أقلام حرة

من داخل مقبرة الموت والحياة

محسن الاكرمينحين دنوت قدما نحو المقبرة بجمع من الحاضرين، لاحظت أن جل المشيعين متسلحين بالتواضع وإقصاء أنانياتهم الذاتية وهم بملعب بوابة الموت والحياة السفلية. رأيت أن الموت يتجول بيننا بحرية وبلا حراس من الحياة، رأيته يتلهى بالسلام على من قدم طواعية بالإنصاف ولا تفاضل اجتماعي بينهم، رأيته وبدون ضجيج يتفحص في عيون الحاضرين إلى المدافن وبدون دعوة رسمية منه. اليوم علمت أمرا بالتحدي الموضعي بين أرواح موت الغياب تحت التراب، علمت أن المقبرة لن تسرقني اليوم مادامت الحياة قد ماتت بين يدي منذ الزمن القريب.

كنت أود الرحيل ودون ضجيج، هكذا كان خطاب الميت في مخيلة تفكيري. كنت أود موت الألم والوجع وليس موت الحياة، كنت أود أن أطلب منكم جميعا الدعاء لي بالمغفرة قبل مواراتي ترابا، هي كلمات تتداولها مخيلتي المغيبة بالتفكير بحدود قبر الدفن وسرعة إنهاء مأتم الرحيل. هو الدفين الذي انبعثت في عينيه رؤية حصرية للحاضرين من تحت لحاف الكفن، هو الدفين الذي تفحص وجوها حاضرة في ذكراه الأخيرة والحزينة ولم تشاركه يوما فرحه ولا حاجته. انتهى قوله قبل الغطاء الأخير "يا ربي هذا عبدك فتقبل...".

هي كلمات من حسن أيام حياة الخلد، هي الحقيقة التي تبحث عن معنى جديد للحياة والقادمة برؤية أمل جنة الفردوس، هو الصمت الذي بدا في رسم دموع الفراق والحزن على من حضر المأتم النهائي، هي اللوحة الأخيرة التي تمزق القلوب والفوارق الحياتية، وتحضر فيها العدالة الربانية بالتساوي.

في المقبرة، حين وقفت بقرب القبر طلعت شمس من بين ضباب، بدا طعم الجنون الفلسفي يحاصرني بين قيمة الموت والحياة، بات كل من حضر بالمقبرة مثل الشمعة التي فطنت من نهايتها حين اكتشفت أن الخيط الذي كان يسندها وقوفا هو من عجل بنهايتها. في المقبرة يغيب الفرح الذي لا يحمل نفاقا من المواد الحافظة من دنيا الفناء، يحضر الخوف من دخان الحرائق، يحضر حلم زمان الورد. في المقبرة يمتد الحزن على مرمى قلوب وعيون من حضر مترعا بالشوك والدموع. في المقبرة ينبض الحب بالموت، والعطر بالفراق، ويلوح الوجع الصارخ فوق اللحد و تجسير المرور لحياة الخلد بالطمأنينة التامة.

هي الحياة تلحظ بالمرموز أنها تهرب من وجوه من حضر المقبرة تماما مثل الليل بممحاة شمس صبح، هي الحياة والموت وسر الفرح الذابل الذي نجدد به وضوء أيامنا الباقية، هي الحياة والموت وجهان لعملة واحدة غير قابلة للصرف داخل المدافن. يسود الصمت من حضر المقبرة إلا من رنين الهواتف والصورة المستحدثة، صمت يمكن أن يمتد إلى بوابة المقبرة. كنت حينها أحسن أننا نتحرر هربا من الموت الذي يحتفل  بالقادم الجديد، كنت أحس أننا نسرع الخطى حينا شهدنا القبر يكبر ترابا، كنت أعلم أن عند باب المقبرة تعود الحياة والبسمة لمن حضر التأبين الأخير.

 

محسن الأكرمين

 

 

في المثقف اليوم