كتابات

ماجد الغرباوي: كذبة متوهجة....

كان يحرصُ على الجلوس قريبا من منبر الخطيب، يصغي اليه بروحه، يتابعُ حركاته، يتطلع الى حديثه بشغفٍ، تنهمر دموعه، وهو يسمع كلماته ترن في اذنَيّه، يحلق معه في عوالم غريبة.

يعود الى بيته، يستبد به سبات روحي عميق، يطيل النظر بصمت، يتوهج في داخله سؤال ملح، أين انا من رفاق الدرب الطويل، يراجع نفسه، يؤنبها، ثم يخاطب ربه، رباه ارحمني، لا أبغي إلا رضاك، لا أُريد البقاء هنا، ولي رفاق، يخوضون الصعاب، من أجل قضايانا. من أجل قيَّمِنا ومبادِئِنا، من اجل اهلنا ووطننا.

ثم يتذكر رفاق دربه، ويتصورهم كيف يتسلقون الجبال، ينامون بين الصخور، ويتوقعون الموت في كل لحظة، لكن إرادتهم لا تلين، وعزمهم كالحديد، يستأنسون بالموت، ويتوقعونه في كل لحظة.

تذكر حديث احمد البصري، عندما كان يحدثه عن مواقف بطولية، عن عمليات قتالية محدودة، عن مواجهات دامية. كان يذكره باصدقائه سعيد وكاظم وسالم، ويحدثه طويلا عن نوري جواد، ذلك الرمز الذي هجر الأهل والأحبة كي يلتحق برفاق دربه، ويواجه الموت بنفسه.

اه يا الهي، سوف لن ابقى ساعة واحدة، سأرحل مع أقرب قافلة، سألتحق بهم، مهما كانت المهمة صعبة.

وبالفعل تحققت امنيته ذات يوم عندما التقى بأحمد البصري ثانية، سأله بلهفة:

احمد متى سفرك؟

لماذا تسأل يارعد؟ هل ترغب بالمجيء معنا؟

بالتأكيد، وهذا قرار نهائي لا رجعة فيه. هكذا اجاب رعد وفورا..

ولكن.. قال احمد

ولكن ماذا؟ سأله رعد

احمد: وماذا عن موافقة والديك؟ انا اعلم انت الولد الوحيد، ومن الصعب جدا ان يوافقوا على ذهابك.

اجاب رعد: اطمئن، هذا قرار نهائي، وافقوا ام لم يوافقوا، وقررت أن لا اخبرهم بشي، هم يعلمون أنا بحاجة الى سفرة ترفيهية، وقد حان موعدها.

اذن: موعدنا غدا صباحا، اجابه احمد.

بقي رعد يفكر تلك الليلة، تصور لقاءه الاول مع نوري جواد، ماذا سيقول له عندما يصافحه؟ هل سيشاهد انسانا مثلنا؟ ام ملاكا يمشي على الارض؟ تصوره بهالة نورانية، واخرى تصوره يمشي والملائكة تحيط به من كل جانب. وثالثا تصوره، اشعث الراس، نحيلا، وجهه مكفهر من التعب، والسهر، وقساوة الطبيعة. تصوره بِعِدَّةِ السلاح، وملابس القتال، تصوره بمختلف الاشكال.

ظل على تلك الحالة طوال العشرة ايام التي قطعوا فيها الطريق، ناموا على الارض، واجهوا مخاطرَ جمة، ارعبه الليل في تلك الوديان القاحلة، والطرق الجبلية الملتوية، كان يمشي بحذر شديد، يترقب، يخشى كل طارق، انهكه التعب، كان يبدد خوفه بذكر الله، ويمني نفسه بلقاء رفاقه، فكانت اياما طويلة، مرهقة، متعبة، لكنهم بعد نهار طويل مليء بالمفاجآت وصلوا مدينة نائية كي يستريحوا عدة ايام ثم يواصلوا طريقهم الى مواقع الرفاق.

وحين مرورهم بشوارع المدينة توقفوا امام بناية عالية، تحيطها حدائق غناء، وتنيرها مصابيح الكهرباء بكثافة، اشار احمد الى رجلٍ واقفٍ هناك، يحمل ملازم كتبه بيده، ببدلةٍ انيقةٍ، قد بدت عليه ملامح الترف، فسأله رعد من هذا؟

انه نوري جواد، يارعد

لم يصدق نفسه، راح رعد يسلم عليه بحرارةٍ، ودموعه تجري على خديه، رهبةً وفرحاً، حاول ان ينطق بأي كلمة، فلم يتمكنْ، ظل صامتاً، ويده ممسكة يد نوري جواد.

هدأ نوري جواد من روعهِ، عندما ابتسم له، وسلم عليه. ثم قال رعد له:

لقد كنت اتذكرك في كل خطوة اخطوها في ذلك الطريق الوعر، كنت لا تغيب عن بالي أبداً؟ ما ينقله الأخوان عنك من قصص كانت تؤجج شوقي لرؤيتك،

كيف استطعت الصمود كل هذهِ الفترة؟ سأله رعد ببراءة واعجاب.

فاجاب نوري جواد بهدوء:

لا يا رعد انا عادة أأتي من الطرف الاخر بواسطة سيارة، ولا اكابد اي مشقة في الطريق.

فغر رعد فاه، وسأل نوري جواد، هل يعني انك لم تلتحق برفاق دربك؟

وقبل ان يجيب نوري جواد على سؤاله

لاحت لرعد لوحة كبيرة فوق البناية كتب عليها

قسم الدراسات العليا!!!!

***

ماجد الغرباوي

الجمعة 07/01 /2011