أقلام حرة

كيس الملح الإيراني

MM80دهشت كثيرا عندما قرأت عبارة صنع في إيران مكتوبة على كيس الملح الصغير الذي اشتريته من احد محال بيع المواد الغذائية، لم أكن أتصور بان الحال وصلت بنا إلى هذه الدرجة من الاعتماد والاتكال على الآخرين، بحيث أصبحنا نستورد حتى ملح الطعام من دول الجوار !. وأمعنت النظر في ما هو معروض أمامي من سلع مرصوفة بعناية، فكانت كلها تحمل أسماء البلدان التي أنتجتها، صنع في تركيا، في السعودية، في مصر… لكني لم اعثر على سلعة كتب عليها صنع في العراق.

بالتأكيد لست وحدي من اشترى ذلك الكيس الصغير من الملح، هناك الملايين غيري يشترونه، ومحصلة عملية البيع والشراء هذه، هي عملية تجارية واقتصادية كبيرة لايعود نفعها إلا على الدولة المصدرة، فأبناؤها من رجال ونساء منهمكون في العمل، وهم مسرورون بما يتقاضونه من مدخولات شهرية، بعيدين كل البعد عن الأفكار السوداوية الهدامة التي لا تعتمل إلا في مخيلة العاطلين عن العمل .

في الزمن الماضي القريب كانت منطقة جميلة الصناعية في مدينة الصدر تعج بالحركة والنشاط على مدار الساعة، مكائن مصانعها لا تتوقف عن العمل إلا لأغراض الصيانة، وأفواج العمال من كلا الجنسين تدخلها صباحا، لتستبدل بأفواج أخرى في المساء، مختلف البضائع والسلع كانت تنتج من هناك، لكنها اليوم، وللأسف، أمست مهجورة، كمقبرة قديمة، بعدما صدئت مكائنها، وخمد هدير محركاتها، وهجرها عمالها.

لقد سال حبر كثير، وارتفعت أصوات الوطنيين وأهل الخبرة، مطالبة بضرورة التصدي الحازم لظاهرة الإغراق السلعي في السوق العراقية، وما يرافقها من دخول للأغذية الفاسدة، والبضائع الرديئة، وما ينجم عن ذلك من نتائج بالغة الخطورة على الدولة والمجتمع العراقي بصورة عامة، إلا إننا لم نر تحركا ملموسا في هذا الاتجاه.

إن ما يتسبب به الإغراق السلعي من أضرار فادحة بالاقتصاد العراقي مسألة لا تعنى بها الدول المصدرة ومؤسساتها الصناعية، فهي تعمل وبكل ما أتيح لها من وسائل على أن تبقي العراق يدور في فلكها، وتحرص على أن لا يستعيد عافيته، وتتأهل مصانعه، وينهض اقتصاديا واجتماعيا، إنها ليست على استعداد لأن تخسر سوقا كبيرة رائجة لبضائعها تستنزف من خلالها أموال العراقيين الطائلة بكل سهولة ويسر. وبالتأكيد فأن هذه الدول تستمتع كثيرا برؤية عراق تتجاذبه الصراعات والأزمات السياسية، وتطوح بأبنائه التناحرات الطائفية والعرقية ويسود فيه الإرهاب، فالعراقيون هم من أخطر منافسيها إن توفرت لهم الظروف الملائمة لاستغلال مواردهم الطبيعية وإمكانياتهم الاقتصادية الهائلة، لكن أخطر نتائج ظاهرة الإغراق السلعي، تكمن في تخريبها لشخصية الإنسان العراقي وتكوينه النفسي، من خلال تعطيل طاقاته الخلاقة الكامنة في خامته، والتي تميز بها عبر السنين، فهو سيركن إلى الراحة، ويستمرئ العجز ويدمن عليه، وسيتعاظم الآخرون في عينه بينما هو يأخذ بالتآكل والضمور شيئا فشيئا. ولن تبخل الدول المصدرة عليه بما يريد من سلع وبضائع، ولكنها بضائع مدافة بالسم، السم الذي يصيب بالشلل ويستنزف الأموال .

إن مجتمعا تغرق أسواقه بما ينتج الآخرون، ويتعطل أبناؤه عن الحركة والعمل، سيكون الحديث عن استتباب الأمن فيه حديثا لا طائل من ورائه، فكلما خرجت المؤسسات الأمنية فوجاً من الشرطة، خرج رحم البطالة أفواجا من العاطلين، أولئك الذين إذا ما زادت فترة تعطلهم عن الحد المعقول، فأنهم لن يتورعوا عن ارتكاب أي شيء لقاء حفنة من الدنانير!. وهكذا سنبقى ندور في حلقة مفرغة من العنف والقتل والاستهلاك.

كيس الملح الإيراني الصغير ما زال في يدي، يشعرني بالعجز والضآلة، والسلع المرصوفة فوق رفوفها بعناية تحمل أسماء الدول المصنعة لها، تسحق كياني وتلغي وجودي . أخرجت سيكارة من علبة ممهورة بصنع في فرنسا، وأشعلتها بولاعة صينية . عندها أدركت لماذا كل شيء في بلادي فقد طعمه .

 

طارق الربيعي

في المثقف اليوم