أقلام حرة

مُرتَاب يعتلي منبر اليَقين

عصمت نصارعلى الرغم من انضواء "أمين فارس الريحاني"، تحت مظلة الاتجاه العلماني في الثقافة العربية، إلا أن وجهته التي صرح بها في كل كتاباته تميزه عن رفاقه الذين ثاروا على الواقع الذي تعيشه الأمة العربية في العصر الحديث؛ فهو لم يجحد ثقافة الشرق ولم يهّون من الدور الريادي الذي اضطلع به فلاسفة العرب في الفكر الإنساني وإسهاماتهم العلمية التي تتلمذ عليها الغرب؛ ورغم ذلك نجده يرغب عنها ويعترف بأنها غير صالحة لحل مشكلاتنا في زمن الحداثة، كما أن ما تحمله من قيم وعادات وتقاليد ومقدسات يجب أن يُطرح على مائدة النقد لاستبعاد الفاسد منها وتطويع الجيد المتبقي للعيش في زمن العلم.

ونألفه ينشد الأشعار ويؤلف الروايات والمسرحيات ويدبج المقالات التي تحرّض الأمة العربية على الأخذ بفلسفات الغرب (القائمة على العدالة والديموقراطية، وعلمانية التعليم، والثقافة العلمية) لتنتفع بعلومها وتستنير بنغومها، بيد أنه يحذر في الوقت نفسه من الفناء فيها والتنازل عن المشخصات العربية ولغتها وآدابها والأخلاقيات الشرقية في ثوبها النقي الذي يسعى إلى سعادة الإنسان.

ونراه يُعلن عن وجهته العقلية ورؤيته الواقعية وجحده للغيبيات ونقده للميتافيزيقا والمقدسات، ومسايرته لمذهب اللاأدريّة تجاه حقيقة الاعتقاد في الألوهية، والنبوات، وتعاليم الكنيسة، والخلاص، والفداء. وفي الوقت نفسه يقر بأنه رافض للمذاهب المادية ومناصر للنزعات الروحية وعلى رأسها الثيوصوفية ونظرية وحدة الوجود.

كما تشهد كتاباته - التي دافع فيها عن الثورة الفرنسية - بتفضيله النهج التنويري القائم على نشر العلم وتربية الرأي العام وتوعية الطبقة الوسطى في تقويم المجتمع وإصلاحه، راغبًاً بذلك عن كل الحركات الراديكالية الانقلابية سواء في المعتقد السائد مثل الدعوى الوهابية ودعوة جمال الدين الأفغاني أو في ميدان السياسة والوثوب على السلطة بالقوة. ولكنه يؤكد من حين إلى آخر أنه قائد ثورة ضد الجمود والتخلف والجهل والخرافة والدين والكهنة والاحتلال والمطامع الأوروبية وظلم العثمانيين والتعصب الملي والطائفي.

ويدعو للقومية العربية والوطنية العلمانية مناهضًا بذلك فكرة الرابطة الإسلامية والخلافة العثمانية ومصادرة العروبة لصالح الإسلام في فكر محمد بن عبدالوهاب وعبدالرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان.

وإذا ما حاولنا تحليل البنية الأيدولوجية التي شكلت أفكار أمين الريحاني، فسوف نجدها تجمع بين الكثير من المذاهب المتباينة؛ الأمر الذي يكشف عن قدرته على الجمع بين الرؤى المختلفة ويوضح في الوقت نفسه علة ما يشوب آراءه من عدم الاتساق والاضطراب النسقي.

فقد رَغَبَ الريحاني عن التعليم الديني - منذ طفولته - وسخر من دروس الأحد، وتهكم على كتابات أوغسطين وتعاليم الكنيسة بما في ذلك التثليث والخلاص والفداء. غير أنه كان يرى أن خير مرشد للعوام البسطاء هو ما ورد من وصايا وإرشادات على لسان السيد المسيح.

كما أن الاعتقاد في وجود الله العادل الرحيم العطوف هو المنقذ الحقيقي للبسطاء من عذابات القهر والظلم الاجتماعي والعنف الطائفي والتشاؤم واليأس، فالتسامح والتفاؤل والمحبّة التي جاءت في وصايا المسيح لا غنى عنها في ثقافة الجمهور الذي نشأ على الوعظ والارشاد دون الحكمة العقلية والمبادئ العلميّة.

فقد تأثر بدعوى كانط وسان سيمون والماسونيين والمستنيرين الفرنسيين في الدعوى للعدالة والإخاء والمساواة والسلام بين البشر، وكان من أكثر شبيبة اللبنانيين تحمُّساً للثورة ضد العثمانيين وتحريضا لبني جلدته للانضمام للجيش الأمريكي لمحاربة تركيا للاستقلال عن الخلافة العثمانية.

ومن برتراند راسل أخذ اللاأدرية، ومن وليم جيمس استوحى الفلسفة البراجماتية، ومن أوجست كونت تمثل الفلسفة الوضعية، ومن محي الدين بن عربي اعتنق نظرية وحدة الوجود ووحدة الأديان، ومن سبينوزا أمن بنظرية الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة، ومن جان جاك روسو وفولتير استلهم تحمسهما للقومية والوطنية، وأعلى من شأن قيم السلام والسعادة والتعاون والإخاء البشري والقيم العلمية التي نادى بها الماسونيون وسان سيمون والمستنيرون الفرنسيون الذين تأثر بهم كذلك في سكب أفكاره في العديد من القوالب الأدبية (الشعر، الرواية، المقال الأدبي).

ويكتب الريحاني محاورة من نسج خياله بينه وبين ابن رشد: يؤكد فيها الأول على عظم أفكار أبي الوليد وأثرها في الفكر الإنساني، فيجيبه الثاني - أي ابن رشد -: إنّ أفكاري لم يُحسن العرب الاستفادة منها بل إن الغرب فعل ذلك فتقدّم وتمدن وارتقى، أمّا العرب فارتضوا العزلة والتقليد فوقعوا في شراك الخرافات والأوهام، اعتقادا منهم بأن ما يحفظونه من تراثهم هو الدين وجوهر العقيدة؛ فخدعوا الناس وضللوهم وصرفوهم عن العقلانية والعلم والنقد والابداع؛ وجميعها قد حثّ عليها الشرع، ورغب حكامهم عن الحرية والعدالة واستعملوا الفقهاء لتبرير جورهم واشتروا ذممهم، وحرقوا كتب الفلسفة وأسكتوا صوت العلم، فمنعهم التعصب الملي من رؤية الحكمة والانتفاع بنورها، فأفل نجم حضارتهم وأصبح الصراع والعنف هو ديدنهم عوضا عن روح التعاون والتسامح والحب التي تعبر عن الأصول الحقيقية للدين بعامة والرسالة الخاتمة بخاصّة.

وانتحل قول هيجل "الوضوح في التخفي، والحقيقة في التقيّة، ومشارق الشمس في مغاربها".

ويلخّص أمين الريحاني هويته الثقافية في تلك الكلمات التي جَمَعَ فيها بين الشرق والغرب، الإسلام والمسيحية، الاشتراكية والليبرالية، القومية والعالمية، فيقول: "إني أشعر وأتيقن في بعض الأحايين أن شخصيتي مركبة من شخصيات متعدّدة متنافرة متناكفة. هى عنصريًا: سامية آريّة أي أشورية إيرانية يونانية عربية، وهى دينيًا: بعلية أدونيسية توحيدية مسيحية إسلامية صوفية، وهى أدبيًا: شرقية غربية شعرية فلسفية عملية علمية، وهى سياسيًا: أرستوقراطية (شرقية) وديموقراطية غربية: أرستوقراطية الإرادة ديموقراطية السلوك بسيطة مركبة معا، عالية سافلة تنشد الحرية والاستقلال للأمم في نطاق الإيمان الإنساني وفي ظلال الإخاء والسلام".

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصار

 

 

في المثقف اليوم