أقلام حرة

لو قطعوا أرجلنا واليديــن!

tarik alrobaieفي سنة61 للهجرة وفي دمشق عاصمة الأمويين وبحضور الطاغية يزيد وجمع من الناس ألقى الإمام علي ابن الحسين خطبة هزت بكلماتها الصادقة النابعة من أعماق قلب مكلوم أركان البيت الأموي وكيانه السياسي . وهتكت الأقنعة التي تستر وراءها طواغيت الأمة، ورفعت الغشاوة عن أعين الناس فبانت لهم الحقيقة المرة . وبالرغم من محاولات يزيد إسكات ذلك الصوت الناطق بالحق إلا أن الإمام لم ينزل إلا بفضيحة آل أبي سفيان ومن أتبعهم ووالاهم .

وعلى أثر تلك الخطبة حدثت ردود أفعال غاضبة لدى الناس تمخضت فيما بعد عن ثورة عارمة أطاحت بيزيد وسلطته المستبدة..وبالإمكان اعتبار تلك الخطبة النواة الأولى التي أسست للمنبر الحسيني الذي أخذ على عاتقه توعية المجتمع على أمور دينه ودنياه وحثه على رفض الظلم والاستبداد بكافة أشكاله .. واليوم ومع كثرة الفضائيات والإذاعات ومع ذلك العدد الكبير من الخطباء يجب التأكيد على قيم الحق والمبادىء الإنسانية التي نادى وضحى لأجلها الحسين .

أسوق مقدمتي البسيطة هذه بعدما شاهدت ومن على أحدى الفضائيات أحد الخطباء وهو يلقي بمحاضرته الدينية أمام حشد كبير من الناس . فاستوقفتني هذه القصة التي رواها الخطيب في معرض كلامه عن سيرة الإمام الحسين ومكانته . وملخص قصته التاريخية تقول إن المتوكل العباسي أمر بمنع زيارة قبر الإمام الحسين، ومن أبى ذلك فعليه أن يدفع مبلغا كبيرا من المال أو الذهب حتى يسمح له بزيارة القبر فامتثل الناس لهذا الأمر !! ودفعوا لجلاوزة السلطة ما يريدون !. فما كان من المتوكل إلا أن يتمادى في غيه ويصدر أمرا آخر مفاده أن من يريد زيارة القبر الشريف يجب إن تقطع يمينه !. ومع هذا توافد محبي الإمام ليقدموا أيديهم غير مبالين ولا متأسفين على أيمانهم التي ستقطع . وحدث أثناء عملية قطع الأيدي هذه إن تقدم أحد الزائرين إلى السياف مادا له يده اليسرى، إلا أن السياف رفض وطالبه بيده اليمنى !. عند ذلك رفع الرجل عباءته فإذا بيده اليمنى مقطوعة وقال: لقد قطعتم يميني في السنة الماضية ! . وعندما وصل الخطيب إلى هذا الجزء من الرواية هتف الحاضرون بأعلى أصواتهم بالصلاة على محمد وآل محمد .

وبدوري الآن أتسائل عن المغزى المراد والمستفاد من هذه الرواية؟ أليس الطاعة العمياء والخنوع الواضح للسلطة الجائرة هو السمة الغالبة فيها؟ ثم أما كان الأجدر بهؤلاء الذين اصطفوا لتقطع أيديهم وهي مصدر رزقهم الوحيد أن يحملوا سيوفهم ويحرروا قبر الحسين من تلك الطغمة الفاسدة التي حالت دون زيارتهم له؟ بل أين تلاشت قيم البطولة والشهادة ومبادىء الحسين العليا عند هؤلاء وهم خانعون ليس لهم سوى الامتثال لأوامر الطغاة ؟ وهل أستشهد الحسين لأجل أن يكون أتباعه وشيعته على تلك الصورة المذلة؟ !. أراد الطاغية يزيد من الحسين كلمة واحدة وحشد لأجل ذلك الآلاف المؤلفة من العتاة وشذاذ الأحزاب لكن أبا الأحرار أبى أن يعطيها ويكون تابعا ذليلا لسلطة جائرة منحرفة . فقاتل مع كوكبة من أصحابه وآل بيته الأطهار حتى نال الشهادة وكان استشهاده نصرا كبيرا . ذلك الحسين الذي قال (لا أعطي بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد) كيف يمكن لمن أتبعه وسار على نهجه أن يكون بتلك الصورة التي رسمها لنا الخطيب في روايته ؟!.

نعم أن المتوكل العباسي منع زيارة قبر الإمام، وأجرى عليه الماء ليخفي آثاره. ولكن أن يقف الناس بهذه الصورة البائسة التي وردت في الرواية وهم يقدمون أيديهم للسياف فهذا مما لا يستسيغه عقل ولا منطق . لاسيما وان هؤلاء هم شيعة الحسين والسائرين على نهجه الرافض للذل والعبودية . وما أظن هذه التفاصيل إلا من مخلفات ودسائس وعاض السلاطين أرادوا من خلالها تدجين المتلقي وقبوله للظلم والطغيان وعدم سعيه لأحداث التغير في واقعه المتردي .

أن هذه الرواية وأمثالها وبما تتظمنه من قيم ومفاهيم استسلامية واضحة جديرة بأن تخمد النزعة التحررية عند الناس وتجعل منهم مجرد قطعان بشرية راضية خانعة للسلطة الجائرة تفعل بهم ما تشاء دون أن يحركوا ساكنا لمقاومتها والتمرد على قوانينها المستبدة . إن القيم ستجد طريقها ميسورا كي تترسخ في أذهان العامة وهم مستغرقون في الإنصات للخطيب ومن ثم تتحول إلى سلوكيات لا يرون فيها أي ضرر على دينهم ودنياهم ! لاسيما وان هؤلاء هم من عامة الناس البسطاء. فعلى خطباء المنابر الحسينية الألتفات إلى هذه الناحية الخطيرة جدا، وان يعوا دورهم الكبير في بناء المجتمع البناء الصحيح وان يغرسوا فيه تلك القيم والمبادىء السامية الحقيقية التي نادى بها أبا الأحرار الإمام الحسين (ع) . لعل ذلك سيكون سببا في توعية الأمة وإيقاضها من سباتها، لكي تلتفت إلى واقع حياتها وتسعى جاهدة إلى تغيره، وتسير على نهج الإمام الرافض لكل أشكال الظلم والإستغلال والفساد .

 

طارق الربيعي

في المثقف اليوم