أقلام حرة

تأملات في الطباع الأربعة (2)

منى زيتونأكتب هذا المقال بينما أسمع زعابيب إعصار التنين التي هبت على مصر وبعض بلدان المشرق العربي، والذي تخوف منه كثيرون، حيث تزامن مع تربيع القمر في وباله في العقرب مع زحل في الدرجة الأخيرة من الجدي، وهي سمة فلكية تتشابه جزئيًا مع الريح الصرصر العاتية التي أصابت قوم عاد في يوم نحس مستمر، ولكن الله رحمنا فكانت رياحنا مصحوبة بالمطر، وليست مبعوثة بالعذاب.

وبمناسبة هبوب تلك الرياح المحملة بالأتربة كثر الحديث عن التراب وأثره –إن هب- في تطهير الهواء من الأوبئة، فرأيت أن أعرض بعضًا مما أعرف عن اعتقاد القدماء في العناصر الأربعة، وقد سبق لي في مقال سابق بعنوان "تأملات في الطباع الأربعة وتوزيعها على الفصول الأربعة" أن تكلمت عن فلسفة "الطباع الأربعة" عند القدماء؛ حيث افترضوا عناصر أربعة أساسية، لكل منها طاقة مختلفة الأثر في الكون وفي طباع البشر.

هذه العناصر هي النار والهواء والماء والتراب، والتي تدور طاقاتها على البروج الاثنا عشر، وعلى الفصول الأربعة بحيث يكون كل عنصر منها هو الطاقة الرئيسية في أحد الفصول؛ فالنار هي طاقة الصيف، والهواء طاقة الخريف، والماء طاقة الشتاء، والتراب طاقة الربيع.

وفيما يخص مكونات الإنسان كانت النار هي الروح والقوة الحقيقية الداخلية، بينما الهواء هو الفكر والعقل، ومثّل الماء عاطفة الإنسان، وكان التراب لديهم هو الجسد.

ولكل عنصر رمز عُرف به عند القدماء؛ فرمز النار الصولجان أو العصا الغليظة (النبوت)، والسيف القاطع هو رمز الهواء، ورمز الماء هو القلب أو وعاء الماء، بينما رمَز الدرهم إلى التراب.

وعلى الأرض نجد كثيرًا من الماء، وكثيرًا من التربة المتماسكة التي يمكن أن نعيش عليها، وكثيرًا من الهواء، ولكن مع قليل من النار ومصادر الحرارة! فالماء والتراب يفرشان سطح الأرض وأعلى منهما الهواء، والقريب منه لسطح الأرض فقط صالح أن نتنفسه، وأعلى وأبعد النار (الشمس)؛ نستشعر أثرها كالروح ولا نلمسها، كما أن باطن (لب) الأرض نار.

ولسيادة طبع ما أثره في شخصية صاحبه كما تصور القدماء؛ فلأن الهواء هو العنصر الذي يستحيل امتلاكه، وهو رمز الفكر، قالوا بتوارد الأفكار بين البشر، وأن للأفكار أجنحة! لذا فإن أصحاب الطبع الهوائي هم الأعلى إنسانية والأكثر تشاركية بين باقي البشر، والأكثر تفكيرًا، ولكنهم أيضًا قد يكونون الأكثر ثرثرة ونشرًا للإشاعات!

بينما من يسود لديهم الطبع الناري هم الأكثر قوة والأقدر على القيادة والأجدر بها، والأسرع في اتخاذ القرارات، وأصحاب الطبع المائي هم الأكثر حنانًا ولطفًا، ولكن أصحاب كلا الطبعين أقل اهتمامًا بأحوال البشر عامة من هوائيي الطبع؛ ذلك أن الطاقة والماء جزء منهما مشترك وعام بين البشر، وجزء آخر منهما قد يكون ملكية خاصة، ولكن يظهر الانكباب على الذات والأهل والشئون الخاصة للفرد في أجلى وأوضح حالاته لدى أصحاب الطبع الترابي الأرضي، لأن الأرض هي أكثر ما يتملكه البشر، ولكن هؤلاء ممن ينتمون إلى الفئة الأخيرة "الترابيين" هم الأكثر استقرارًا وإن كانوا شديدي البطء في اتخاذ القرارات.

الماء والحب!

ذكرنا أن الماء عند القدماء هو العاطفة والانفعالات. يقول تعالى في محكم كتابه: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا﴾ [الفرقان: 54]. وقد أثبت العلم الحديث أن 78% من كتلة جسم الإنسان ماء، وأن انفعالات الإنسان تزيد وتصل ذروتها عندما يكتمل القمر بدرًا، وربما هذا يوضح الحكمة من الأمر بصيام الأيام البيض أواسط الشهر العربي، وقد قال القدماء إن القمر طاقته مائية، تؤثر على مشاعر البشر، وطالما تغنى العربي تحت سماء الصحراء بأشعار الغزل على ضوء القمر وهو يذكر حبيبته، ونرى بأعيننا كيف تجذب طاقة القمر ماء البحر فتحدث ظاهرة المد.

ولمن لا يعلم فإن وعاء الماء في اللغة العربية الفصحى يُسمى الحُب! ولا زال في بعض لهجات العرب في العراق وغيره يسمون وعاء الماء الفخار الكبير –الزير في لهجة أهل مصر- بالحُب.

ولاعتقادهم قديمًا بأن السوائل التي نشربها تؤثر في مشاعرنا كانوا يحرصون أن يشرب كل من يعيشون في بيت واحد من وعاء ماء واحد، وربما يشرب أحدهم من باقي كوب الآخر، وفي الأثر أن سيدنا رسول الله كان يشرب من كوب السيدة عائشة، ويتتبع أثر فمها في الإناء.

ولم تكن كل أسرة نووية تطبخ أكلها وحدها، بل كان هناك مطبخ كبير لبيت العائلة، وكان سلق اللحم للعائلة كلها يتم في إناء واحد بحيث يكون المرق الناتج عن سلق قطع اللحم التي سيأكلها كل فرد من العائلة ممتزجًا، وكان هذا الحرص يصل لدرجة أن الإناء إن لم يسع كل اللحم لكثرة عددهم، فإما أن يسلق الجزء الباقي في إناء آخر، ثم يخلط المرق كله قبل التقديم، أو أن يُنتظر حتى يتم سلق الجزء الأول من اللحم، ثم يتم انتشاله من المرق، ووضع باقي الكمية ليتم سلقها؛ لذا كانت أواني الطهي كبيرة الحجم في البيوت لتجنب قسمة الأكل، ليس فقط لعدم إرهاق النساء، بل لأنه كان الاعتقاد بأن شربهم جميعًا من المرق نفسه الذي ذابت فيه قطع اللحم التي ستنمو منها أجسادهم سيجعلهم أقرب إلى بعضهم البعض، ويزيد المحبة والألفة بينهم. وكان أيضًا النهي عن أكل الطعام جافًا دون سوائل، وفي الأثر الذي رواه الطبراني "ائتدموا ولو بالماء".

العناصر الأربعة والطهارة

والعناصر الأربعة طاهرة في أصلها، وأشدها قدرة على التطهير النار، ولكنها اختصاص إلهي. والهواء –وإن كان طاهرًا- لا يُمسك فلا قدرة على التطهر به، من ثم فنحن نتظهر بالماء، فإن غاب فعلينا التيمم بالتراب.

فالماء هو مطهر النجاسة، والماء طَهور كما وُصف في الحديث الشريف، وهو أصل التطهير والقاعدة الشرعية أن "الماء طاهر، ويُطهر غيره". وماء المطر هو أطهر الماء. يقول تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾.

وهذا إن كان المرء حيًا، لكن إن مات الحي فتغسيله بالماء قبل ملاقاة ربه واجب، ولكنه غير كاف، وهنا اختلفت الأمم ما بين الدفن في التراب أو الحرق بالنار -كما عند الهندوس- للتخلص من جثث الموتى، فإن لم تُدفن الجثث وتُركت في الهواء فالوباء والبلاء حال لا محالة.

وقالوا إن أكثر ما يحمل الوباء هو الهواء، وهو أضعف العناصر الأربعة، لذا كانوا يقولون إن هوائيي الطبع أضعف جسمًا من أصحاب الطباع الأخرى، بينما أقواهم بنية أصحاب الطبع الناري.

 ولأن زمن الشتاء زمن رطوبة، فالشتاء طبعه الماء كما أوضحنا، فهو يفسد الهواء ويكثر فيه الأوبئة التي تنتقل عن طريق التنفس، ولا يُخلَّص الهواء من سمومه وتلوثه إلا التراب، فما أفسده الماء في الهواء يصلحه التراب! لذا كانوا يفرحون إن هبت أتربة الربيع بعد شتاء ملئ بالوباء.

والتراب هو مطهر الوباء بوجه عام، وفي الحديث الشريف الذي أخرجه الإمام مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ, أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ".

لكن يبقى الماء هو الطاهر المُطهر لغيره، فإذا تنجس التراب ذاته يُطهر بالماء أو يُترك لنار وحرارة الشمس تطهره وتعيده طاهرًا كما كان.

وإلى تأملات أخرى مع إعصار رحمة آخر إن شاء الله تعالى.

 

د. منى زيتون

الخميس 12 مارس 2020

 

في المثقف اليوم