أقلام حرة

نهاد الحديثي: حالات عراقية

نحن شعب لا نحسن الاختيار!! كل الشعب والجياع يتطلع لتشييع الوجوه الكالحة من الخط الاول والنواب والمحافظين، ونساءل الله أن يهدي الكتل السياسية والحكومة المركزية إلى اختيارالاكفأ والنزية وبدون محاصصة في المناصب السيادية والمهمة، لكنهم عودوناعلى اختراع أكاذيب، ثم محاولة تحويلها إلى واقع هدفه اغراقنا بالفشل والخيبات والازمات، هم طبقة فاسدة بلا انتماء للوطن، ويحتمون بالحصانة الوظيفية ضد الفساد، يلبس بعضهم عباءة الفضيلة ليداري الرذيلة، ولكنّ روائح فسادهم الكريهة ملأت أروقة مؤسسات الدولة، وتسربت منها إلى الشوارع والأقضية والنواحي والمدن، وتحوّل بعضهم إلى مصيبة وقعت على رؤوس الناس البسطاء، يحتمون بالمناصب والوجاهة الاجتماعية والسطوة في الوقت الذي يشتكي فيه المواطن من البيروقراطية القاتلة، وانتشار الفساد المالي والإداري وتفشي الرشوة والمحسوبية.

نحن شعب نعشق التناقضات في حياتنا، نحن العراقيون اباة، نحب الحياة، ونعشق الجمال، نتزوج، وننجب ذكورا واناثا، ومع ذلك يحلو لنا التحرش بالنساء، نصلي ونصوم ونؤدي طقوس العبادة ولكننا نشرب الخمر، ونلعب دور (الفتوة) وننسى كل ذلك حال خروجنا من الجامع والمسجد، نبيع الفضيلة بارشاداتنا لاولادنا وعوائلنا، ونرتكب الخطايا واحدة تلو الاخرى، ندرس وننجح، ولكن بدون قناعة لكثرة العاطلين، ندعو الرجال للتزوج من الارامل والمطلقات والعوانس، ولكن دون ان ندرس تكاليف الحياة وعمق ماساة غلاء المعيشة وخوفا من الزوجة الاولى ام العيال!!، وفقدت الثقة بين الرجل والمراة في حرم الجامعة ودوائر العمل، لكثرة الهمز واللمز—والفتاة العزباء باتت تخشى الزواج خوفا من النصيب والفال السيء!!نحن نغضب دائماً، وتتوتر أعصابنا، احيانا لاتفه الاشياء، نغضب بسبب الاختناقات المرورية في التقاطعات، لكننا نضع أعصابنا في ثلاجة عندما تتكرر أمام أعيننا المشاهد المؤلمة لظاهرة تسول الأطفال في التقاطعات المرورية، ونغضب أشد الغضب لمنظر امرأة تتسول، ولا نغضب لمنظر طفل لا يرتدي حذاءً،

نستصعب تسديد ما بذمتنا من ديون، ونستكثر دفع الحد الأدنى لمن يستحق المساعدة من الفقراء والمحتاجين، لكننا نستسهل دفع الرشوة لمن يطلب منا ذلك، من دون أن نحتج أو نغضب أو نرفض، نتمادى في عرقلة سير المركبات، وربما نجبرها على تغيير مسارها، أو نمنعها من الحركة حتى لو كانت المركبة سيارة إسعاف تنقل مصابا إلى المستشفى، أو عربة إطفاء في سباق مع الزمن لإخماد النيران المشتعلة وسط الحي، نعيش في عصر يهتم فيه بعض أصحاب المواقع العليا بمظهرهم لا بجوهرهم، فنراهم كيف يتلاعبون بتضاريس وجوههم، يضعون الأقنعة التنكرية لتغطية ملامحهم الحقيقية، يتخذون ماكياج الوقار الزائف كبطاقات ترانزيت لعبور بوابات النصب والاحتيال، أو لاستغلال سذاجة الناس وطيبتهم، تمهيداً لتحقيق مآربهم الدنيوية، ونيل المناصب والدرجات الرفيعة، فانحصرت أدوات التظاهر بترديد بعض العبارات المشفرة، والكلمات المنمقة، وإظهار الشدة والصلابة المفتعلة وقت الضرورة ووقت الحاجة، والتمسك بالقشور إلى درجة المبالغة في استعراض صور نمطية منسوخة من قوالب كاريكاتيرية متناظرة، حتى صار من المألوف مشاهدة الكثير من هذه النماذج المتخشبة، من الذين أساءوا للناس وللحياة بحركاتهم المصطنعة وكلامهم البغي.

نحتل موقع الصدارة بين أقطار كوكب الأرض في استيراد هذا الكم الهائل من أجهزة الهواتف النقالة بشريحة أو بشريحتين، بعدسة أو بعدستين من باب التباهي والوجاهة والإسراف، فانشغلنا بهواتفنا من الصباح إلى المساء، وتعالت جدران العزلة بيننا، ولم نعد نتحدث مع بعضنا البعض حتى تحت سقف الأسرة التي تجمعنا، استوردنا من السيارات الحديثة فوق طاقة شوارعنا الاستيعابية، حتى تكدست عندنا بأعداد وأحجام وموديلات لا تخطر على بال الجن الأزرق، لكننا لم نفكر في يوم من الأيام ببناء معمل واحد لإنتاج قطع الغيار، ولم نخطط لتصنيع بعض الأجزاء الصغيرة في السيارة كالمصابيح والإكسسوارات الخارجية والمقاعد الداخلية، عندما نسافر خارج البلاد نتصــــــرف وكأننا ملائكة غادرت أسوار المدينة الفاضلة لنعلن للعالم عن التزامنا الروحي والأخـــلاقي بالأعراف والأنظمة والقوانين المرعية في البلـــــدان التي نزورها، لكنــــــنا سرعان ما ننقلب على أنفسنا ونعلن تمردنا على كل الأعراف والتقاليد والأنظمة حالما نعود إلى بلادنا، فنلجأ إلى ممارسة هواياتنا الفوضوية في البيت والسوق ومكان العمل، ويحلو لبعضنا العودة إلى العصور البدائية في التصرف وفي الأخلاق والسلوك، ليس المهم ما نحمله من ذكاء ومواهب ومهارات ومؤهلات وقدرات علمية وإدارية ومهنية حتى نتبوأ المراكز التي تليق بمؤهلاتنـــــــــــا الأكاديمــــــــية والمهنية، المهم هو كيف نستفيد من ذكائنا في التسلل إلى أفكار جهـــنمية جديدة نقفز بها نحو الغاية والمراد لنتغلب على من هم أكفـــــأ منا وأقدر وأقدم وأكثر إبداعاً وإنتاجية، فالغاية تبرر الوسيلة في معظم حاجاتنا وتطلعاتنا، وبات باستطاعتنا تحقيق المزيد من الكسب والربح وفق قفزات بهلوانية وحركات زئبقية، إنها التناقضات العجيبة الصارخة والازدواجية الرمادية المخيفة في القول والعمل والتمظهر، اجتاحتنا مثل هبة ريح عاتية جافة وقاسية وليس بها ندى ولا هواء عليل.

***

نهاد الحديثي

في المثقف اليوم