أقلام حرة

الفيل والحبل الصغيـــر

tarik alrobaieتقول القصة التي قرأتها على احد المواقع الالكترونية، بأن احد الأشخاص دُهش عندما شاهد في حديقة الحيوانات فيلا كبيرا رُبط من إحدى قدميه الأماميتين بحبل صغيــر، وتسائل في حيــرة عن السبب الذي يمنع هذا المخلوق الضخم من قطع الحبل والتحرر منه؟. فتوجه بهذا التساؤل إلى مدرب الفيل الذي أجابه قائلا : بأننا وبعد ولادة هذه الحيوانات الكبيرة نعمد إلى ربطها بمثل هكذا قيود، وهي قادرة حينذاك على تقييد حركتها، والحد منها. وعندما تكبر الحيوانات يبقى اعتقادها قائما وراسخا باستحالة خلاصها ما دامت مشدودة بتلك الحبال الصغيرة، التي اعتادت عليها منذ ولادتها، لذا فهي يائسة ومستسلمة لمصيرها ولن تحاول الخلاص منه ! .

يبدو لي إن هنالك تشابها كبيرا بيننا نحن العرب وبين الحالة التي عليها الفيل في القصة. إذ إننا ننشأ في بيئة اجتماعية تشدنا إلى ثقافتها بحبال كثيرة منذ نعومة أظافرنا، وتحدد إتجاهاتنا الفكرية وأنماطنا السلوكية، وترسم لنا مسارات نظل نسير ضمن حدودها مدى الحياة دون أن نحاول مجرد التفكير بإيجاد مسارات أخرى، والتحرر من القوالب والأطر التي أعدت لنا في مرحلة طفولتنا المبكرة . هذه التنشئة الاجتماعية ومن خلال معاييرها وقيمها المتخلفـة لا تهدف لأن يتأقلم الطفل مع محيطه ويتبع قواعده العامة كما هو عليه الحال عند بقية الأمم الأخرى، بل تهدف إلى تدجين الإنسان وحيونتــه، وجعله خاضعا للمؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعيــة ومكبلا بقيودها ليكون فيما بعد نموذجا للعبد الخانع المستكين المستسلم لقـدره .

حبال كثيرة هي في الواقع أوهى من خيط العنكبوت، جعلتنا نعيش على نمط واحد، ونسق ثابت من التدين نؤمن بأنه الأصح والأقرب إلى الله . كبلتنا بعادات وطقوس وأعراف وتقاليد ترسخت في وعينا كحقائق ثابتة غير قابلة للتبديل أو الإصلاح . وحددت لنا ما هو الحلال والحرام، والصح والخطأ . وباختصار فقد ألغت وجودنــا، وعطلت تفكيرنــا، وجمدت طاقاتنا، وجعلتنا نستمرأ عيش البهائم التي لا هم لها سوى أن تأكل وتتزاوج ويفترس بعظها البعض .

ولكي نرى صورتنا بشكل أوضح علينا أن ننظر إلى الأمم المتقدمة التي أطلقت العنان لعقل الفرد كي ينتج ويبدع ويبحث عن مناهج جديدة في التحليل والنقد، وكيف يعيش حالة من التفاعل المستمر الخلاق مع متطلبات الحيــاة ومستجدات الظروف، وينعتـق من كل ما هو تقليدي في مجالات التدين والتعليم والإدارة والتربية والصناعة .. وكيف أن الإنسان هناك يشكل قيمة كبــرى لا توازيها أية قيمة أخرى، وإنه مستقل بفكره وآراءه ومعتقداته التي يتوصل إليها نتيجة البحث الموضوعي العقلانــي دون التقيد بشروط سابقة أو الارتباط بحبال صغيــرة كتلك التي عطلت تفكيرنا وجمدت طاقاتنا وأهدرت كرامتنا . إن مجرد المقارنــة المتجردة من العصبيات والأصوليات ستكشف لنا حقيقة الواقع المتعفن الذي نرتع فيــه، ومدى جبننا في الانعتاق من الأنساق الفكرية والأنماط السلوكية والمعايير التي حددت لنا سلفا، وألغت تلك الدرة الثمينة التي وهبت للإنسان باسم العقل . وليس أمامنا سوى التحلي بالشجاعة لنقطع هذه الحبال الصغيرة الملتفة حول أعناقنا مثل الأفاعي، لنصبح بشرا جديريــن بالحيــــاة، لا كالفيل العملاق الأبله العاجز عن التفكيــر والمكبل بحبله الصغيــر! .

 

طارق الربيعي

في المثقف اليوم