أقلام حرة

" تيس" نصار عبد الله يحل ضيفا علي أردوغان وبوتن!!

محمود محمد عليلا شك في أن الشعور بالانتصار يملأ في النفس زهوا، وهذه من طبائع البشر، وهناك فى مملكة الحيوان من يرتبط غريزياً بمعركة حامية الوطيس مع غريمه ليفوز ومن ينتصر منهما يظفر بالزواج من الأنثى، ولكن هناك نصر زائف كما عبر عنه الشاعر المبدع الأستاذ الدكتور نصار عبد اللّه (أستاذ الفلسفة والكاتب المعروف) فى قصيدته الرائعة عن "التيس والمرآة"،  والتى يقول فيها :

يوما ما

وقف التيسُ يحدّق فى المرآة

فرأى التيسَ يحدق فى المرآة

هز التيسُ الرأس..،

فهز التيس الرأس

ظن التيس بأن التيس الآخر يتحداه

ثار، وهبّ، وسب أباه

فثار التيس وهبّ، وسب أباه

نطح التيسُ التيس

فانخلع القرن وشُــجّ الرأس

***

وقف التيس يحدق فى اللاشىء

فرأى لا شىء

تمتم لا بأس

قد فــر التيسُ الرعديد أمام التيس الصنديد

لا بأس

حتى لو خلع القرن وشج الرأس

يا كــــلّ تيوس العصـــــر ...

هذا ثمن النصر

هذه القصيدة كان د. نصار عبد الله قد ألقاها من منصة عالية بصوتٍ خافتٍ، في إحدى مؤتمرات الثقافة الجماهيرية في ثمانينات القرن الماضي ؛ وبالأخص أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وربما لهذا السبب فسرها أحد الشراح  بأن صدام والخمينى صورة لتيس واحد .. كما فسرها ناقد آخر فى مقال نشر بجريدة الأخبار بأنها تصور الصراع بين حماس والليكود . المهم أن كل واحد يفسرها علي راحته، وهي ميزة من تلك القصائد النادرة والساخرة والتي يمكن تأويلها لتنطبق علي اكثر من حاله خلاف السبب الأصلي الذي من أجله كتب شاعرنا قصيدته .

وأنا أقول أنها ممكن أن تعبر عن طواغيث العصر في واقعنا المعاصر، ومنهم رجب طيب أردوغان  وفلاديمير بوتن فكلاهما يمثلان تيسا واحدا في الصراع السوري.

ونبدأ بالتيس الأول (أردوغان) الذي لا يترك فرصة إلا ويتدخل لحماية الداعشيين في سوريا.. من كان يشتري البترول من التنظيم ويسهل وصول الافراد والعتاد إليه... أليس أردوغان!.. من الذي ساهم بشكل مباشر في تجميع جميع العناصر الإرهابية المسلحة في إدلب خلال الفترة الماضية... أليس أردوغان!!.. لقد جمع كل أعوانه الإرهابيين في مكان واحد، بل وفرض حماية عسكرية عليهم .. وتدخل بنفسه عند الرئيس الروسي بوتين من أجل وقف هجوم القوات السورية وحلفائها علي إدلب للقضاء علي آخر معاقل التطرف في سوريا، بل وحاول إخراجهم من إدلب سالمين حتي يستخدمهم في أحداث الفتنة والدمار في مكان آخر في ليبيا وفرنسا.. فهم الوسيلة الأساسية.

ليس هذا فقط بل وجدنا في عشية التحركات العسكرية التركية في اتجاه الأراضي السورية، يقف أردوغان أمام مناصريه واثق الخطوة ليشرح أسباب دخول قواته إلى الأراضي السورية، وتحديداً محافظة إدلب المحاذية للحدود المشتركة بزعم إنشاء منطقة خفض توتر.

لم تكتف أردوغان بذلك بل قام بنشر قوات شرطة بل بجنود من الجيش ومدرعات ومدافع ثقيلة وعمليات مراقبة جوية، كما أقام مواقع عسكرية حصينة في مواقع مختارة يهدد بها أوسع المناطق المحيطة. باختصار، المسألة أكبر من إنشاء منطقة خفض توتر، وفى مؤشراتها الأولى مقدمة لبقاء طويل الأمد، وعلى المتضرر أن يفعل ما بوسعه إن استطاع.

فى الآونة الأخيرة زادت مبررات أردوغان في التدخل العسكري التركي في سوريا لمواجهة خطر قيام جيب كردى فى الشمال السورى، وهذا الخطر قد يتطور لاحقاً إلى دويلة تنفصل عن الخريطة السورية الرسمية، وبما يقترب من نموذج كردستان العراق فى تجلياته الأخيرة، وهو ما يمثل عنصر تهديد كبير حسب القناعات السائدة فى أنقرة. وأيضاً من قبيل أن المواجهة مع مشروع داعش لبناء دولة خلافة قد أصبحت الآن فى عداد الماضى، والمستقبل القريب نسبياً يشى بأن سوريا باتت أقرب إلى إعادة الترتيب الداخلى حتى لو بقى الرئيس بشار الأسد لفترة انتقالية أو أكثر قليلاً، ومن ثم سيُعاد التموضع الجيواستراتيجى لسوريا ككل، فضلاً عن توزيع الغنائم وإعادة الإعمار، وتلك بدورها كعكة كبيرة لا ينبغى أن تُترك هكذا بدون استعداد وتحضير، وفى كل الأحوال فإن حجم العائد مرتبط بحجم النفوذ القائم على الأرض السورية، وفى هذا السياق لا مناص من منافسة الحليف الروسى.

وبالفعل ألقت التطورات الدراماتيكية، التي شهدتها منطقة إدلب شمال سوريا، خلال الأيام القليلة الماضية بمزيد من الأضواء، على مصير التفاهمات التركية- الروسية في هذه المنطقة، وما إذا كان شهر العسل بين القيادتين الروسية والتركية، قد شارف على الانتهاء، في ظل ما يقال من تكهنات، بشأن إمكانية وقوع صدام بين البلدين، على الأراضي السورية؛ حيث دخل الصراع التركي- الروسي في سوريا حلقة جديدة من التصعيد، بعد مواجهات عسكرية جديدة بين الطرفين في محافظة إدلب. فقد تعرضت قوات عسكرية تركية في إدلب من جديد لقصف من الجيش السوري والذي أسفر عن مقتل خمسة جنود وجرح مثلهم.

وبحسب ما نقلت وكالة أنباء الأناضول، دعا المسؤولون الأتراك موسكو إلى "تحمل مسؤوليتها" باعتبارها بلداً يضمن اتفاقاً لوقف إطلاق النار تم التوصل إليه في سوتشي عام 2018.

وننتقل للتيس الآخر (فلاديمير بوتن)، فمن المعروف أن تدخل بوتن المباشر إلى سوريا، بدا وكأنه قد تسبب في خلط أوراق كثيرة لدى القوى الغربية في التحالف الذي تقوده واشنطن في سوريا والعراق، كما   أشاع حالة من الفوضى في صفوف حلفاء واشنطن من العرب.

فلقد وضع بوتن هدفين أساسيين بشكل مبدئي لتدخله العسكري المباشر في سوريا لدعم القوات السورية التابعة لنظام الأسد، أولها منع العصابات الإرهابية المسلحة من التكتل في بعض المناطق وشن هجمات برية تحت غطاء جوي لقوات التحالف. والثاني، رغبة الكرملين في دعم النظام الشرعي في مكافحة الإرهاب، والدفع في الوقت نفسه لتسوية سياسية، وهو الأمر الذي يسمح لبوتن بالحفاظ على المصالح الروسية، على عكس ما حدث لها في العراق وليبيا. فقد قامت روسيا بالإعلان عن تحالف أمني لوجستي لتبادل المعلومات الأمنية بينها وبين إيران والعراق وسوريا، ومواصلة العمل إلى جانب القوات السورية، والقوات الكردية "البيشمركة"..

بيد أن المفاجآت فى الحروب أمر متوقع، الخسائر ستظل مُحققة أو متوقعة طالما أن الأطراف المتورطة فى الحرب لم تصل إلى تسوية تحقق لكل منهم بعضاً من أهدافه؛ فمنذ دخول بوتن الورطة السورية عسكرياً فى 30 سبتمبر 2015، حيث تعرضت قواته العسكرية لخسائر بشرية عديدة وفى المعدات والطائرات، ولكنه اعتبر ذلك أهون بكثير من أن يتمكن تنظيم داعش والفصائل المسلحة والمرتزقة من كل حدب وصوب من إسقاط الدولة السورية، فبعدها سيأتى الدور على الداخل الروسى، فالأفضل إذاً أن تُحسم المعركة فى سوريا لصالح الدولة وليس الفصائل والمرتزقة.

ولم تعد نهاية العمليات العسكرية، كما أعلنها بوتين فى 5 ديسمبر الماضى نهاية المطاف، بل هى بداية لمرحلة جديدة سيتم فيها التركيز على تسوية سياسية تقبلها كل الأطراف وتعمل على تحقيقها. حينذاك سيكون خيار الحرب قد حُسم.

إن ما حدث هو أن بوتن قد راهن على مؤتمر سوتشى للحوار بين مختلف الفئات السورية، كما راهن على التحالف مع كل من إيران وتركيا لإنجاح المؤتمر، ومن ثم تأكيد انتصارها العسكرى ضد الإرهاب متمثلاً فى «داعش» وبعض توابعه.

مشكلات «سوتشى» كانت عديدة ومتنوعة، أبرزها كيف سيجتمع ممثلو النظام وممثلو المعارضة وممثلون عن الأكراد فى آن واحد، وكل منهم وراءه قوة دولية وإقليمية تنظر إلى الجهد الروسى باعتباره خصماً من نفوذها الذى تعمل على ترسيخه عبر عملاء وامتدادات بعينها لها حضور على الأرض السورية. ناهيك عن التضارب الحادث بالفعل بين جهود موسكو وجهود الأمم المتحدة.

فى ظل هذه البيئة المليئة بالتناقضات والخداع المتبادل المكشوف والخفى، أصرّ بوتن على تنظيم المؤتمر ظناً بأن ذلك سوف يتبعه اتفاق سيحترمه السوريون برعاية ثلاثية روسية تركية إيرانية، ومن ثم سيدفع مفاوضات جنيف خطوات إلى الأمام.

هذا الظن لم يكن محسوباً بما يناسب عناصر البيئة الإقليمية ومتغيراتها سواء فى داخل سوريا أو ما حولها. جاءت الضربات حتى قبل أن يُعقد المؤتمر. عملية الغزو التركى لـ"عفرين" ومساعى أردوغان تثبيت حضور الجيش الحر المكون من مسلحين سلفيين من جنسيات مختلفة في «عفرين» على حساب وحدات حماية الشعب الكردية في منطقة كردية بالأساس، أثبتت أن لأردوغان حساباتها الخاصة رغم محاولاته مع بوتن لإشاعة وجود تفهم وقبول روسي لهذا الغزو للأراضي السورية.

واتضح ذلك كما ذكرنا من قبل حين بينا عملية دخول الصراع التركي – الروسي حلقة جديدة من التصعيد، بعد مواجهات عسكرية جديدة بين الطرفين في محافظة إدلب. فقد تعرضت قوات عسكرية تركية في إدلب من جديد لقصف سوري ومقتل خمسة جنود وجرح مثلهم.

ولما كان بوتن هو الداعم للنظام السوري إلا أنه لا يستطيع أن يكون الطرف المحايد في الصراع السوري التركي وبالتالي فإن أي تحرك للقوات السورية بالأخص في مسألة ضرب أهداف تركية، لا يمكن أن يأتي دون غطاء من روسيا.

وفي نظري بأن التصعيد العسكري الحالي بين الجيش السوري والقوات التركية في محافظة إدلب، يعد أسوأ أزمة تواجه العلاقات التركية الروسية منذ حادث إسقاط الأتراك لمقاتلة روسية على الحدود السورية التركية عام 2015.

كما أن قوة الدور الروسي في سوريا تتمثل في أن موسكو كانت تعتمد على احتكار القوة، فليس هناك أي قوة دولية تشاركها هذا النفوذ في سوريا وهي التي تشرف أيضاً على علاقات سوريا مع تركيا وإيران ولهذا لا يمكن القول إن الدور الروسي قد ضعف أو أن روسيا قد فشلت في سوريا، إلا في حالة تدخل جدي من قبل قوة دولية أخرى، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك التيس الثالث .. وللحديث بقية في الأيام القادمة انتظار لما تسفر عنه الأحداث الجارية في سوريا هذه الأيام ...

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل.

..........................

المراجع

1- د. نصار عبد الله : ديوان شعر.

2- مصطفى عبد الغفار: إدلب وتركيا (مقال).

3- حسن ابو طالب: الكبرياء الروسى يسقط فى إدلب (مقال).

4- حسن ابو طالب: تركيا فى إدلب.. المسألة أبعد من الخطر الكردى (مقال).

5- حسان حيدر: في انتظار مذبحة إدلب (مقال).

6- عبد اللة السناوى: بين إدلب وطرابلس: عودة سوريا ضرورة أمن قومي (مقال).

7-هدى الحسيني: صراع أميركي ـ روسي ـ تركي على مستقبل إدلب (مقال).

8- رانيا حفنى: التدخل الروسي في سوريا (مقال).

9- أشرف الزهوي: خداع النصر هو مرض العصر(مقال).

10- حمدي البطران: نصار عبد الله (2) (مقال).

 

 

 

في المثقف اليوم