أقلام حرة

"واويّة" العراق

من منّا لم يسمع بقصّة "الواوي" الذي أعلن أنّه ذاهب إلى مكّة؟

ومن منّا لا يعرفُ سبب قراره ذاك أو لا يُحسنُ استنتاجه؟

لقد فكّر ودبّر وقرّر ثمّ أعلن على رؤوس الأشهاد من ديكة ودجاج أنّه ذاهب إلى مكّة عازم على الحجّ تبييضا لصفحته وتلميعا لوجهه، بعد أنّ أدرك أنّ جمهور الدجاج اكتشف مدى غدره ومقدار كذبه ورأى فيه مراوغا لا يؤمن له جانب ولا يؤتمن على مال وعزيز.

من منّا لا يعرف أنّ الكذبة الأولى تصعّبُ الثانية. وأنّ هذه وتلك تصعّبان الثالثة، فكلما ازداد الحفر بمعول الكذب ازداد السقوطُ عمقا والقاعُ قاعا..

ومن منّا لا يعرف أن الصعود والتسلّق يتناسب عكسيا مع عمق المسقط وبُعد غيابة الجب عن فوهة البئر والنور والحقيقة؟

نعرف كلّ هذا نظريا وفيزيائيا. لكن لنجرّب تطبيق هذه الحقائق على واقعنا السياسي.

أليس ما فعله "الواوي" مع ضحاياه هو ما حاول ساستنا ويحاولون بين الوقت والوقت فعله معنا؟

أوَ لم ينتفوا ريشنا وينشهوا لحمنا و "يمصمصوا" من بعدُ عظامنا التي آبت هشّة طرية؟

أوَ لم يشتتوا شملنا ويفرّقوا كلمتنا ويتركونا نهبا لكلّ ناهب وأضحوكة لكلّ ذي سنّ غير ضاحك؟

سنوات طويلة من المين والكذب واللعب والإخلاف والوعود المستهينة بالعقول الضاحكة على اللحى.

وها هم يعلنون على رؤوس الأشهاد والملأ أنّهم تابوا وآبوا بعد أن اكتشفوا بدعة اسموها "الإصلاح".

وها هم يحاولون أن يوهموا الناس أنّ نفوسهم تنزع إلى الإصلاح وأنّ هذا الإصلاح لقي مثابته في قلوبهم بعد أن ألقت عصا ترحالها فيه.

وهكذا، وبين عشية وضحاها، صار الفاسدون غير فاسدين ولا مفسدين، بعد أن قلبوا لتاريخهم ظهر المجنّ وانطلقوا يبيّضون صفحات أعمالهم السالفة ويمزّقون ما لا قِبل لهم على تبييضها.

لكنّ التصريح بالنيّة وبما تخفي السرائر شيء والفعل الصادق النزيه شيء آخر.

فليس الكفر بسلبيات الماضي هو الدليل، وأقلّ منه الحلفُ على كلّ كتب السماء والأرض، ورفع كلّ لافتات الأرض وشعارات الإصلاح.

ما عاد يكفي الناس أن يشعل هؤلاء أصابعهم العشرة شمعا.

ولا أن يضعوا أيديهم في النار وهم يعلنون تبرأهم من كلّ ما أتوا من فعل.

ما يلزمهم فعله هو أن يخلوا الساحة وينسحبوا من المشهد، وأن يدعوا سواهم يعملون.

عليهم أن يفعلوا كلّ ما في وسعهم وجلّه للتكفير عن سنوات الخراب الذي ألحقوه بالبلد وأهل البلد.

أن يقدّموا، ولن يقدّموا، الأسوة الحسنة والمثل الطيب والدليل القاطع الساطع على أنّ ما جدّ عليهم ثابت فيهم ومطبوع.

أن يبدأوا، ولن يبدأوا، بأنفسهم وبمن قاربهم ليتبعهم المترددون وليصدّق الناس أّنّهم سبّاقون إلى قرن القول بالفعل وبسط الحجة والبرهان على سلوكهم الجديد.  

أن يتنازلوا ويضحّوا ويتسابقوا في خدمة الناس، لا في الظهور أوالتظاهر أو الدعاية الرخيصة والإعلان المكشوف المفضوح.

وعليهم وعليهم وعليهم...

وما أكثر ما عليهم أن يفعلوه ويقدموه!

وقد يصدّقهم الناس في حالهم الجديدة وسلوكهم العتيد،أقول قد. لكنّهم لن يبرئوا ذمتهم من الحساب القديم. 

بمثل هذا السلوك القويم النزيه قد يبدأ الناس الاطمئنان إليهم والتجاوب مع سيرتهم الجديدة الخالصة، ليس بداعي السماح لهم بالعودة وقيادة المشهد من جديد، بل من باب الاختبار وسبر النوايا ونقد ما "استجد".

أقول قولي هذا مكررا كلمة " قد " ألف ألف مرّة.

ولا بدّ من الحذر المستمر والمراقبة الدائمة ومواصلة الكشف والاختبار والمعاينة بعينين يقظتين ورأس واع وضمير حي.

وإلا فسنكون كالدجاج الذي التهمه ابن آوى وهو على تخوم المدينة قافلا من البلد الحرام.

 

  د. بسّام البزّاز

 

في المثقف اليوم