الآلة الحاسبة كما أن التسجيل يمكنك من تتبع الخيط الرفيع الذي يربط فكرة بأخرى، ويلجم الأسماء من أن تتقيح حشوا زائدا وكذا

‏تتمدد الفكرة كما يتمدد الجسد المسجى في لفائف الحلم والخيال ويتمدد كما تتمدد سحابة غنية بالماء في سماء أرض مجدبة . تدعوا الأرض وتتسربل بالصلاة حتى تكون خصبة ندية متعبة بخضرتها وسيقان أشجارها مكبلة بجذور زيتونها وتينها وخربوها وفومها وقثائها.

و كذا أنا ممعن في الصلاة وممعن في التيه والبحث والحفر. لا أقلم أظافري إلا لماما ولا أقص شعري إلا قليلا ولا تمشطني أمي وقد نسيت أني مازلت بحق طفلا اخرق ‏كثير السفه وكثير الغلط .

‏يتمتدد الكلام على هذه الصفحات مثلما تتمدد حبيبة على فراشي ويتمدد الحب كما تتمدد على خديك قبلة، ومثلما أنام على شفة فاتنة، أحلم فيها القبل. فالكتابة حب والحب تيه وإغواء ونقيصة،والحب شعر والشعر إغواء ومناسبة فرح وترح فى آن

‏كان الشعر مناسبة فى كل الذي قرأته قبل هذه الجملة فله عندي قصة وله عندي صعوبة. فقد كان في بعض الأحيان يقترفني حتى كأنني مجنون يخور مثل ثور أسطوري، كنت مضطرا إلى الكلمات البسيطة القليلة والغنية عوض فسحة النثر. ولطالما استبد بي الشعر حتى أنه لا يتركن إلا في مخاض عسير وفي مدار هو بحق مدار الرعب والرهبة ومدار ‏الجنون

‏كان الشعر يأسرني ويغمض عينيا ويكبلني إليه مثل ورقة التوت التي تغطي عورة حواء ‏وما أجمل حواء بلا ورقة التو ت، وما أجمل أن تكون التضاريس عورة المنبسط. كان الشعر يمنعني عن النثر، وكان النثر يرجوني وأرجوه وكان يرفعني ثم يلقنيى، كأنني إذ أطير أقع وإذ أقع أطير مثل جناح بلا تجربة .

‏قد تقف أمام الجنون والحكمة في آن واحد وتقف عند النثر وعند المفردة البسيطة التي تهدي ‏لك المعنى متسقا ومتعاونا غير صعب ولا طاغ .‏ كنت أريد بحق أن أحكم كل تك الخيول البيض التي ترتع في خضرة المعنى وتجعلها كما يجعلها مدرب السرك، تسير على تلك المساحة فى انتظام حلو ورتابة قوية لا تهتز بعاصفة كحافر يطأ اليبس ويطأ أيضا اللين، لكنه يتقدم على نغم السياط وقد تكون الإرادة نورا بين عالم الكلمة الشعرية وعالم الكلمة التي تنطقها سلالة النثر.

‏كنت أود في بعض الحين أن أفلح في مناصفة الطريق وإخراج بعض بريق الضوء إلى الكلمة الناطقة واذا أفلحت فسيكون بإمكاني أن أوجه الكتابة نحو إشراق الحلم والخطف واللمعان المعشي... لا أزال في الأنين حتى أكون موتا وحتى تكون الورقة حجرا يدمغ السهولة. هل يمكن أن يكون الصراع بين جلال الشعر وجلال النثر معركة صارخة  تدور في ذهني، تشغل أكثر ما تشغل مهجتي وكياني ولا تدعني إلا نبضا متفرجا ونبضا عميقا في أرض المعركة لا تستطيع المشي فيها دون أن تقطع الجثة طريقك وتقتحمك الرصاصة .

‏الغريب أن كل هذه التداخلات قد توحي بالخصوبة، لكنها عقم، يجعلك بليدا متنافرا غير قادرا على الترصيف وهو أمر صارمقلقا حقا. فأنا أريد أن أحكم أمواج تلك التأملات وأخضعها إلى سياق الجملة والنسق وسياق الحكاية الذي لا يكون إلا وليد تتابع الحدث ودخول الزمن وارتفاع الكلمة

‏كيف تمضي بعيدا بنفسك وبآلائك وكيف تمضي بعيدا عنك وبعيدا عني وبعيدا عن بوارق السحب وكيف تمتص الصاعقة إذا لم تكن قادرا على استيعاب الشحنة التي تستبد بك وتجعلك أسيرا فارغ الفاه مترصدا بغير النزول من الشعر

‏النزول هنا ليسر عملا فكريا أو تمرينا فقط ولكنه تصميم على أمر قد لا يكون لك. يقترب منك ليبعدك في عنف نحو الجدران ولك أن تتصور كل هذا الألم وكل ما يمكن أن يجاوز معنى الألم. أليس الحطام ألما داميا وصورة تضلل.؟

‏. النثر...النثر هكذا كنت أنادي وأنا على غير عادتي أصارح الكتابة إني كنت اتبع في الشعر الإيقاع لا الوزن وهذا ما جعلني مضطربا بين صورة شعرية ونفس دافق المجاز وبين وزن يأسرني. كانت الطامة الكبرى يوم عمدت إلى شعر محمود درويش أمارس قراءته وأمارس عشقه. وكان أكثر ما يأسرني فيه هو قوته وإيحاءه بالموت والتغني بالنهاية وكان ظني به أنه ينظر إلى كل حياته ويقولها وهو يقدم كفنه ويعد جسده للتحلل وللتراب

‏كان قويا باهرا، جليلا،خارقا، مفعما ومقيدا ومرسلا. كان رسوليا وجداريا. ضل كل هذا يدفعني إلى قول الشعر ويدفعني معه الى التورط فيه وكان خطنى في قراءة شعره مأسورا بشعرتيه الفذة واقترابه من التفاصيل التي كانت تطيني الانطباع أنه انفك عن الوزن ودحا إلى النثر أو ما بات يعرف بقصيدة النثر وكان هذا الأمر خطيرا

‏تلد الرحلة المسافة وتلد المسافة البعد ويلد البعد الرقم ويلد الرقم انغماسك في العد . فان كان بسيطا كفته أصابعك وأن تعقد لم يكن لك إلا أن تأخذ ورقة وتمتطي جداول الضرب والجمع والطرح، أي أن انشغالك يجب أن يكون مؤسسا على الحقيقة الرياضية وعلى النسق

‏النثر إذا أسر وعوانله وخدمه مردة كزبانية جهنم تدخله بالرغبة وتتمتع فيه بالمثابرة وإلا لفظك وطرحك أمام قضبانه بعد أن يكون جعلك ظلا من الضلال الكثيرة التي تحيط حياتك وتجعلك شغلا في مدار العادة والحاجة والفاقة الدائمة رغم الغنى.

‏إلا أن النثر صنو الشعر ممارسة محرمة واشتغال بالحب والعشق والبدعة والحلم والإحلام وبارتكاب الحياة. وهو إذ يكون كتابة يكون نصا وإذ يكون نصا يكون جسدا يخضع عند الولادة للمشرط وللأداة وهذه محنته الأزلية ومحنة كل كتابة مبدعة قريبة ‏ من الحلم ومنغمسة في الانفصام والازدواج والإرتواز. وكذا متعة ومتعة ولحظات عذاب متمتع في اللذة. هو لحظات من السحر وأصوات من مزمار داود وقوة سليمان .

‏أنت كما أنت ضالع في أسمائك ومتجذر داخلها،و متأجج في أنانيتك ووحدتك وعزلتك وليس هذا غير بعض الحقيقة التي لا ترض أن يعقدها في صوتك ولا ترض أن تفسح لها سماء غير السماء التي تؤويني وتؤويك .تمتطي السماوات السبع لان سماء واحدة لا تكفيك. وكذا يكون النثر مثل الشعر والقص مثل القصيدة وكذا تعود لتغني ألمك بكلمات ليست إلا مجازا كالشعر ينتصر فيها لأنه لمعانها وكذا الكتابة كل الكتابة .

 

سعيف علي الظريف

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1253 الجمعة 11/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم