أقلام حرة

(سنة 1950) لأمين الريحاني

ميثم الجنابيملاحظة أولية: لقد سبق وأن نشرت هذه "الوثيقة" قبل أكثر من عقد من الزمن في الكتاب الدوري (رمال) الذي كنا نصدره أنا والفقيد جلال الماشطة والدكتور نوفل نيوف. وبما أن النسخة كانت ورقية، ومن ثم محدودة التدوال، لهذا ارى من الضرورة إعادة نشرها بالصيغة الالكترونية لتكون في متناول "الجميع"، وذلك لما لها من أهمية ثقافية وأدبية وسياسية وتاريخية أيضا.

***

يقدّم الكاتب العربي الكبير أمين الريحاني في مقالته التالية تحت عنوان «1950» نبوءة ثاقبة يعود تاريخها إلى عام 1920 عندما كتبها للمرة الاولى في امريكا.

فهو يتصوَّر نفسه، يومئذ، في عام 1950، أي يقفز ثلاثين سنة إلى الأمام ليكون سبَّاقاً في استشراف المستقبل ومسار التاريخ الذي يبدو له دائري الحركة، يبدأ بالحكم الأبوي، ثم يمر بالحكم الاستبدادي، فالحكم الدستوري، وينتهي بالحكم الاشتراكي، ليعيد الكرَّة من جديد في دأب لا ينقطع.

انطلاقاً من هذه الرؤية يقرر الريحاني أن حكم الشيوعيين في روسيا كان قد سقط مبكراً بفعل تدخل الدول الغربية الرأسمالية "دول الحلفاء" وحل محله حكم دستوري برجوازي.

ويدعونا الريحاني لاقتحام الغد وهو يتصوُّر نفسه واقفاً على شرفة عام 1950 في ظل حكم اشتراكي جديد "حكم العمال" الذي جاء ـ وفقاً لنبوءته ـ حين "رفع العمال راياتهم البيضاء لا الحمراء في كل العواصم الأوربية" وتلاحم جميع المظلومين ضد حرب عالمية كادت أن تنشب.

ومع أن "يوطوبيا" الريحاني لم تتحقق بكاملها، فيكفيها شرفاً أنها رأت وأصابت وظلت مفعمة بالآمال والنور.

بذلك يكون الريحاني قد كشف عن إيمانه بأن الدول الرأسمالية لن تسمح للنظام الاشتراكي في روسيا أن يستمر، وبأن الاشتراكية لا بد أن تشمل أوروبا وأمريكا بفضل ثورة بيضاء ضد حرب قادمة. فمنذ 1920 كان كاتبنا يرى أنه لا مرد لحرب عالمية ثانية بسبب التناحر على المصالح الاقتصادية. وإذا كان قد "أخطأ" حين توقع نشوب تلك الحرب بين أمريكا وبريطانيا، فإن ذلك لا يقلل من أهمية تنبؤه بحرب كونية حدَّد أسبابها الجوهرية: "التجارة إنما هي أم الحروب"، وحدَّد زمنها بدقة مذهلة، أي قبل 1950.

وإكبار الريحاني للرئيس الأمريكي ولسون ("مع أن أغلاطه كبيرة كثيرة") مبني على الآمال التي كانت تعلقها عليه الأمم "الصغيرة المظلومة في العالم بأسره «...» وهي تؤمل أن يجيئها من يده الخلاص والحرية". فقد كان الريحاني يتشوق لتحرير البلدان العربية من الاستعمار الأوروبي، وهاجم معاهدة فرساي التي أوقعت بالعرب وأحلامهم، عقب الحرب العالمية الأولى، ضربة قاصمة (فلنتذكر ما جرى للملك فيصل الأول يومئذ، و "مذكرات أحمد قدري" وكتابات لورنس العرب، وكتاب فومين "سلام ما بعده سلام"...).

وبخلاف جورج أورويل الذي كتب سنة 1948 رواية "1984" التنبؤية الشهيرة، فإن نبوءة الريحاني لا تنضح بالتشنيع الملازمين لرؤية أورويل. وقد سبق الريحاني هنا أيضاً ميخائيل بولغاكف الذي كتب رواية "فلب كلب" (1924) متنبئاً فيها بسقوط حكم الشيوعيين في روسيا لإغفاله الديمقراطية، ولأن الثورة ـ برأي بولغاكف ـ تمثل قسراً للطبيعة. (والتي ترجمها للعربية ترجمة رائعة،  الدكتور نوفل نيوف).  ولكن خلافاً عن غيره كان الريحاني تواقاً إلى حكم اشتراكي يُجبُّ ما قبله من أنواع الحكم، فيتفوَّق عليها بالعدالة بين الناس وبمنح الحرية للشعوب.

وتتعاظم أهمية رؤية الريحاني اليوم بفضل الأمل الإنساني الوضاء الذي يشع من كل حرف فيها.

«1950» وثيقة من طراز خاص!

ميثم الجنابي

***

كذلك انتهت حرب الأمم يا بني (يقصد بها الحرب العالمية الأولى)، الحرب التي ترى اثراً من اهوالها في وجه ابيك وشيئاً من عبرها في نفسه، الحرب التي اورثتني عيناً من زجاج وعيناً لوجداني من النور. وانا واحد من اربعة ملايين نجوا من نيرانها مشوهين ظاهراً، مطهرين قلباً ووجداناً. بل انا واحد من عشرات الملايين في كل الامم قضوا ثلاثين سنة آسفين على ضحايا تلك الحرب، قانطين من مساعي الانسان، يائسين من مناهج الامم، صابرين على عقم الايام.

انتهت تلك الحرب الضروس يا بني. وما كان من نتائجها الظافرة سوى سقوط الدول الاوتوقراطية الثلاث أي المانيا والنمسا وروسيا، وظهور الدول الصغيرة الجديدة في قلب اوربا. وهي على حداثة سنها غاضبة على ماضيها، غير راضية بحاضرها، ناظرة بعين اليأس والرجاء الى مستقبلها.

انتهت تلك الحرب بمعاهدة فرساي ولم يكد يطوي الزمن عاما عليها حتى نسي العالم تلك الآيات الرنانة التي كان يرددها الوزراء والروساء والزعماء. نسينا «جمعية الامم» و«حرية الشعوب الصغيرة» و«الحكم الذاتي» و«استئصال السياسة السرية» و«تخفيض السلاح» وغيرها من المبادئ التي سفك العالم المتمدن دم شبيبته من اجلها. نسيناها يا بني ـ او تناسيناها ـ وعدنا ظاهراً الى ما كنا فيه قبل الحرب.

اما تأثير الحرب الخلقي والروحي فظل حياً في قلوب الناس وشرع ينمو في الهيئة الاجتماعية التي لا تؤثر السياسة فيها ولا تؤثر هي في السياسة والاحكام الا ببطء وغموض تملها النفس. نعم يا بني، قد زرعت تلك الحرب بذور السلم في العالم، ولكنها لم تَنْمُ بادئ ذي بدء الا في الطبقات الواطئة من المجتمع البشري، طبقات العمال والفقراء، الطبقات التي التهمت نار الحرب رجالها، الطبقات التي لا تقوم حرب الا بها وبضحاياها. وبما ان الذين تولوا الاحكام بعد تلك الحرب كانوا من الطبقة الوسطى التي تدعى في اوربا «برجوازي» لم يكن الشعب راضياً بها، ولما نهض العمال والفلاحون في روسيا يؤسسون حكومة منهم ولهم، حالت دون مساعيهم دول الاحلاف، فسقط ما كان يدعى الحكم البلشفي كما سقط قبله الحكم البرجوازي والحكم الاوتوقراطي.

واذا عدنا الى التاريخ ودققنا النظر في تسلسل الاحكام التي اسسها الناس نرى انها تشير الى دائرة لم تزل ناقصة. فمن الحكم الابوي، أي حكم الحكماء في قديم الزمان، تدرجنا الى الحكم الاستبدادي، أي حكم الملوك المطلقين، ومنه الى الحكم الدستوري، أي حكم الوجهاء والاكابر، ثم الحكم الاشتراكي، أي حكم العمال الذي نحن فيه اليوم. والذي سيتبعه ولا شك هو الحكم الابوي، الدستوري، الاشتراكي، الذي تتم عنده دائرة الاحكام كلها. ويظهر انها تتبع بعضها بعضاً على هذه الصورة طبقاً لقانون التاريخ وعملاً بناموس النشوء والارتقاء. فاذا تأسس حكم العمال على عرش الحكم الاستبدادي مثلاً لا يلبث ان يسقط فيقوم مقامه الحكم الدستوري البرجوازي. كذلك كان في روسيا عندما سقطت البلشفية.

ان لحرب الامم من هذا القبيل نتيجة شبيهة بنتيجة الثورة الافرنسية اذ انها اسقطت الاوتوقراطيين عن عروشهم وولت مكانهم، بعد انقلابات عديدة، من ادعوا زعامة الشعب من وجهاء الطبقة الوسطى، طبقة البرجوازي. فلم يكن الانقلاب النهائي الاخير سوى انقلاب سياسي قُضي فيه، ولا شك، على اصحاب التيجان وارباب الشرف الموروث، وتعززت سيادة اولئك السياسيين والزعماء الذين طالما رددوا الفاظ الحرية والمساواة، ثم خدموا، باعمالهم وشرائعهم، امراء المال واقطاب الاقتصاد.

اجل يا بني، انتهت حرب الامم ولم تنته حرب الاحزاب، احزاب ذوي الثروة والسيادة واحزاب العمال. لم تنته حرب الطبقات بعضها على بعض المتأصلة اسبابها في المجتمع الانساني بل في اعماق الطبع البشري.

حكم الاوتوقراطيين زمناً طويلاً فسقطوا فاندثرت اثارهم. ثم حكم الوجهاء والاكابر، زعماء الطبقة الوسطى، فكان حكمهم شبيهاً، من وجوه عديدة، بحكم الطغاة ارباب الصولجان والجند. أي ان مصالح الافراد، وتقاليد الدول، ومآرب ذوي الثروة والسيادة، ومطامع السياسيين، بل آفات الهيئة الحاكمة والهيئة المحكومة كلها، كانت تتخذ مظهر الشرائع والاحكام تارة على العمال وطوراً على ارباب الفكر وانصار الكمال. يا لها من شرائع سُنت لتعزيز الحكومات، لتعزيز العسكرية، لتعزيز الاحزب السياسية، لتعزيز المغامرات المالية والاقتصادية! يا لها من شرائع سنت باسم الديمقراطية فما انتفع بها غير اعدائها!

ثلاثون سنة ولت يا بني، والشعوب، وقد شبعوا حرباً، راضون بما كان، ساكتون عن مظالم قديمة وجديدة، صابرون على فساد الاحكام وعقم الايام. نعم رضينا بشرائع سنها مؤتمر السلم، وبعهود عقدت بين الامم. قبل العالم معاهدة فرساي كما يقبل  المريض الدواء.

ولكني لم ازل اذكر يوم عاد الرئيس ولسن من اوروبا مكللاً باكليل الاكرام والاجلال، مزوداً زقوم الخيبة والفشل. ويا له من يوم تمثلت فيه آمال الامة الاميركية لابسة الحداد، وآمال الديموقراطية مذبوحة على هيكل المطامع الدولية، وآمال الملايين من ابطال الحرب مدفونة معهم على ضفاف المارن والسوم وفي سهول فلاندرس وشمباين.

لقد اكرم ساسة اوروبا الرئيس اكراماً جميلاً منقطع النظير ثم استطاعوا بدهائهم وغموض سياستهم وبمساعدة فريق من الاميريكيين انفسهم ان يحولوا دون ما كان يبشر به من الكمالات السياسية.

مهما قيل في الرئيس ولسون يا بني، فاننا اليوم متقفون مقتنعون انه من اعظم رؤساء هذه البلاد، بل من اعظم الزعماء في العالم. واننا لنرى اليوم ان الامم المتمدنة لم تكن عند انتهاء الحرب مستعدة لقبول كمالاته السياسية. ومع ان اغلاطه كبيرة كثيرة، فقد كان بعيد النظر صادق اللهجة في سياسته الديموقراطية العمرانية. وان الامة التي ترفعه الان الى مقام لنكن وواشنطون لهي عالمة بمواطن ضعفه، مدركة كل اغلاطه. واكبر هذه الاغلاط واضرها بخطته الديموقراطية الصميمة هو انه اغضب الحزب الجمهوري قبل سفره الى اوروبا وحمله تقيده بحزبه الخاص على ان يؤثر مصلحة الحزب على مصلحة الامة. والدولة ناشئة من الاحزاب كلها. نعم قد كان الرئيس من هذه الناحية رئيس حزبه لا رئيس الامة جمعاء. ولكنه كان أيضاً رئيس الامم الصغيرة المظلومة في العالم باسره، تلك الامم التي كانت تنظر اليه نظر العليل الى الشمس والسماء، وهي تؤمل ان يجيئها من يده الخلاص والحرية. نعم يا بني، اني لا ابالغ اذا قلت انه وان كان، سياسياً، رئيس الحزب الديموقراطي فقط فقد كان، معنوياً، رئيس الامم جمعاء. ولكن القيمة المعنوية لم تؤثر في السياسة الاوروبية، التي تواطأت واعداؤه عليه. وقد كان ولسن كمن يفادي مجاناً بنصف ميراثه، كمن يرمي بنصف ثروته في البحر. لقد افقر الرئيس نفسه سياسياً، وشطر قوته بيده شطرين، وترك عند سفره الى اوروبا احد الشطرين وراءه يسعى في مقاومته.

ولا احد ينكر اليوم ان الحزب الجمهوري ساعد الساسة الاوروبيين في تحقيق مقاصدهم الاستعمارية ومطامعهم الدولية وضرب الحرية ضربة اقعدتها، دوختها يا بني عشرين سنة. اجل، قد غُلب ولسن في ذلك الزمان لا بقوة الحجة، ولا بسداد الراي، بل بمساعدة اعدائه في هذه البلاد. فعقدت تلك المعاهدة في فرساي، المؤسسة على الانتقام والاثرة.

معاهدة فرساي، وحق الغالب لا حقوق الامم معزز فيها، لا تختلف يا بني عن معاهدة فيانا. وقد رضي العالم المتمدن بها لانه كان قد شبع الحرب. بل كان والحق يقال، منهوكاً مستضعفاً، سقيماً.

على ان الامم الصغيرة الجديدة التي ذكرتها تنبهت بعد سنين الى الخدعة الدولية وعلت فيها صرخة الاحزاب الوطنية. فتضاربت المصالح والاراء. وتباينت المقاصد والغايات. دقت طبول التمرد والعصيان، فتفجرت براكين الثورة في الشرق الادنى وفي البلقان، فتدخلت الدول العظمى بشؤونها واحتلت بلادها بضع سنين. مثل ذلك احتلال روسيا قسماً من بولونيا، واحتلال المانيا قسماً آخر، واحتلال النمسا قسماً من اراضي الصرب.

اثارت هذه الحركات الرجعية ثائر الرأي العام او بالحري العمال من اشتراكيين وبلشفيين وفوضويين فاخذوا يترقبون الفرص للوثوب على الحكومات الجمهورية المالية ـ حكومات الوجهاء والاكابر ـ او بالحري الحكومات القيصرية الجديدة.

قلت يا بني ان ذلك السلم الذي عقدت عهوده الدول الغالبة انما كان سلماً تقليدياً. أي انه كان مبنياً على مصالح الدول الاوربية الكبرى في بلادها وخارج بلادها، وعلى مطامعها المالية والتجارية والاستعمارية. فقد قيدوا المانيا بغرامة تكاد توازي ثروتها كلها، وتقاسموا مستعمراتها وقطعوا الطريق على تجارتها. زد على ذلك ان انكلترا احتلت فلسطين والعراق. واحتلت فرنسا سوريا. واحتلت ايطاليا قسماً من البلاد الافريقية العربية، ثم استولت على مراسٍ بحرية في الادرياتيك ادعاها اليوغسلاف. كذلك ساد البورجوازي سيادة مطلقة، فظل الوجهاء والاكابر ثلاثين سنة وهم متقلدون زمام الاحكام، قابضون على ناصية الزمان.

أجل، يا بني. ان معاهدة فرساي قسمت العالم المتمدن الى قسمين كبيرين اساسين، قسم الحكام وأنصارهم من ذوي المصالح المالية والتجارية، وقسم العمال الذين كانوا يحتجون من حين الى حين بالاضراب عن العمل وبنهضات ثورية محلية لم تات بكبير فائدة.

استمرت هذه الحالة ثلاثين سنة عاد فيها العالم المتمدن الى تقاليده السياسية القديمة. ساد فيها حزب المحافظين بل الرجعيين في كل الجمهوريات وامعنت الامم بالمنافسات الاقتصادية والتكالب المالي. ومن اشد هذه المنافسات ما نشأ بين انكلترا واميركا. ففي سنة 1925 كانت بحرية الولايات المتحدة الثانية في العالم، وظلت تزداد عدداً وقوة حتى فاقت البحرية الانكليزية. وقد جرى بين هاتين الامتين ما جرى بين انكلترا والمانيا قبل حرب الامم من المباراة في بناء الاساطيل والطائرات.

زد على ذلك ان الولايات المتحدة التي لم يكن لها بواخر تجارية تذكر قبل الحرب أصبحت بعدها في الصف الاول من البحرية التجارية. ولكنها لم تستطع اول الامر ان تجاري انكلترا في اجور الشحن لان النوتيين الاميركيين يتناولون اضعاف اجور النوتيين الانكليز. فاضطرت لذلك الشركات الاميركية ان تستأجر نوتيين من الاجانب وفيهم من اتباع المملكة البريطانية. فامتعض لذلك ارباب الشركات الانكليزية وسعوا لدى حكومتهم فاحتجت مراراً من اجلهم. ولكن حكومة واشنطون لم تسمع احتجاج الحكومة الانكليزية. التجارة يا بني التجارة انما هي ام الحروب!. والزعماء والوزراء والصحفيون كلهم آلات بيدها.

قلت ان اميركا فاقت انكلترا ببحريتها وبتجارتها. فصرنا نرى البواخر الاميركية تحمل البضاعة الاميركية والانكليزية والافرنسية الى الصين واليابان والهند واستراليا والشرق الاقصى فضلاً عن جمهوريات أميركا الجنوبية التي حلت اميركا، فيها بعد حرب الامم، محل المانيا. ولا بد في مثل هذه المنافسة التجارية الشديدة من شر يستسمره السياسيون والزعماء الطامعون بالثروة والسيادة، ويساعد في تعميمه الصحفيون، لا بد في منافسة تجارية بين امتين من يومٍ تنفجر فيه براكين الطمع والضغينة. وكذلك كان.

فقد اضرب عن العمل في احد المراسي الشرقية النوتيون الانكليز فشاركهم بالاضراب بعض النوتيين المشتغليين في بواخر أميركية كانت راسية هناك. فاستخدمت الشركة الانكليزية نوتيين من الاهالي، فهددهم المضربون بالقتل اذا اشتغلوا، فحدث بين الفريقين مناوشات اضطرت الحكومة المحلية، وهي انكليزية، ان تخمد نارها بالقوة العسكرية. فأطلق الجند الرصاص على المضربين، وكان ممن قتلوا بعض النوتيين الاميركيين.

نقل البرق خبر هذه الحادثة فنشرته الصحف بالقلم العريض "قد قتل عدد من المواطنين الاميركيين"! فثار الناس، وفي مقدمتهم السياسيون والصحفيون، على انكلترا، ولكن صحف لندن روت الحادثة على غير ما روتها صحف نيويورك وقالت ان الحق على المضربين، وان جنود بريطانيا العظمى عملوا الواجب عليهم.

ولما شرعت الصحافة الاميركية تنادي وتصيح "الحرب الحرب!" نهض العمال والنساء يحتجون عليها وعلى الحكومة. ولكن احتجاجهم لم ينجح. طلب الرئيس من الحكومة البريطانية اعتذاراً او تعويضاً، فأبت. تدخلت فرنسا والمانيا واليابان في الامر، ولكن النعرة السياسية والمصالح التجارية تغلبت على كل تدخل. أشهرت اميركا الحرب على انكلترا وشرعت تواً تجهز الجيش. وكذلك فعلت انكلترا. ولكن الايام حبالى بالمعجزات يا بني. ونهضت الامم تنمو سراً نمواً بطيئاً، فتظهر فجأة لتطهر المجتمع من امراضه وادرانه.

اجل، يوم صدق الرئيس على قانون التجنيد الاجباري ظهرت في الامتين الاميركية والبريطانية قوات العمال دفعة واحدة وقد توحدت كلها قصداً وعملاً.

قصدنا السلام، وعملنا السلام.

عُزلاً وقفنا أمام دار الحكومة نرفض حمل السلاح، لا دفاعاً عن انفسنا ولا دفاعاً عن الأمة.

عُزلاً سرنا في الاسواق، وفي مقدمتنا النساء حاملات الاعلام البيضاء لا الحمراء، وبينهن امهات من سفكوا دماءهم في حرب الامم.

عُزلاً اجتمعنا في الساحات العمومية، وبيننا الوف ممن خاضوا عباب حرب الامم، ونجوا منها مشوهين مثلي.

لا يا بني، لم ننسَ تلك الحرب واهوالها، ولم تنس النساء ويلاتها، ولم تنس الامهات أحزانها. نهضنا واخواننا البريطانيين نهضة واحدة على الحكومات المالية التجارية الطاغية. لست انسى حياتي يوم حاولوا تبديد اجتماعنا امام دار الحكومة. أُمرنا بالذهاب الى بيوتنا فابينا، فامر الجنود باطلاق الرصاص علينا. تباركت تلك الساعة يا بني، وتبارك الاخاء والوفاء. فلما امر الجنود باطلاق الرصاص رموا سلاحهم الى الارض واسرعوا الينا يعانقوننا. تعانق الجنود والعمال يا بني، واتحدنا على العدو، عدو التمدن والانسانية. نعم، قتلنا في تلك الساعة الحرب في مهدها، وأسقطنا حكومتها واربابها. في تلك الساعة يا بني أشرقت شمس الاخاء والحرية لاول مرة في العالم.

أجل، سقطت حكومة واشنطون وحكومة لندن في اسبوع واحد واخذت ثورة العمال السلمية تمتد وتنتشر في فرنسا والمانيا وروسيا والنمسا وايطاليا. سطع نورها في امم اوروبا واميركا جمعاء. بعثت البلشفية من قبرها وقد طهرها الفشل والزمان، فاستولت وهي عزلاء، على زمام الاحكام في العالم المتمدن. وكانت النساء، تبارك اسمهن وجنسهن، العامل القوي في الفوز المبين.

عصينا يا بني، تمردنا، خلعنا نير الحكومات التجارية الطاغية. انتصر السلم نصراً مبيناً. فازت الحرية والاخاء فوزاً باهراً. رفع العمال راياتهم البيضاء لا الحمراء في كل العواصم الاوروبية. وبعد ان استتب حكمهم الديمقراطي الاشتراكي عقدوا مؤتمراً في نيويورك قرروا فيه ثلاثة مبادئ اساسية:

اولاً: استيلاء الحكومة على الشركات العمومية كلها.

ثانياً: تحديد دخل الشركات التجارية والمالية ودخل الافراد.

ثالثاً: تأسيس وكالة عمومية في كل ولاية، رأس مالها ما زاد من دخل الافراد والشركات الخصوصية، فينفق ريعها على المشاريع العمومية، والمعاهد العلمية والفنية والصحية.

وقرر المؤتمر ايضاً مبدأ الرئيس ولسن في الحكم الذاتي الاختياري لكل الامم صغيرة وكبيرة. فجلت انكلترا عن الهند وعن مصر وفلسطين، وجلت فرنسا عن سوريا وعن المغرب، وخرجت المانيا وروسيا من بولونيا ومن المستعمرات الجديدة التي احتلتاها. ثم تأسست جمعية الامم التي استولت على جيوش واساطيل الامم المشتركة بها.

وحكم العمال الذي نحن فيه الآن يا بني هو الحلقة الرابعة من دائرة الاحكام البشرية التي ذكرتها. فمن الحكم الابوي أي حكم الحكماء، الى الحكم الاستبدادي أي حكم الملوك المطلقين، الى الحكم الدستوري أي حكم الوجهاء والمتمولين، الى الحكم الاشتراكي أي حكم العمال، الى الغد يا بني. الى الغد.

 

 

في المثقف اليوم