أقلام حرة

المدمنون على النفط!!

صادق السامرائيكلّهُ نفطٌ ونفطٌ همّهُ    لا يراها دونَ نفطٍ إنّهُ

أعود إلى هذه المقالة المكتوبة في 4\5\2006، وفي حينها كان الحديث يدور عن الإدمان على النفط .

وهذه حكاية واقعية وقصة إنسان تحولت حياته إلى نفط، وتفاعل بكل ما فيه مع النفط الذي صار سببا لرزقه وديمومة وجوده ومعاناته.

إنه "... أبو النفط"

هذا الرجل الأسمر الطويل القامة الحسن الطلعة، كنت أستيقظ على صوته وقت الصباح وهو ينادي "نفط..نفففففففط".

فتخرج ربات البيوت في شارعنا لتضع كل منهن "تنكة" أو "غالون" أمام الباب فيملأه لهن بالنفط، ومضيت أراه منذ طفولتي حتى أنهيت الدراسة الإعدادية وذهبت إلى الجامعة.

وكان الرجل غاطسا في النفط من رأسه حتى قدميه، فملابسه ثقيلة لا تتغير في الصيف أو في الشتاء، ويكاد النفط يقطر منها، ويداه معفرتان بالنفط، بل حتى وجهه كانت عليه آثار النفط. وكنت أحتار كيف يأكل وكيف يشرب حتى كنت أظن أن طعامه وشرابه نفطا.

وكان يتحرك في شوارع مدينتنا وفق ميقات محدد ومضبوط، يبدأ في الساعة السابعة صباحا وينتهي في الساعة الثانية بعد الظهر، وهو يزور شارعنا مرتين في اليوم ويمكنك أن توقت ساعتك على صوته.

ولم أعد أراه بعد أن غادرت المدينة، لكني عدت إليها بعد أعوام من اإبتعاد وقد تغيرت وتبدلت أحوالها وطبائع أهلها. وذات يوم وإذا بي ألتقي بالرجل الذي شحن طفولتي بالنفط وصوته وعربته جزء من حياة الشارع الذي كنا نلعب فيه يوميا.

وأقولها لكم بصراحة شممت رائحة النفط حال رؤيتي له، لأنني لا يمكنني أن أتخيل هذا الرجل من غير رائحة نفط، فما رأيته مرة في حياتي من غير نفط، فوجوده وشخصيته مقرونان بالنفط.

وهذه هي المرة الأولى التي أراه من غير عربة النفط وملابس متشربة بالنفط.

فقلت له بعد أن تحدثنا قليلا: ماذا تعمل الآن؟

قال: لا شيئ، لا أعرف عمل شيئ أمضيت معظم عمري أبيع النفط، والآن ما عاد لي رزق من النفط، رزقي على الله.

قلت: وهل فقدت عملك بالنفط؟

قال وكاد أن يبكي: النفط حياتي، لا أستطيع أن أتخيل حياتي من غير نفط، لقد فقدت حياتي لعدم بيعي النفط، أنا أحب النفط، فهو يبعدني عن آلام الحياة وعناء الأيام، رائحة النفط كانت دوائي.

قلت: ولماذا لا تعيش قريبا من النفط؟ أعني لماذا لا تعمل في محطة لبيع البنزين؟

قال: لا أحب البنزين، أكره رائحته، أنا أحب النفط فرائحته لذيذة وطيبة ومنعشة!!

ترقرقت الدموع في عينيه وهو يحدثني عن النفط وعلاقته الحميمة معه.

ومضى قائلا: كان النفط زوجتي وكل شيئ في حياتي، لم أتزوج فلا امرأة تريد مَن يسبح بالنفط كل يوم، أنا كنت أغتسل بالنفط، أعفر ملابسي به، إنه حياتي.

قلت: وماذا تفعل الآن بدون النفط؟

قال: الأعوام الثلاثة التي مرت كانت قاهرة وصعبة، لقد تحولت إلى رجل مريض، أهيم وراء النفط، أريد النفط، لكنه صار عزيزا، وما عدت أجني ربحا منه، ثم أن محطات النفط صارت بعيدة، وأنا لا أملك سيارة، كما أن الناس ما عادت تشتريه من الباعة، فهم يذهبون إلى محطات بيعه بسياراتهم.

قلت: ولماذا لا تعمل في محطة النفط؟

قال: لقد حاولت لكنهم لايوظفونني فأنا لا أقرأ ولا أكتب، كل الذي أعرفه هو النفط.

قلت: أرجو أن تقول لي الحقيقة، ماذا تفعل أنت حقا، هل لا تعرف النفط على مدى ثلاث سنوات، فأنا أشم رائحة نفط؟

قال: لا..لا والله لا يمكنني أن أترك النفط، إن عندي في غرفتي قناني معبأة بالنفط، تملأ الغرفة برائحته، وأحيانا أرش قليلا منه على فراشي، فلا يمكنني النوم من غير رائحة النفط، لا يمكنني أن أتخيل يوما واحدا في حياتي من غير رائحة النفط، يا ليتني أستطيع أن اشربه، لقد حاولت، لكنه تسبب لي بالكثير من الإضطرابات المِعَدية.

نظرته متألما فهو لم ينزع جلده النفطي وملابسه النفطية وعطره المفضل الذي اتغرس في تلافيف دماغه وتجذر في كيانه العميق، وهو لا زال نفسيا وروحيا غاطسا في النفط وأنا أشمه فيه أيضا!

قلت: أنت مدمن على النفط!!

قال: ماذا تعني؟

قلت: أن مصيبتك مثل مصيبة من أدمن على الخمر، لقد أمضيت حياتك تشم رائحة النفط، وبعد أن تجاوزت الستين من عمرك، لا يمكنك أن تشم هواءً من غير نفط، لقد تغلغل النفط في تلافيف دماغك وكل خلية في جسمك ولا يمكنك أن تحيا من غير نفط.

قال: وما هو الحل؟

قلت: أن تعمل بالنفط.حاول أن تجد عملا في محطة لبيع النفط.

تأملني بنظرات كسيرة وهو يقول: بعد هذا العمر، أنا من مساكين الدنيا، الناس تتصدق علي كل يوم فلا أملك إلا غرفة صغيرة ورثتها عن أمي، ولا عندي زوجة ولا أولاد ولا أخ ولا أخت، أنا وحيد، وحياتي هي في النفط، يتصدقون علي بالطعام وبعض المال، ولا أحد منهم يتصدق علي بقليل من النفط، أنا أريد نفطا!!

فكان يشعرني بأنه يعاني من أعراض إنسحابية لعدم أخذه جرعة كافية من رائحة النفط.

تأملته وأنا أقول له: إنك تمثل داء البشرية الرهيب، إنه داء الإدمان على النفط، البشرية التي سيقضي عليها النفط وسيفعل بها مافعله بك، فأنت لست وحدك مدمنا على النفط، بشر الأرض مدمن عليه، وسيقضي هذا الإدمان على البشر.

أنت تشم رائحة النفط، والبشرية تشربه وتسكر به يوميا، إنها تفكر به وتكتب به وترسم سياساتها وفقا لمنظوره وشدة رغبتها فيه، إن النفط يستعبد البشرية، مثلما هو قد استعبدك وامتلكك وحولك إلى أسير، لا يمكنك أن تتخلص من قيد النفط ومن رائحته لأنك لا يمكنك أن تتصور حياتك من غير نفط، والبشرية كذلك مثلك.

فأنت تمثل البشرية وأنت مثل الدول والشعوب التي أدمنت على النفط وتفعل ما تفعل من أجل الحصول عليه.

قال: لا أفهم ما تقول!!

قلت: عليك أن تغطس بالنفط، فقد أمضيت عمرك غاطسا بالنفط، تسبح بالنفط، تغسل وجهك بالنفط وكذلك ملابسك، فكيف يمكنك أن تكون أنت من غير نفط؟

فعد إلى عملك وعاقر النفط واسكر به كل يوم وامضي بقية عمرك في عالم النفط، فهل وجدت دولة في الأرض قادرة على الشفاء من الإدمان على النفط؟

وأنت مثل بلدك العائم على بحر من النفط ويعيش عيشة فقر مدقع وعوز أليم.

يا عزيزي.. دول العالم من أقصاها إلى أقصاها قد أدمنت على النفط، ولا يمكنها تحمل الأعراض الإنسحابية الناتجة عن عدم شربه وشم رائحته، وحالات إدمان الدول تتفاوت فمنها من أدمنت إدمانا شديدا ومستفحلا يفقدها صوابها عندما يتعلق الأمر بالنفط.

فهذه الدول ستصاب بالهلوسات والهذيانات والإضطرابات الحسية والفسلجية الصعبة بدون النفط، شأنها شأن أي مدمن على الخمر أو غيره من المخدرات، وتعمل المستحيل من أجل الحصول عليه، وتبرر وسيلة حصولها عليه بما لا يخطر على بالك من أسباب وقد ترتكب أعظم الجرائم من أجل النفط البغيض.

نعم أنت مثل البشرية المصابة بداء الوسواس النفطي، ولن تشفى منه أبدا، بل علينا أن نغرقها بالنفط لكي نقضي على وسواسها الفتاك، وعليك أنت أيضا أن تمضي غارقا في النفط حتى ختام عمرك.

فعد إلى عملك، وعندما ستتخلص البشرية من هذا الداء الوباء فأنك ستشفى، وكدت أن أصرخ بوجهه" إذهب واحتسي كأسا من النفط "

نعم "داوها بالتي كانت هي الداء"

حدجني بنظرات يائسة وذهب يبحث عن نفط يشفيه من النفط!!

 

د. صادق السامرائي

4\5\2006

 

في المثقف اليوم