أقلام حرة

التجنيد الطوعي لا التجنيد الإلزامي

tarik alrobaieالوقت لم يحن بعد لكي تفكر الحكومة العراقية أو البرلمان بسن قانون للتجنيد الإلزامي، وكل الأصوات التي تدعو اليوم للعمل بالقانون لا تعي نتائجه وتداعياته الخطيــرة . وإنما هي تلجأ إلى مثل هكذا قوانين ترقيعية غير مدروسة بعناية ودقة لكي تقول بأنها تعمل لصالح الوطن والشعب. إن الظروف الأمنية والسياسية والاجتماعية المضطربة التي يمر بها العراق اليوم غير مشجعة لإصدار مثل هكذا قانون له عواقب وخيمة في حال فشله. إن الذين يدعون لإصداره والعمل به يبررون دعوتهم في إن القانون سيحفظ للدولة هيبتها، وانه سيساهم في الحد من انتشار فايروس الطائفية. بيد ان القانون وبحسب رأيي سيفقد الدولة ما تبقى لها من هيبة، ويخلق لها أعداء جدد هي في غنى عنهم .

إن معظم المواليد التي سيتم استدعائها في حال تطبيق القانون سترفض الالتحاق ولن تنخرط في المؤسسة العسكريــة، وستقف أجهزة الدولة عاجزة عن ملاحقتها وفقا للقانون . لضعف هذه الأجهزة أولا، ولوجود تحدي الإرهاب ثانيــا . كذا فان مشاعر العداء ستتفاقم في نفوس هذه المواليــد تجاه الدولة، وربما تنخرط في ممارسات إجراميــة لا سيما وهي تسمع بان أبناء المسئولين غير مشموليــن بالقانون وهم فعلا سيكونون غير مشمولين إلا بالاسم فقط . إذن فالدعوة للعمل بقانون التجنيد الإلزامي في الوقت الراهن هي كلمة حق يراد منها باطل .

لكن هذا لا يعني إهمال قانون التجنيد الإلزامي والإعراض عنه تماما، وعدم التفكير بوسائل ملائمة، تمهد لإصداره في المستقبل القريب، لما له من أهمية بالغة في استقرار الدولة، وفرض سيادتها على كافة أراضيها. إن المؤسسة العسكرية إذا ما نأت بنفسها عن التدخل السياسي، وأديرت بمهنية عالية، تكون بمثابة البوتقة التي تنصهر فيها كل الهويات الفرعية التقليدية، طائفية، قومية، قبلية، لصالح الهوية الوطنية الأم، ووسيلة مثلى لإحداث عملية الاندماج الاجتماعي لمكونات وشرائح المجتمع المتنوعة، فضلا عن إن مهتمها لا تقتصر على الدفاع عن الوطن وحدوده من أي عدوان خارجي بل تتعدى إلى مهام كبيرة أخرى، خاصة في أوقات الكوارث الطبيعية كالفياضات والزلازل ...

يبدو لي إن الطريقة الملائمة الممهدة لإصدار قانون التجنيد الإلزامي في المستقبل القريب تتمثل في إستدعاء مواليد معينة لغرض أداء خدمة العلم، ولفترة محددة، بشرط أن يكون الالتحاق طوعيا بلا إكراه، وبذلك نكون قد أسهمنا في إنقاذ الآلاف من الشباب العراقي من براثن البطالة، ولم شملهم في معسكرات نموذجية يديرها أشخاص مهنيون يعملون على تدريب المجندين وفقا للسياقات العسكرية الحديثة المعمول بها في دول العالم المتقدمة، ويؤسسون للقيم الايجابية الفاعلة في تنمية الشعور بالمواطنة والمساواة، من اجل إفشال كل المخططات الداخلية والخارجية التي تعمل على زرع روح الفتنة والكراهية بين أبناء الوطن الواحد. ولكي تتمكن المؤسسة العسكرية أن تلعب دورا فاعلا في المشاركة المثمرة في عملية بناء الدولة والمجتمع على أسس وطنية خالصة. سيصبح هؤلاء المجندون رديفا للجيش العراقي في تعزيز الأمن القومي، وسندا للشعب العراقي في الملمات، ومن خلال ضباطهم وآمريهم سيتم ترشيح المتميزين منهم للتطوع بصورة دائمة في صفوف الجيش بأصنافه المختلفة بعيدا عن المحسوبيات والواسطات. سيحظى هؤلاء المجندون بمكافأة نهاية الخدمة، ويكون لهم الأولوية في الحصول على فرص العمل في دوائر الدولة، وبعض الامتيازات الأخرى، بعد أن صقلت شخصياتهم، وهذبت أفكارهم، وأعدوا إعدادا جيدا لمواجهة أعباء الحياة، وتغلبت الهوية الوطنية فيهم على بقية الهويات الأخرى المعطلة لروح الانتماء الوطني. لا بد للجيش العراقي من احتياطي مؤهل من كافة الجوانب ليستند عليه في مهماته الملقاة على عاتقه، مثل بقية جيوش العالم، وفكرة الالتحاق الطوعي بخدمة العلم ربما تكون مناسبة لهذه الغاية في الوقت الحاضر، وممهدة لإصدار قانون التجنيد الإلزامي في المستقبل. فضلا عن إنها ستساهم في محو الصورة المشوهة التي ترسخت في أذهان العراقيين حول التجنيد والخدمة العسكرية، جراء سياسة النظام الدكتاتوري البعثي البائد، حينما كانت المؤسسة العسكرية تعمل على إذلال المجندين وقهرهم، وسوقهم لمحارق الحروب بلا مبالاة، فالجيش آنذاك لم يكن إلا أداة طيعة بيد النظام، يديرها وفقا لرغباته ونزواته المجنونة، وآلة عسكرية ضخمة تستخدم لقمع الشعب، وحماية النظام وديمومته. إنها ليست دعوة أو وسيلة تهدف إلى عسكرة المجتمع، بقدر ما هي إحدى الوسائل التي من خلالها تحتضن الدولة أبناءها وترعاهم وتضعهم نصب أعينها. لقد قالها قدماء الصينيين، إذا زرعت لسنة، فازرع قمحا، وإذا زرعت لعشر سنوات، فازرع شجرا، وإذا زرعت لمائة سنة، فازرع رجالا .

 

طارق الربيعي

في المثقف اليوم