أقلام حرة

الولاية الخامسة

في سنيّ مراهقتي وشبابي المبكّر كنتُ مولعا بحصر أسماء رؤساء الدول وملوكها وأمرائها وسلاطينها. أنظّم القائمة تلو القائمة: القارة والدولة والعاصمة والحاكم.

لم تكن في أيّامنا (ويكيبيديا) ولا (ويكيليكس) ولا أيّ نوع من الـ " ويكي "، بل كانت الإذاعات هي مصدرنا الوحيد تقريبا للاطلاع ومعرفة ما يجري في هذا الركن من العالم أو ذاك.

لم يكن التحديث في قوائمي يمسّ غير الأسماء المصفوفة في الخانة الرابعة بالطبع. فالقارات ثابتة منذ آخر تزحزح وقع فيها، وكذلك العواصم والبلدان، وإن ظهرتْ من عقدين ماضيين ويزيد دولٌ جديدة نتجتْ عن تشظّي دول قديمة، ونقلتْ بعض الدول عواصمها إلى أماكن أرحب وأقلّ زحمة وتلوثا بعد أن ضاقت عواصمها الأصلية بناسها وضاقوا بها.

أمّا الخانة الرابعة فكانت بورصتها مرهونة بمناطق بلدانها وأقاليمها. كانت أفريقيا في ستينيات القرن الماضي تنال استقلالها، وكانت أنظمة الحكم في أمريكا الجنوبية تتقلّب وتنقلب المرة تلو الأخرى، في هذه الدولة أو تلك، حتّى ليظن المتابع أنّ جنرالات الأرجنتين وبوليفيا والأوروغواي والباراغواي وسواها كانوا في رهان على من يصعد إلى سدّة الحكم قبل زميله في البلد الآخر... كذلك كان الحال في بعض بلداننا العربيّة، وإن تحوّل الأمر مع الوقت إلى وتيرة أخف، وبدأت المسافة بين انقلاب وانقلاب تتباعد، بعد أن اكتسب " ثوّار " الأمس الخبرة وتعلموا الدرس وعادوا أكثر دُربة ودراية بأصول المسك بزمام السلطة والحفاظ على مقاليد الحكم حتى استقرّ الأمر لهم ودام السلطان بين أيديهم وتفوّقوا زمنيا حتّى على الملوك، الذين يتوارثون العرش صاغرا عن كابر ولاحقا عن سابق.

كان الأمراء والملوك والسلاطين حكاما مدى الحياة، ما لم يخلع أحدَهم ابنُه أو أخوه وهو في رحلة علاج أو استجمام.

أمّا الأمر في أمريكا وأوربا الغربية فقد كان وما زال مختلفا، فالكلّ هناك ينسحب من المشهد ما أن تنتهي سنوات إدارته من خدمته ليسلّم، بعد أربع سنوات أو خمس أو ثمان، الجمل بما كان يحمل وقت تسنّم المنصب وزيادة إلى رئيس آخر منتخب. بينما حال الروس والأوربيين الشرقيين عموما كان كحال جمهورياتنا وممالكنا: لا يتزحزحون إلا على يد عزرائيل أو على يد اللجنة المركزية للحزب.

وهكذا كان الدكتاتوريون المتمترسون والملوك الوارثون، مثلهم مثل بابا الفاتيكان، يوفرون عليّ عناء تحديث القائمة أكثر من الديموقراطيين الطارئين الراحلين المتجددين.

كنتُ صباحَ أمس أستمع إلى نشرة للأخبار من هيئة الإذاعة البريطانية الـ BBC العربية، وكان من بين أخبارها تجديد انتخاب الرئيس التشادي (إدريس دبّي) للمرة الخامسة.

أقسم لكلّ من يقرأ كلماتي هذه بأنني، ومنذ سبعينيات القرن الماضي، وعلى الرغم من ولعي بجمع أسماء الرؤساء والملوك والأمراء والسلاطين، لم أسمع لتلك الدولة الأفريقية الفقيرة البائسة من أسماء رؤسائها بغير اسمين تناوبا الحكم فيها وتقاتلا على حكم بؤسها وفقرها وجوعها: حسين حبري وإدريس دبّي، الذي جددوا له اليوم لولاية خامسة وهو بعد في الرابعة والستين من العمر... أي في ميعة صباه وشرخ شبابه.

 

د. بسّام البزّاز

 

في المثقف اليوم