أقلام حرة
الساديون الجدد
ما وقع ليس جزءا من فيلم او خدعة سينمائية، انه نقل مباشر من واقع مؤلم وعبثي لطفلة تحترق والناس منهمكون في اخذ الصور، وربما يتسابقون من يحقق سبقا في اثارة الموضوع، او من يفوز باكبر قدر من المشاهدات والتتبع، انها رحلة البحث عن البوز والشهرة على حساب حياة طفلة تلتهمها النيار كما تلتهب النار الحطب .
ما وقع يجعل الاخرس ناطقا، انها فاجعة تعلن موت الاحساس البشري ونهاية الاخلاق وموت الضمير الانساني .
المفكر العربي ابراهيم نصر الله وفي روايته الرائعة زمن الخيول البيضاء، يتساءل امام بشاعة الوضع وماساويته يلزمنا قلوب اكبر لكي تتسع لكل هذا الاسى ولكل هذه الاوجاع والاحزان ؟
قصة هبة الطفلة البرئية والتي صرخت باعلى صوتها طابة النجدة من حشود قررت ان تتفرج، اغلبهم كان مشغول بتصوير حدث الحرق والاحتراق ومشهد النيران .
موت هبة احتراقا والناس يتفرجون ويصورون، يشكل صدمة اخلاقية للجميع وادانة للضمير الاخلاقي وللسلوك الديني للجميع من حضر ومن صور ومن وقف صامتا وحتى وان كان منفعلا، لان الانفعال في وقت الشدة والنواح هو دليل ضعف.
هبة ماتت ورحلت لكنها كشفت لنا عوراتنا وعورات الجهات المسؤولة عن حمايتنا في لحظات الخطر .
ماتت هبة وحملت معها حزنها الى عالم اكثر عدلا وواكثر رحمة حيت مكان الاطفال الجنة، كما قال ذلك الروائي دوستويفسكي في روايته الشهير ة الاخوة كارامازوف حين خاطب الام التي فقدت ابنها ان مكانه الجنة فلا داعي من البكاء .
لا داعي للبكاء على طفل سيكون ضيفا عن الله وسيكون في الجنة انهم ملائكة الرحمان، البكاء الحقيقي ينبغي ان يكون على قيم مجتمع يموت يوميا، مجتمع يعيش فيه الساديون الجدد من يستمتعون بعذابات الاخرين ويتلذذون بصراخ طفلة تحترق .
مانت هبة وانتقلت الى علم اكثر امنا واكثر عدلا وتركتنا في عالم موحش، معلنة نهاية الاخلاق ونهاية القيم وان الانسان فقد ذاته وان جسده قد راكمه الصدأ اجسادنا ولم يعد نحس ولايفكر ولانتحرك ولا يفعل ولا ينفعل، وحتى ان انفعل اخذ هاتفه من اجل تصوير مشاهد نهاية طفلة وهي تموت وسط النيران .
لقد اصبح الفعل هو القدرة الى التقاط الصور وانتاج اكبر قدر من السيلفيات، فالصورة اهم من الحدث
اعتبرت المفكرة الفرنسية الزا كودار ان شبكات التواصل الاجتماعي هاته أصابت العالم بالجنون، وأن العالم فقد عقله بسبب ما يسمى باإليموجي وهي كلمة مستعارة من اللغة اليابانية وتدل على ما يكتب بالصور،
الذات الرقمية التي تجد سعادتها في مغادرة الواقع الفعلي والاقامة خارج ذاتها تدخل في تواصل وتسويق لذاتها عبر السلفي، وهو ما يجعل الذات عاشقة لذاتها وتحقيق « اللذة السيلفية» بحسب تعبير الزا غودار .
عصر السيلفي ادخل الذات عصر الفضيحة وكشف اللحظات الحميمية والخاصة بها وجعلها فعلا متاحا للجميع، ربما لا يعد قيمة الشخص في احتفاظه بأسراره، ولكن بمحاولة الكشف عنها. لذا فموت هبة كشف عوراتنا وان مجرد كائنات سادية تبحث عن سعادتها على ركام احزان الاخرين .
الحدث عميق ودال وحزين يكشف حجم الانشقاقات في بنية الفعل الاخلاقي والسلوكي للانسان المغربي والذي فقد روحه وواقعيته واصبح يعيش عبر الهاتف ومن خلال الهاتف، وانا موجود بقدر ما ينتج من صور وبقدر ما يحقق من اعجاب .
الامر مؤلم هؤلاء الساديون الجدد والذين تركوا اخلاقهم وتنازلوا قيمهم، ومد يد العون لطفلة في حالة خطر ومنحوا لانفسهم فرصة استخراج هواتفهم وتشغيل كاميراتهم واختيار المكان المناسب حتى تكون الصورة افضل واجمل، ويكون الفيديو اكثر واقعية واكثر جمالية .
ما وقع يكشف حجم التحولات وعمقها بالمجتمع المغربي وكيف اصبحت السادية امر عاديا، وان الاخلاق الصلبة والتي تربى عليها المغاربة تحولت الى خلاق سائلة ورخوة تتمثل في تحويل الحدث الى صورة، وان اقصى ما يقدمه الساديون الجدد لطفلة تموت احتراقا هو توثيق لحظة موتها بغية الحصول على اكبر نسبة من المشاهدة وربما الحصول على تعويض مالي من ادارة اليوتوب .
ما وقع ان العولمة حولت اخلاقنا الصلبة الى اخلاق سائلة ذائبة بلا قوة وبلا مفعول والنتيجة سيولة اخلاقية لا مثيل لها عنوانها الاساسي : ترك طفلة تصرخ وحيدة وهي تحترق والساديون يستمتعون بإخراج هواتفهم الانيقة والذكية لتوثيق لحظات الموت .
موت هبة كشف حجم الاعطاب لمؤسسة المفروض فيها الجاهزية لتدبير الحالات الخاصة، الصور المنشورة حول تدخل الوقاية المدنية يكشف انها مؤسسة تعمل بشكل متخلف من خلال المعطيات الاتية :
اولا : ضعف التجهيزات
رجال المطافئ يعملون بدون وضع خوذات على رؤوسهم وهو امر غريب ومنافي لشروط العمل، اظافة الى غياب السلالم من اجل الوصول الوصول الى الطفلة .
ثانيا : وضعية الطفلة لم تكن تستدعي رشها بالماء وانما العمل على التدخل لازالة الاطار الحديدي للنافذة، وهو مؤشر يشكل ضعف التدريب وغياب الكفاءة
ثالثا : مشاركة شخص مدني مع طاقم رجال الوقاية المدنية وهو امر غير مسموح به ويعكس حالة الارتباك داخل مؤسسة المفروض فيها القدرة على التركيز والدقة اثناء تدبير المخاطر
رابعا : تاخر وصول رجال المطافئ والوقاية المدنية وهو مؤشر سلبي على ضعف الجاهزية والحس المهني
خامسا : ضعف صبيب الماء وهي ملاحظة في غاية الخطورة تكشف ان كمية الماء كانت قليلة او ان هناك عطب في نظام اطلاق الماء .
الحذر لا يلغي القدر، قدر الطفلة هبة ان تموت احتراقا وقدر اسرتها ان يخيم على منزلهم حزن اسود، لكن ليس قدرا ان نملك مؤسسات عمومية تنفق عليها اموال ضخمة وو اعتمادات فلكية وحين نحتاج لها في ابسط تدخل يكون الخذلان وعدم الفعالية وسوء تدبير الازمات .
المفكر السياسي الالماني كارل شميد اعتبر ان قيمة مؤسسات الدولة تظهر في وقت الازمات، فقيمة مؤسسة الوقاية المدنية يجب ان تظهر في اوقات الشدة وليس استعراض قوتها في تفريق المحتجين المطالبيين بأبسط حقوقهم .
د. الفرفار العياشي
دكتوراه علم الاجتماع المغرب