أقلام حرة

أمِّي التي تركَتْ بيتها بقلبٍ مفرُوم

said ghaydiلم يدركُن الوقتُ لأكون معك في لحظة مغادرتك بيتك، الذي شيدتِه بعيدا عن صخب المدينة، لم يكن هينا عليّ ، أن أتلقى كل ذاك الوجع الذي حملته تلك الصور كلها، وأنتِ تلتقطينها لآخر مرة قبل أن تسلمي المفاتيح للساكن الجديد.

لقد كنتِ تقولين لي يوماً، إن البيوت تسكن أهلها، أكثر مما يسكن الأهل بيوتهم، كان ذلك في وقت البرد، حين أشعلتِ حطب التدفئة، وكنتِ تجلسين قبالتي تتأمليني، وأنا أتصفح سيرة المنتهى، لكاتبك المفضل؛ واسيني الأعرج.

طبعاً لم أكن أعير الأمر اهتماما أكبر، ولم أكن أعِ جيدا ماذا يعني أن تسكن البيوت أصحابها، هذه البيوت التي لا تغدو أكثر من جدران ومطبخ ومرحاض وغرف للنوم وحمام، ودرج وسطح، وتلفاز في البهو، وبعض الزوايا الأخرى.

آه من بيتك؛ هذا الفرد من العائلة، هذا الفضاء الساحر، هذا المكان الشاعري، الحميمي، الذي يأبى أن يبوح بكل حميميات أهله، بكل قصص الناس الذين عبروا، بتعب المعطلين والرفاق الذين كان محجهم في أوج التنكيل والضرب والحصار ومطاردات البوليس، هذا البيت الذي كان عبق شايك يتسلق أشجار "أوزود" وكانت ليموناته تنحني في كرم منقطع لكل الأيادي الممتدة، هذا البيت العائلي الجياش بكل تعابير الحب والكرم، بصخب الأطفال، وبضحكات زميلاتك في مناسبات الفرح الكثيرة، بأناشيد الأوطان وأغاني الحياة، التي تكاد تكون طقسا يوميا، برائحة القهوة، بصوت يديك وهما يدلكان عجائن الرغايِف في الصباحات الباكرة.

كبرتُ خلف البيت، ألف سنة وأنا أمارس طفولتي، ألف سنة وأنا ألعب خلف الباب الخشبي الكبير، كنتُ أحصي سنواتي وهي تسير بسرعة غريبة، وكلما تهتُ عن العدّ، أتذكّر كم عناقا وكم قُبلا، وكم "ماما" ناديتُ في البيت، وكم شتيلة سقيتُ.

مازلتُ احتفظ بحديثك الحزين لأعشاب الحديقة، لكل الشتائل والأزهار، مازلتُ  أحتفظ بودعاتك لشجيرات البرتقال، ولأعشاش العصافير، ومصائد العناكب، في رحيلك الأخير عن البيت، نحب بيتاً، أحبّنا، نحمل بيتاً حملنا، في القلب وفي التفاصيل التي تسكننا.

أنا في حاجة للعودة إلى بيتنا الأول، أريد أن أنام على الكنبة، أريد أن ألهو خلف بابنا الخشبي الكبير، أريد أن أقطف وردة من الحديقة لأضعها في الصباح على مائدة الفطور، وأقول لك كم أحبك.

 أريد أن أسمع صوتك الصباحيّ، وأنت ترددين "ليه يا بنفسج" في خجل الأم، ويديك ملطختان بالدقيق، ورائحة القرنفل والقهوة.

لا أعرف الشاي إلا في بيتنا القديم، لا أميز رائحته إلا في بيتنا القديم، شايك الغريب، وخبزك اللذيذ. "شاي أمي".

هل سيتكرر شايُك في أيّ بيتٍ آخر تسكنين فيه؟ كما ستكرر قصص "حبيبة" وقصص "سلطانة"، هل ستزرعين زهرة الصبار مرة ثانية، وننتظر ليلة وحيدة في السنة لتزهر؟ تركتُ طفولتي وشغبي خلف الباب الخشبي، تركتُ البيت وأسرارنا الكثيرة، وفرحنا وحزننا، وصورنا ونحن نكبر رويداً، كان عمرنا بعمر شجرات البرتقال، وبعمر ورود الغاردينيا، والشجرات الحارسات أمام الباب.

لقد تركنا عنوان بيتنا لكل سائقي التاكسيات.

في المثقف اليوم