أقلام حرة

حقيقة النبوة عند الغزالي (3)

ميثم الجنابي"الأنبياء أطباء أمراض القلوب"

(الغزالي)


النبوة هي إصلاح واجتهاد دائم

لقد سعى الغزالي إلى أن يجعل من المعرفة لا المعجزة وسيلة إدراك النبوة وحقيقتها من خلال تضافر الحس والعقل والإلهام في التجربة الفردية، باعتباره أسلوب إدراك حقيقة النبوة. لهذا اكد على أن من الضروري بلوغ اليقين بالنبوة عن طريق المعرفة، لا عن طريق من "قلب العصا ثعبانا وشق القمر"[1]. ووضع هذه المقدمة في فكرته القائلة، بأن حصر أسلوب البرهنة في حقيقة النبوة في المعجزات وحدها دون نظمها في القرائن العديدة، سوف يؤدي بالضرورة إلى أن تبدو المعجزات كما لو انها سحر  وتخييل[2]. فهو لا يرفض المعجزة، ولكنه يشدد على أن من السهل مواجهة المعجزة المجردة بأسئلة يصعب الإجابة عليها. ولكن في حالة استناد الإيمان بالنبوة إلى "كلام منظوم في وجه دلالة المعجزة"، حينذاك يمكنها أن تحتل موقعها في معقولية الفكرة. انه يتكلم عن وجه الدلالة في المعجزة، ولكن في منظومة الفكر البرهاني. أما البرهان فهو مجرد احد "الدلائل والقرائن في جملة النظر"[3]، والذي حاول البرهنة عليه في مجرى كلامه عن المعجزة. فالغزالي يدرك "عجز" المعجزة. ونعثر في آرائه هذه على صدى وبقايا ما سبق وأن بلوره بصورة أولية في (تهافت الفلاسفة) و(المستظهري، أو فضائح الباطنية) وأعماله الجدلية الكلامية الأخرى. فقد جرى تطوره الفكري الأول في مجرى البحث عن اليقين. وتوصل في احدى مراحل تيقنه المعرفي من أن الحقائق الضرورية البديهية لها اساسها اليقيني الخاص، والذي لا يمكن تغييره على الأقل بالنسبة له، حتى في حالة رؤيته لإنسان قادر على قلب العصا ثعبانا. بمعنى إن "قلب الأعيان" الذي يبدو في مظهره معجزة، لا يمكنه أن يغّير مضمون هذه الحقائق الضرورية. وظل الغزالي أمينا لهذه الفكرة حتى النهاية، مؤكدا على ثباتها الدائم. لقد أراد البرهنة على أن المنطق لا يمكنه أن يكون متجانسا في قضايا الإلهيات. وأصاب من حيث إدراكه تباين العقلانية واللاعقلانية في قضايا الإلهيات، دون أن يؤكد على تضادهما. الأمر الذي يفسر الأسباب القائمة وراء محاولاته التنسيق بين الطبيعي والميتافيزيقي على اساس ربطهما في كل واحد.

ففي معرض تناوله قضية المعجزة في (المستظهرى أو فضفئح الباطنية) فإنه اورد آراء المفكرين المسلمين الذين رفضوها. بينما لم يشدد هو أو يؤكد إلا على معجزة القرآن، باعتباره الشيء الوحيد الذي "يوجب العلم الضروري"[4]. بينما ربط هذا العلم الضروري بتواتر ما فيه. وهي الفكرة التي حاول لاحقا الكشف من خلال تأملها الصوفي عن حقيقة النبوة في القرآن، باعتباره مثال تجليها. تماما كما نعرف حقيقة  الشافعي الفقهية، وجالينوس الطبية من خلال الاطلاع على كتبهما. ومع ذلك فقد نظر إلى المعجزة على أنها شيء ممكن، وانه لا مانع يمنع كونها[5]. بينما يؤسس لها في (المظنون به على غير اهله) بالشكل الذي حوّلها إلى جزء من تصوراته العقلية والصوفية وما دعاه بالكلام المنظوم في دلائل القرائن العديدة، لا برهانها الأوحد.

وقدم براهينه العديدة المستويات عن المعجزة، كالمستوى الحسي والعقلي والخيالي، باعتبارها نماذج وتجليات واستيعاباً مشتملاً على وحدة المعرفة ذاتها. فالمستوى الحسي هو أن يخلق الله العلم والحياة  والقدرة، على سبيل المثال، في الحصاة، أو أن يخلق العقل والقدرة والنطق في البهيمة. إذ أن كل ذلك ليس محالاً. فالمعجزة هنا هي مجرد فعل إلهي من خلال الآدمي، أو اعجاز النفس المقدسة النبوية في خلقها في الحصاة حياة. وعندما يؤسس لهذه الفكرة بمعايير العقل فإنها تتخذ صيغة الظاهرة الطبيعية. إنها تتخذ صيغة الظاهرة النوعية بالاختلاف عن مجرى الحوادث الكمية (العادية)، أو التحول الفجائي والطبيعي في الوقت نفسه في مكوناته وأبعاده. فدعاء النبي أو فاعلية النفس المقدسة النبوية يقوم في قدرته على التأثير الفجائي من غير تأخير. أما خرق العادة المميز لأفعال النبي، فإنه يتطابق مع ما يمكن دعوته بالفعالية النوعية. وقدم مثالاً طبيعياً لشرح آرائه هذه في كيفية تأثير الشمس والنار في المائعات. فهو يشير إلى أن الشمس تؤثر بالمائعات كالثلج تأثيرا بطيئا. في حين أن تأثير النار في التسخين يكون دفعة واحدة. وإذا كان ذلك ممكنا فَلِمَ ينكر إمكانية ما اسميته بالفاعلية النوعية لتأثير النبوة؟ بمعنى أن يكون تأثيرها كنسبة اسخان النار إلى اسخان الشمس[6]. وهي الفكرة التي نعثر على صياغتها الأولية في (تهافت الفلاسفة) عندما أشار إلى أن إحياء الموتى وقلب العصا ثعبانا ممكن بطريق المعجزة. أما التفسير الذي قدمه لذلك فهو تفسير طبيعي. فالمادة قابلة، كما يقول الغزالي، لكل شيء. فالتراب وسائر العناصر يستحيل نباتا. والنبات يستحيل، عندما يأكله الحيوان، إلى دم، وهذا بدوره يتحول بدوره إلى مني ثم إلى حيوان حال صبه في الرحم. كل ذلك "واقع في زمن متطاول. فلم يحيل الخصم أن يكون في مقدورات الله أن يدير المادة في هذه الأطوار في وقت أقرب مما عهد فيه؟"[7].

أما المستوى العقلي فهو التعبير الممثل عنه بآية القرآن القائلة (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)، والتي تكشف عن أن شهادة كل مخلوق ومحدث على خالقه وموجد هي كشهادة البناء على الباني، والذي يطلق عليه أهل الكلام عبارة "دلالة الدليل على المدلول"[8]. بمعنى إن المعجزة كلها دليل عليه. غير أن هذا المستوى الذي يضع قضايا المعجزة في اطار  التدليل العقلي على حقيقة النبوة، هو أيضا المقدمة المناسبة للمستوى الخيالي[9]. إذ ليس الدليل على المدلول سوى الصيغة العقلية للسان الحال الصوفي، الذي يصبح شاهدا محسوسا على سبيل التمثيل. وهذا بدوره ليس إلا التمثيل الخيالي، الذي يشابه آراء الفلاسفة عن قوة الخيال الرمزية (النبوية). لكن ما يميز الأنبياء عن غيرهم هو رؤيتهم التمثيل الخيالي في اليقظة والمنام. وبهذا يكون التمثيل الخيالي المستوى الذي ينفي في ذاته المستويات السابقة باعتبارها نماذج وأمثلة ودرجات في إدراك حقيقة النبوة. إذ ليس التمثيل الخيالي في الواقع سوى ما هو ملموس بهيئته المجردة. بمعنى النفي المجرد والذي يصبح به المعقول محسوسا.

ان هذه المستويات الثلاثة المعبرة عن حقيقة النبوة هي ذاتها مستويات المعرفة والوجود في منظومته  التوليفية. إنها انعكاس  وصياغة جديدة لمجرى تطوره المعرفي. وتتطابق في الوقت نفسه مع تطور المعرفة من الحس إلى العقل ومنه إلى ما وراء العقل. وهذه بدورها تتطابق مع درجات المعرفة والإيمان (للعوام والخواص وخواص الخواص) ودرجات الوجود (الملك والجبروت والملكوت)[10]. ونعثر عليها في الصيغة التاريخية الملموسة للنبي وحقيقة النبي والنبوة، أي كل ما يتطابق مع فكرة تحوّل الأبعاد التاريخية إلى معرفية، والمعرفية إلى وسيلة العلم والعمل ووحدتهما في الحال الصوفي.

وشكلت آراؤه هذه الخلفية المنظومة لتحديد شخصية النبي وموقعه التاريخي والعقائدي. وليس مصادفة أن يجعل من شخصية النبي تجليا كاملا لوحدة العقل والشرع. فالنبي هو الواسطة بين الله وعباده[11]. لكنه لم يعط لهذه الواسطة صفتها المثالية بالنسبة للعلم والعمل. ففي الوقت الذي شكلت النبوة  مصدر استمداد المعرفة الحقة من "الروح المقدس النبوي"، فإنها تتجسد في حاملها (النبي)، باعتباره ممثل الإصلاح التام. انه جعل منها نموذج الاجتهاد المطلق. مما كان يعني في الوقت نفسه تهشيم الأسس  العقائدية لفكرة العصمة. ومن الممكن العثور على أول ملامح هذه الفكرة  في (المستظهرى أو فضائح الباطنية) عندما اكد على أن "العصمة ليست حتى من خاصية النبوة ولا اثباتا لها"[12].  كما نعثر على هذه الفكرة في (المنقذ من الضلال) عندما اكد استنادا إلى الحديث المنسوب للنبي محمد، من انه يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، بمعنى انه يحكم بغالب الظن الحاصل من قول الشهود، وربما اخطئوا فيه. من هنا استنتاجه القائل، بأنه لا سبيل إلى الأمن من الخطأ للأنبياء في مثل هذه المجتهدات[13]. حيث تستمد هذه الفكرة مقوماتها من تقاليد العقلانية العريقة في تطوره الفكري، والتي وضعها في آرائه عن القيمة الدائمة لليقين المعرفي. بحيث جعل اليقين المعرفي المستوى الضروري في المعرفة وبراهينها. إذ لا مقياس، بالنسبة له، أعلى من مقياس الحقيقة في برهانها اليقيني. وعندما قدم لذلك مثالها الملموس على "قدسية" النماذج المعقولة في الثقافة، فأنه اشار إلى انه في حالة بلوغ المعرفة اليقينية و"قيل لك خلافه حكاية عن أعظم خلق الله مرتبة وأجّلهم في النظر والعقليات درجة، وأورث ذلك عندك احتمالا فليس اليقين تاما. بل لو نقل عن نبي صادق نقيضه فينبغي أن يقطع بكذب الناقل أو بتأويل اللفظ المسموع عنه. ولا يخطر ببالك إمكان الصدق، فإن لم  يقبل التأويل فشك في نبوة من حكي عنه بخلاف ما عقلت، إن كان ما عقلته يقينا"[14]. وشكلت هذه الأفكار بحصيلتها المقدمة التي اعطت للنبي والأنبياء في آرائه هيئة الممثل الحق للإصلاح الحق. اذ ليس الأنبياء في نهاية المطاف، حسب عبارة الغزالي، سوى "أطباء أمراض القلوب"[15].

إن تركيز شخصية النبي في ميدان طب القلوب، يتطابق في رمزيته ومعناه مع تمثيل الإصلاح الشامل. وذلك لأن القلب في منظومة الغزالي هو مصدر ووعاء الكينونة الإنسانية في تجلياتها غير المتناهية. بهذا تكف النبوة عن أن تكون شيئا ما سحريا. وليس مصادفة ان يربط فكرته عن النبوة بشخصية النبي محمد. وعندما يؤكد في (المنقذ من الضلال) على ان معرفة معنى النبوة تؤيد كون محمد هو تجسيدها الأمثل والأعلى، فإنه لم يضع ذلك في زغاريد اللاهوت المعجب بذاته، بل في مثاله الواقعي ونموذجه الحق باعتباره تمثلا للأخلاق المطلقة، كما حاول جمعها في (إحياء علوم الدين). اذ يظهر النبي محمد كما لو انه مثال واقعي للقرآن. وأن القرآن خُلْقَه[16]. إذ انه بُعث ليتمم مكارم الأخلاق. وانه هو الذي قيل فيه "وإنك لعلى خلق عظيم. فهو أصلح الناس وأشجع الناس وأعدل الناس وأعّف الناس وأسخى الناس. ولا يبيت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفاجئه الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه. ولا يسأل شيئا إلا اعطا. وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في بيته أهله ويقطع اللحم معهن. وكان أشد الناس حياء، لا يثبت  بصره في وجه احد. ويجيب دعوة العبد والحر. ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن أو فخذ ارنب، ويكافئ عليها، ويأكلها ولا يأكل الصدقة. ولا يستكبر عن اجابة الامة والمسكين. يغضب لربه ولا يغضب لنفسه. وينفذ الحق وإن عاد ذلك عليه بالضرر، أو على اصحابه. وعرض عليه الانتصار بالمشركين على المشركين فأبى وقال: انا لا انتصر بمشرك. وكان يعصب الحجر على بطنه مرة من الجوع ولا يرد ما وجد، ولا يتورع  عن مطعم حلال، ولا يأكل متكئا، ولا على خوان. منديله باطن قدميه. ولم يشبع من خبز ثلاثة أيام  متوالية حتى توفي ايثارا على نفسه لا فقرا ولا بخلا. يجيب الوليمة ويعود المرضى ويشهد الجنائز ويمشي وحده بين اعدائه بلا حارس. اشد الناس تواضعا، وأسكنهم من غير كبر، أبلغهم في غير تطويل، وأحسنهم بشرا. لا يهوله شيء في امور الدنيا. ويلبس ما وجد، ويركب ما امكنه. يؤاكل المساكين ويكرّم أهل الفضل في أخلاقهم، ولا يجفو احداً. يقبل معذرة المعتذر إليه. يمزح ولا يقول إلا حقا. يرى اللعب المباح فلا ينكره. ما شتم ولا لعن. انه رسول الرحمة. لا يضرب بيده قط. انه يفعل بالله ولله. وما خيّر بين أمرين إلا اختار ايسرهما، إلا أن يكون فيه اثم أو قطيعة. ما يأتيه احد إلا قام معه. يبدأ من يلقاه بالسلام. وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر. وكان إذا لقى أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة. وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا وخفف صلاته، وأقبل عليه فقال: ألك حاجة؟ ولم يكن يعرف مجلسه من مجلس اصحابه لأنه كان حيث انتهى به المجلس جلس. وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه لمن ليس بينه وبينه قرابة ولا رضاع يجلسه عليه. وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته، ويعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه. وكان أبعد الناس غضبا وأسرعهم رضا. وكان ارأف الناس بالناس، وخير الناس للناس، وأنفع الناس للناس[17]. إننا نقف أمام لوحة ترسم بدقة مجموعة الصفات الطبيعية، التي حاول من خلالها اظهار حقيقة الشخصية النبوية لمحمد. فالشخصية النبوية لمحمد هي ليست حصيلة  الصفات المذكورة أعلاه وكثير غيرها، بل والنتاج الملازم لصفاء الباطن. فالباطن هو الصيرورة المستندة إلى مشكاة النبوة وأنوارها الإلهية، مما حدد بدوره الطابع الاجتماعي السياسي والأخلاقي للنبوة في منظومة الفكرية.

إن المثال المطلق للنبوة في منظومة الغزالي يتطابق مع مصدرها الثابت باعتباره فعلا دائما للإصلاح،  والذي نعثر عليه في فكرته عن استمرار الروح النبوي ورؤيته في شخصية العارف. فهي النتيجة الملازمة لغاية الممارسة الصوفية في استعدادها نفي دلائل العقلانية اللاهوتية ونفسيتها. فقد ركّزت هذه العقلانية الجافة على ربط النبوة بالشرع، دون أن تفسح المجال أمام استمرار وحدتهما "الحقة" في التأويل والفهم المتجدد ومن ثم تحجيم الاجتهاد الحر، تماما بالقدر الذى يتطابق مع تحويل النبوة إلى منهل الإبداع الذي لا ينضب. وقد صاغ هذه الفكرة من خلال مفهوم الرؤيا والنبوة المكتسبة. فقد رفض في معرض جداله حول إمكانية رؤية النبي، إمكانية رؤيته المباشرة في جسده أو شخصه أو روحه. واستعاض عن رؤيته المباشرة  بإمكانية ما اسماه برؤية مثال[18]، أو رؤية ما اسماه بالروح القدس والمنزّه عن اللون والشكل والصورة، والباقي  بعد وفاة النبي. وبهذا المعنى يكون قد حوّل النبوة (التاريخية) إلى التجلي الملموس لحقيقة النبوة. وقد صاغ معالم هذه الفكرة في (المنقذ من الضلال) عندما استعاد بصورة مكثفة تاريخ صراعه مع الباطنية التعليمية، التي أكد فيها على أن الجوهرى بالنسبة له هو الفكرة لا اشخاصها. إذ لا يعني بالنسبة للفكرة موت نبيها،  تماما كما لا يضر موت المعلم أو غيبته بعد كمال العلم[19]. وقد بلور حيثيات هذه الفكرة في (المضنون به على غير أهله) عندما  وضع الاطار العام لمفهوم الرؤيا. حيث انطلق من انه مثلما لا يمكن رؤية الله المنزه عن الشكل واللون والمادة، كذلك لا يمكن رؤية النبي. وبالتالي فإنه لا يدرك حقيقة رؤيا النبي دون إدراك ومعرفة حقيقة رؤية الله. فالشخص العادي يطابق رؤية النبي في المنام مع حقيقة النبي. في حين أن ما يقع في النفس من الرؤيا ما هو إلا ما يحيكه الخيال عنه. إذ كل ما يرتسم في النفس يمثل الخيال له صورة. ومن هنا استنتاجه القائل بأنه لا يمكن رؤية شخص النبي. فهو مدفون بالمدينة، وما شق القبر وما خرج، وغير متعدد بفعل رؤية الكثيرين له في زمان واحد وأماكن مختلفة. إذ ليست هذه الرؤية سوى عمل من أعمال الوهم. إذ لا يمكن تصور شخص واحد في حالة واحدة في مكانين، وعلى صورتين، كأن نراه طويلاً وقصيراً، كهلاً وشاباً، وبالتالي فإن رؤية النبي دون رؤية روحه ما هو إلا رؤية جسده دون روحه. بمعنى عدم رؤيته على الحقيقة. فالرؤية  الحقيقية هي رؤية "مثال روحه المقدسة". وذلك لأنه ما يمكن رؤيته هو المثال لا غير[20]. وليس هذا المثال سوى محلٍ للنبوة، أو مشكاة النبوة أو حقيقتها. لهذا وجد في الحديث المنسوب للنبي محمد، من أن "من رآني في المنام فقد رآني. فإن الشيطان لا يتمثل بي" مثالا لدحض إمكانية ابتذال النبوة في مستويات تأويلها العادي المبسط، والإيماني اللاهوتي. وذلك لأنه ربط حقيقة الرؤيا بمستوى المعرفة وحقيقتها. إذ لا معنى للرؤية في  الحديث المذكور سوى ما يتطابق مع رؤية المثال والواسطة بين الرائي وبين النبي، وذلك بفعل تنزه جوهر النبي عن الشكل واللون والصورة، تماما كما هو الحال بالنسبة للذات الإلهية. وذلك لأن اقترانها بمثال ملموس من نور وصورة جميلة هو اقتران يفترض أن تكون الصورة مثالا للجمال المعنوي الحقيقي، الذي لا صورة له تماما بالقدر الذي يجعل من هذا المثال شيئا ما صادقا وحقا وواسطة في التعريف أيضا.

وقد دفع ذلك الغزالي إلى صياغة فكرة التباين بين مفهومي المثال والمثل من أجل حل القضية بالشكل الذي يتطابق مع آرائه. فالمثل هو عبارة عما يساوي الآخر في جميع الصفات. بينما المثال لا يحتاج فيه إلى المساواة. إذ للعقل، على سبيل المثال، معنى لا يماثله غيره. وعندما نمثله بالشمس فلأننا نرى بها، بينما الرؤيا متباينة. أما الله فإنه لا مثل له، ومع ذلك فإن له أمثلة تحاكيه لمناسبات معقولة من صفاته. وقد حدد ذلك استنتاجه القائل بجواز المثال وبطلان المثل. إذ إننا نضرب بصفات الله الأمثال ولكننا ننزهه،  عن المثل. وبهذا لا يعني الحديث المنسوب للنبي محمد من رؤيته إياه سوى انه كأنما رآه[21]. وإن هذا التجوّز شبيه بقول من يقول رأيت ربي بأحسن صورة، وإن الله خلق آدم على صورته، وذلك لأن الذات لا صورة لها إلا من حيث التجلي بالمثال[22]. (يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

................................

[1] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص149.

[2] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص149.

[3] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص150.

[4] الغزالي: المستظهري أو فضائح الباطنية، ص94.

[5] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص 96.

[6] الغزالي: المضنون به على غير أهله، ص91-92.

[7] الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص68. وسوف يكرر لاحقا ابن رشد جملة من هذه الآراء. بحيث اعطى لها صيغة عقلانية المظهر عبّرت في ملامحها العامة عما هو مشترك بينهما في مستويات الرؤية الحسية والعقلية. فقد أيد ابن رشد فكرة الغزالي وأسلوبه في كشف حقيقة النبوة والمعجزة. فهو يشير إلى أن تصديق النبي بأن يأتي بالخارق ممتنع، غير أن ذلك ممكن في نفسه. لكنه حذر في الوقت نفسه من أن ذلك لا يستلزم القول، بأن ما هو ممتنع في العقل ممكن في حق الأنبياء. أما المعجزات المنسوبة للأنبياء فهي التي يصح وجودها من جنس المعقول في ذاته، أي مما لا يمتنع في العقل إمكانه. من هنا فكرته عن أن القرآن هو معجزة النبي محمد. فهو لم يجد فيه شيئا خارقا للعادة عن طريق السماع. وينطبق هذا أيضا على قلب العصا ثعبانا. وإنما ثبت كونه معجزا، كما يقول ابن رشد، بطريق الحس والاعتبار. لهذا كان وضعه معجزة القرآن فوق المعجزات الأخرى المنسوبة للأنبياء هو شكل من أشكال النقد العقلاني وغير المباشر للتفكير اللاهوتي عن المعجزة. إذ لم تعن المعجزة المحمدية سوى وجودها في الحس والاعتبار، أي وجودها المكتوب في القرآن. من هنا توكيده على أن "طريق الخواص في تصديق الأنبياء طريق آخر قد نبّه عليه ابو حامد (الغزالي) في غير ما موضع. وهو الفعل الصادر عن الصفة التي سمي بها النبي نبيا، والذي هو الإعلام بالغيوب، ووضع الشرائع الموافقة للحق، والمفيدة من الأعمال ما فيه سعادة جميع الخلق". (ابن رشد: تهافت التهافت، ص515-516).

[8] الغزالي: المضنون به على غير أهله، ص92-93.

[9] الغزالي: المضنون به على غير أهله، ص93-94.

[10] لا نعثر على صيغة ثابتة في مؤلفات الغزالي حول هذه القضية، وبالأخص ما يتعلق منه بتصنيفاته عن درجات الوجود ومستوياته المعرفية. غير إننا نكتشف وراء "التنوع" النظري وحدة متجانسة. أما التباين الممكن بين هذه الدرجات من كتاب لآخر، فإنه يعكس تباين الأولويات والأمثلة لا وحدة المنظومة الفكرية. بمعنى أن هذا التباين هو مجرد أشكال تحقيقها بصدد هذه القضية أو تلك. إذ لكل تصنيف في كتب مثل (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) و(مشكاة الأنوار) و(الإملاء عن إشكالات الإحياء) مهماته المباشرة. فتصنيفه للموجودات الخمسة في (فيصل التفرقة) مرتبط بقضايا التأويل ومستوياته. بينما ارتبطت في (مشكاة الأنوار) بقضايا المعرفة والإدراك، في حين جمعها في (الإملاء عن إشكالات الإحياء) كأمثلة لشرح ما استصعب فهمه لكتاب (إحياء علوم الدين). إذ صاغ فيه أكثر من نموذج لدرجات الوجود والوعي بما يتطابق مع قضايا إحيائه في العادات والعبادات.

[11] الغزالي: المضنون به على غير أهله، ص124.

[12] الغزالي: المستظهري أو فضائح الباطنية، ص98.

[13] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص123.

[14] الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص180.

[15] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص180.

[16] لقد احتوى هذا التقييم على حقائق الحدس الواقعي لعلاقة النبي بكتابه. وهو الحدس الذي يكشف عن ماهية الآية القرآنية من حيث حوافزها، باعتبارها التجسيد البليغ لمواقفه من النفس والعالم. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى القول المنسوب لعائشة من أن "القرآن كان خُلقه" على أنه من بين أدق وأبلغ العبارات التي كشفت شخصية النبي وحقيقته. وهو الحدس الذي ادركت قيمته تقاليد الكلام في براهينها عن النبوة، بينما وضعته الصوفية في صلب علمها وعملها الأخلاقي الفردي، بوصفه طريق تمثل حقائق النبوة في طرائقها. أما محاولة الغزالي الإصلاحية فقد جمعت في كل واحد الفكرة وتاريخها في منظومته على أنها النموذج الواقعي للعمل الفردي والاجتماعي.

[17] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص357-383.

[18] الغزالي: المضنون به على غير أهله، ص47-48.

[19] الغزالي: المنقذ من الضلال، ص120.

[20] الغزالي: المضنون به على غير أهله، ص48.

[21] الغزالي: المضنون به على غير أهله، ص49-51.

[22] الغزالي: المضنون به على غير أهله، ص51.

 

في المثقف اليوم