أقلام حرة

في صالة العمليات

tarik alrobaieالمستشفى مثل المسجد يُذكر فيه اسم الله كثيرا، وتلهج الأنفس بالأدعية طالبة للشفاء والرحمة . وهو اليوم أكثر روحانية من المساجد التي أصبحت أوكارا للأحزاب السياسية . أصبت برهبة ورعب شديدين عندما طلبت مني الممرضة أن ارتدي الثياب الخاصة بغرفة العمليات، ورغم أن الطبيب قد أكد لي سابقا بأن إجراء عملية لعيني اليمنى لن يستغرق كثير من الوقت، وإنها عملية بسيطة ولا داعي للقلق . لكن الخوف تملكني وكاد أن يشل خطواتي وأنا انظر إلى الطبيب ومساعديه وهم يضعون الكمامات على وجوههم فلا يظهر منها سوى أعينهم التي بدت لي كأنها لمخلوقات مخيفة .

 السرير الخاص الذي استلقيت عليه بدأ يتحرك، وظهر فوقي جهاز تومض فيه المصابيح، وفي منتصفه شاشة صغيرة تتحرك فيها نقاط ضوء لامعة تتجمع حينا وتتبعثر حينا آخر، وتصدر أشعة مباشرة نحو عيني . وفي دوامة الخوف هذه كان لزاما عليً أن أوجه تفكيري إلى ناحية أخرى بعيدا عن صالة العمليات والعيون المرعبة . بدأت أتطلع إلى الجهاز متفكرا بالعقول التي صنعته خدمة للبشرية، وفي تلك البيئة الملائمة التي أتاحت للغرب أن ينتج ويبدع ويعيش حياة مثمرة، بينما نحن العرب متكلسون مستهلكون لا حول لنا ولاقوة . تذكرت قصة رائد الفضاء السعودي، وكيف إن العائلة المالكة وفي منتصف الثمانينات أنفقت ملايين الدولارات كي يتاح لأحد الأمراء أن يكون ضمن طاقم المكوك الفضائي التابع لوكالة ناسا الأميركية . وبالفعل تحقق هذا الأمر وعاد الأمير سلمان بن عبد العزيز من رحلته الفضائية، وحال وصوله إلى الأرض ثارت زوبعة إعلامية كبيرة حوله باعتباره أول رائد فضاء عربي ومسلم . وقد تصدرت صوره أغلفة المجلات وهو يرتدي بزته الفضائية ويرسم على وجهه ابتسامة الظفر والافتخار . وقد صادف أن قام هذا الأمير بزيارة إلى العراق، واجري معه لقاء  تلفزيوني، وجهت إليه المذيعة عدة أسئلة من ضمنها هذا السؤال: ترى مالذي كان يشغل تفكيرك وأنت داخل المكوك الفضائي متخطيا الجاذبية الأرضية وفي حالة انعدام الوزن؟. فأجاب: إنني كنت أفكر في كيفية تحديد القبلة !! . رواد الفضاء الأميركيون كانوا منهمكين في التعامل مع أجهزة بالغة الدقة والتعقيد، وحريصون على أن تتم الرحلة وتحقق أهدافها، بينما رائدنا العربي المسلم كان يفكر في القبلة !! .

 الجهاز الذي فوق رأسي أرسل باتجاه عيني حزمة ضوء قوية أعادتني إلى صالة العمليات ورهبتها، ولمحت يد الطبيب تمسك بشيء ما، فبدأ الخوف يأخذ منحى تصاعديا، ولابد لي أن أفكر بشيء آخر لكي ينتهي الأمر بسلام .

  نعم تذكرت، في نهاية التسعينيات صدر كتاب لأحد مراجع الدين المسلمين عنوانه (فقه الفضاء) وقد تمنيت لو قرأته واطلعت على ما جاء فيه، فعنوانه مثير، وغريب في نفس الوقت . وبعد سقوط النظام البعثي عثرت على الكتاب في احد المواقع الالكترونية، وبدأت أقرأ عن فقه الفضاء . الكتاب صغير الحجم، ويمكن تصنيفه في باب الخيال العلمي، فالمؤلف يجمح به الخيال إلى أقصى الحدود الممكنة للذهن ويفترض أن المسلمين سيصنعون المركبات الفضائية في المستقبل، ويرتادون الكواكب، ويعمرونها ويتصلون بمخلوقات أخرى ليست من جنس البشر . وهو يوضح لهم في كتابه كيفية تطبيق الشريعة الإسلامية في تلك المجرات البعيدة ! . فعلى سبيل المثال يؤكد على ضرورة وجود حاكم شرعي في الكواكب الأخرى التي يصل إليها المسلمون، وإذا تعذر وجود مثل هذا الحاكم فيجب عندئذ العودة إلى الأرض لمعرفة الحكم الصحيح، كذلك يتناول إمكانية تولي أحد المخلوقات الفضائية هذا المنصب إذا كان جامعا للشرائط !. وكيفية الوضوء في داخل المركبة الفضائية، ومالعمل إذا تعذر وجود الماء؟ وهل يمكن تكفين الميت بأي قطعة قماش أخرى إذا ما تعذر وجود الكفن؟ وكيفية أخذ الخمس والزكاة، وهل يجوز إعطاء المخلوقات العاقلة الموجودة في الكواكب الأجرة لقضاء العبادات عن الميت!؟ وتحدث كذلك عن النكاح، والجهاد، والحج وما إلى ذلك من الأمور الفقهية . نحن لم نقدر على صناعة دراجة هوائية ولا حتى قلم حبر جاف والمرجع ينفق وقته، ويجهد تفكيره في كيفية تطبيق الحدود بالزاني واللائط سواء كانا من البشر أو من المخلوقات المفترضة في الكواكب المجهولة !! .

 صوت الطبيب رن في أذنيً: قم بالسلامة انتهينا . خلعت ثياب العملية التي لم نصنعها نحن، وأخذت الأدوية التي لم نصنعها أيضا، وغادرت المستشفى الذي كل ما فيه من صنع أناس آخرين ليسوا من سكان الكواكب، وإنما بشر مثلنا، يأكلون ويشربون ويتناسلون .. بينما نحن قابعون في كهوفنا المظلمة، نتعاطى المخدرات الشديدة المفعول، نسبح في عالم من الأوهام، جاعلين من الدين قيدا كبيرا يكبل أيدينا، ويشل تفكيرنا،ويحبط عزائمنا، والأسلاف الذين ماتوا منذ مئات السنين هم من يحددون لنا مصائرنا، ويوجهون سلوكياتنا، إنهم جاثمون على صدورنا، فرفاتهم ليست تحت الأرض وإنما في تلافيف أدمغتنا . وضعت النظارة السوداء على عينيً فحجبت أشعة الشمس، وغرق الفضاء بلون شاحب . عند ذلك خطر في بالي هذا التساؤل : ياترى ما هي الميزة التي نختص بها نحن العرب دون سائر العالمين بحيث أصبحنا خير أمة أخرجت للناس؟!

 

طارق الربيعي

 

في المثقف اليوم